صفوة وحرافيش

صورة موضوعية
صورة موضوعية

لا أعرف بالضبط ما السبب الحقيقى الكامن وراء تذكرى مصطلح «الاستدامة الثقافية» عندما طُرح علىَّ سؤال: ماذا تبقى من جيل التسعينات؟! ربما تذكرت أن ذلك المصطلح ذُكِر لأول مرة عام 1995 حين اُعتبرت الاستدامة الثقافية قضية أساسية، حتى كشرط مسبق يجب تلبيته من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وما يزال الفهم النظرى والمفاهيمى للاستدامة الثقافية فى الأطر العامة للتنمية المستدامة غامضًا، وبالتالى، فإن دور الثقافة ضعيف التنفيذ فى كلتا السياستين، البيئية والاجتماعية. لذلك تكمن أهمية الاستدامة الثقافية فى قوتها المؤثرة على الناس، إذ أن القرارات التى تُتخذ فى سياق المجتمع تثقلها بشدة معتقدات ذلك المجتمع.

ومن تلك النقطة وجدتنى أشاهد تلك الاستدامة والاستمرارية التى مارسها جيل التسعينيات مع موجات متداخلة من أجيال سابقة له، ولاحقة عليه، فى تناغم دفعته اللحظة الراهنة بمشاكله المتعلقة بالواقع السياسى والثقافى والاجتماعى، حيث وجد حلوله الخاصة للمقاومة والاستمرارية ولإدارة حروبه منفردا بأدواته ولغته الخاصة التى تعبر عنه. من هنا أتذكر صدور العدد الأول من مجلة «الكتابة الأخرى»، فى مايو 1991، التى صنعت حراكا ثقافيا، واتخذت «الكتابة الأخرى» من مقال أحمد عبد المعطى حجازى الافتتاحى فى مجلة «إبداع» الذى يصنف المبدعين إلى «صفوة» و» «حرافيش» سببا لإصدار بيانها الأول، ورفض مصطلح الصفوة، وتوالت أعدادها وهى تفسح المساحة للنشر لكثير من شعراء الجيل وكتَّابه، بل لأساتذته أيضا من أجيال سابقة مثل د. عبد المنعم تليمة على سبيل المثال، وضم العدد الأول شعراء مثل محمود قرنى وصبرى السيد وغيرهم، وتوالت الأعداد وتطورت وأتاحت الفرصة للكثير من الأصوات الجديدة والفريدة، وكان رئيس تحريرها هشام قشطة.

ومن الصعب ألا أتذكر تيارا آخر تصدَّر حركة تلك الاستدامة وهو «الجراد»، حيث بدأ الشاعر أحمد طه الذى ينتمى لجيل أسبق فى نشر قصائده النثرية منذ عام 1990، كما شجَّع تلك المجموعة التسعينية المتمردة، وأطلق اسم «الجراد» على شعرائها، ومنهم أحمد يمانى وهدى حسين وياسر عبد اللطيف وزملائهم، كما وفر الدعم لتك المطبوعة التى حملت نفس الاسم. 

وكحال أى تيار شعرى جديد تمرد على سابقيه بما يُناسب معطيات عالمه وعصره، عبرَّت تلك المجموعة عن واقعيتها الذاتية النابعة من اليومى والحميمى ومن التفاصيل الصغيرة. ولا بد من الإشارة إلى ظهور العديد من الإصدارات الخاصة التى توقفت سريعا لتعثرها المادى مثل «الكتابة السوداء»، و»الأربعيون»، و»الفعل الشعرى».

لا أنكر أن مشروع جيل التسعينيات الشعرى قد ترك ميراثا شعريا ثريا مدعوما بأصوات قوية وغنية ومختلفة، عبَّرت عن عصرها بلغة تناسبه وتجدد فيه، رغم صعوبات التلقى واتساع الهوة فى النشر، والاعتراف المتأخر بشعراء هذا الجيل لما أحدثوه من تمرد يناسب روعتهم الإبداعية ومنهم محمود خير الله، على منصور، زهرة يسرى، محمد متولى، إيمان مرسال، علاء خالد، مهاب نصر، أحمد يمانى، عاطف عبد العزيز، غادة نبيل، على منصور، وغيرهم، وإن كان عددم منهم قد بدأ فى النشر فى أواخر الثمانينيات فإن أفضل أعماله كانت فى التسعينيات وما بعدها، لذلك لا أتفق مع المقولات التى تخص الأجيال، وأُفضِّل كلمة التيارات والحركات الإبداعية. 

وعندما يُطرح سؤال هل ما زال لهذا الجيل تأثير؟ سأتوقف عند ما أسميه «المبادرات الشعرية»، مثل تجربة الشاعر عماد فؤاد فى عمل أول موقع لقصيدة النثر المصرية عام 2006، حيث فكَّر فى حل إحدى المشكلات التى تتحدى الشعر وجيله، وهى مشكلة توزيع وإصدار الكتاب فى ذلك الوقت، فكان لا بد من حل يكمن فى القيام بأرشفة النص الشعرى المصرى وإتاحته للقراء، وقد سعدت بنشر قصائدى فيه، وتعرفت من خلاله على الكثير من الأصوات الشعرية الجديدة، ولا بد من الإشارة كذلك إلى أنطولوجيا قصيدة النثر التى أعدها عماد، وهى تساهم فى تقديم نماذج دالة من تجارب هؤلاء الشعراء.

وهناك أيضاً مبادرة الشاعر عماد أبو صالح فى نشر دواوينه على نفقته الشخصية بعيدا عن أية مؤسسات، ورغم ذلك استطاعت قصائده الوصول إلى عدد كبير من القراء. وقد مررت شخصيا بتجربة النشر على نفقتى الخاصة، وذلك لطبيعة كتبى التى تهتم بتضافر الفن التشكيلى مع الشعر، واحتياجها لطباعة جيدة، كما كانت لى محاولة لتقديم قصيدة النثر بالتوازى مع الفنون المختلفة فى تجربة حملة «ادعم شعر» عام 2017، التى حاولت فيها التصدى لمشكلة تراجع دور الشعر وأهميته بالنسبة للمتلقى العادى.