حقوق التشكيليين المهدرة تنتظر تفعيل «الملكية الفكرية»

محمود بقشيش
محمود بقشيش

احترق قصر المسافر خانة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا ١٩٩٨. حينها لم تتوقف المأساة عند الحريق، بل تبعه سلسلة من الإجراءات المصاحبة لعملية ترميمه، ومن بينها نقل مراسم الفنانين التشكيليين بوكالة الغوري، المخصصة لهم منذ إنشائها في الستينيات. لم يكن ذلك بالأمر الهيِّن، وترتب عليه شكاوى واعتراضات جمة من قِبل الفنانين، قبل أن ينتقلوا على مضض – فيما بعد – إلى وكالة بازرعة.

 أثناء تلك الإجراءات والاعتراضات؛ توفى الفنان محمود بقشيش فى مارس 2001، فكانت فرصة لإخلاء المرسَم وغلقه لحين الانتهاء من أعمال الترميم، لكن الغلق تم دون تسليم أدواته ولوحاته لورثته، وعندما ذهبت زوجته الكاتبة هدى يونس لأخذها تم منعها وطُلِب منها الانتظار حتى ينتهى الترميم ويتم تشكيل لجنة جرد بحضور كافة الورثة المذكورين فى إعلام الوراثة.

استمرت الإجابة نفسها لمدة عشر سنوات، حتى فوجئت السيدة هدى ذات يوم بملفٍ كبير يحمل اسم بقشيش به صفحات بيضاء، دون أن يحوى صورًا أو أوراقًا أو لوحات أو أدوات تخص الفنان، ومن حينها بدأت رحلة بحث عن أغراض زوجها الراحل، لما يزيد على 13 عامًا، لكن دون جدوى، فمن قطاع الفنون التشكيلية إلى مجلس الوزراء إلى النيابة الإدارية؛ الرد هو أنه لم يُستدَل على من فتح المرسَم! 



تلك التفاصيل روتها هدى يونس، خلال الاحتفالية التى أقامتها جمعية محبى الفنون الجميلة مؤخرًا للناقد والفنان محمود بقشيش، برئاسة مقرر اللجنة الثقافية محمد نوار، وبمشاركة الشاعر ماجد يوسف والناقد أسامة عرابى والفنان سامى البلشي. وخلال النقاش تداعى إلى ذاكرتهم أن بعض لوحات بقشيش ظهرت فى السنوات الأخيرة وتم عرضها وبيعها، سواء من تلك التى كان يحويها المرسَم أو مما أرسلها الفنان بنفسه لصندوق التنمية الثقافية من أجل تزيين حوائط جمعية نقاد الفن التشكيلي، على أن تُرَد بعد سنوات لورثته الشرعيين «زوجته وابنته»، لكن ذلك لم يحدث وتم تسعيرها وبيعها، وعلى المتضرر أن يثبت أحقيته!

من هنا؛ فإن السؤال الذى انتهى إليه سرد الوقائع هو «كيف يمكن حفظ حقوق الفنان التشكيلي؟» فإذا كان الكاتب يحصل على رقم إيداع بمجرد نشر أعماله ويكون لورثته كامل الحق على مؤلفاته فيما بعد، كيف يمكن للفنان أن يحفظ حقه وحق ذويه من بعده فى أعماله؟ فهى وإن كانت تحمل اسمه؛ لا يمكن استردادها إن تعرضت للسطو، وليس بأدّل على ذلك من لوحات الفنانين المصريين التى تُعرَض باستمرار فى مزادات حول العالم وتُباع بملايين دون أن نملك حيلة لاستردادها أو إثبات أحقيتنا فيها.

يُرجِع الفنان محمد عبلة ذلك إلى أن النشر والتأليف الأدبى على المستوى التجارى أكثر قِدمًا من الفن التشكيلي، مضيفًا: «الفن التشكيلى نما وترعرع كقيم سوقية تجارية فى الغرب، وقت أن كان لديهم بقايا قيم احترام الحقوق، ولذلك لم تتجلَ إشكاليات كبرى إلا بعد ظهور المزادات والأسعار المبالغ فيها للوحات. لكن أزمتنا؛ أننا فى مصر – للأسف – لا نملك أى تشريعات تحمينا، نتبع فقط الأعراف، بينما نجد أنه فى أوروبا مثلًا؛ إذا بيعت لوحة فإن المشترى ليس له إلا حق امتلاكها فقط، أما الطبع أو الاستغلال بأى شكل فلا يكون إلا بالرجوع للفنان. ما يحدث هنا أننى قد أجد لوحاتى على أغلفة كتب دون أن يسألنى أحد أو يعطينى خبرًا».

يرى محمد عبلة أن الوضع يتطلب – أولًا – قوانين وتشريعات يشارك الفنانون مع النقابة والجمعيات الأهلية فى صياغتها لحماية الملكية الفكرية، وثانيًا أن يكون لدى الفنانين وعى أثناء حياتهم بكيفية الحفاظ على أعمالهم، لأن الورثة فى الأغلب لا يكون لديهم ذلك الوعي، يوضح: «الأعمال الفنية حاليًا صارت غالية الثمن، وحين يرحل الفنانون تزيد أسعار لوحاتهم بالتبعية وتكون مطمعًا للسرقة والتزوير، لذلك يجب تقنين الأمور. أحيانًا يأتينى شخص اشترى لوحة لى من مكان ما بـ 200 جنيه قبل سنوات طويلة ويطلب منى شهادة بأنها أصلية ليبيعها بـ 200 ألف جنيه، تلك الشهادة تنقلها من فئة إلى أخرى، لذا أرفض، وعلى الفنانين – كذلك – عدم التنازل، خاصة وأننا نواجه مصاعب أخرى تتعلق بسرقة الأعمال، وتلك جرائم سطو لا علاقة لها بالفن، لا نصل فيها لحلول بسبب عدم وجود قوانين مفعَّلة».



فيما يخص القوانين؛ يشير الفنان الدكتور حمدى أبو المعاطي، نقيب التشكيليين السابق، إلى أن مجلس الوزراء كان قد أعلن عقب ثورة يناير 2011 عن إنشاء الجهاز القومى لحقوق الملكية الفكرية، وصدر به قرار، وهو غير مختص فقط بالمبدعين فى مجالات الفنون والأدب والسينما، وإنما أيضا فى العلوم والزراعة والتجارة وغيرها من المجالات والحِرف، لكنه حتى الآن لم يتم تنفيذه رغم أن الدستور نصّ على حقوق الملكية الفكرية فى بنوده، ينقصه فقط التفعيل.

وعن الحل البديل إلى أن يحدث جديد؛ يقول أبو المعاطي: «حين توليتُ النقابة قبل سنوات، أعلنتُ عن استمارة لتوثيق وتوصيف الأعمال الفنية، يحصل بموجبها الفنان على شهادة مختومة ومدغمة بعلامة مائية من قطاع الفنون التشكيلية ووزارة الثقافة بأن عمله أصلى ومن إنتاجه الشخصي، متضمنة مواصفاته وصورته، سواء كان تصويرا أو جرافيك أو نحتا أو خزفا أو أيًا كان، مقابل رسوم زهيدة حسب قيمة العمل الفني. تلك الشهادة تحميه فى حالة سرقة عمله، وتكون سندًا قانونيًا يمكنه الاعتماد عليه إذا قرر رفع قضية، كما أنها تسهِّل عليه إجراءات السفر للمشاركة فى معارض خارجية دون أن توقفه الجمارك للتحقق من أثرية اللوحة».

لكن هذا الحل يبدو أنه غير مفعَّل أيضًا، لأن الفنانين، كما يقول د. حمدي؛ لا يقبِلون على فعل ذلك، إما لعدم اهتمام أو دراية بضرورة الأمر، أو عدم رغبة فى توثيق المعلومات الخاصة بأسعار اللوحات، ولاعتمادهم على مبدأ الثقة فى تعاملهم مع «الجاليريهات» الخاصة. يستكمل: «حين أشارك فى المعرض العام أو مع أى مؤسسة رسمية أستلم إيصالًا بأعمالي، كنوع من الحفاظ على الملكية الفكرية، وهو ما ينبغى أن يفعله الفنانون فى تعاملهم مع الجهات الخاصة، حتى تكون الأمور واضحة أيضًا فى حالة البيع وتوزيع الحقوق المادية، أو كما يسميها القانون «الحقوق المجاورة» وهى مطبَّقة فى مجال السينما بالفعل، إن استطعنا تفعيلها فى مجال الفنون التشكيلية سنتمكن من الحصول على حقوقنا فى اللوحات المسروقة كذلك، لأن الحق المجاور لا يسقط معه حق الفنان الأصلى أو ورثته فى أى مرحلة. وإن ضربنا مثلًا بقاعة كريستى فى الخارج، سنجد أنهم حين يبيعون لوحة مقتناة؛ يحصلون على نسبة والمقتنى يحصل على باقى المبلغ، وتكون هناك نسبة للفنان الأصلى أو ورثته».

ومن أجل حفظ الحقوق أيضًا؛ يشدد حمدى أبو المعاطى على أهمية أن يوثق الفنان إهداءه لأى من لوحاته، حتى وإن كان بالكتابة على خلفيتها والإمضاء، كى يحفظ حق المهدى إليه ولا يُتهَم بالسرقة فى وقت لاحق، ويكون له حق التصرف فيها.