أبو الفتوح: رواية «صاحب العالم» بكائية ساخرة حول انتهاك خصوصية |حوار

الزميل سيد على مع أحمد صبرى أبوالفتوح
الزميل سيد على مع أحمد صبرى أبوالفتوح

«الحالمون من أمثالى قالوا إن تطبيقات التكنولوجيا تذيب الفوارق بين البشر، لكن العالمين ببواطن الأمور، أو الذين يحسنون التفكير بعمق، قالوا إن ما يجرى عبر تطبيقات يملكها بشر، وهؤلاء البشر يستطيعون بمجرد ضغطة زر على أيقونة أن يسمعوا ويروا كل ما يدور، وهذا بالضبط ما أريد أن أنبهك إليه، إن ما تظن أنه جنة التكنولوجيا هو في الحقيقة جحيمها»، وكلمات قالها الكاتب الروائي أحمد صبري أبو الفتوح في أحدث رواياته «صاحب العالم» على لسان بطلها عبد الحميد دهمش، وأعتقد أنها تحمل جوهر الرواية وخلاصتها، وصرخة التحذير المدوية التي أطلقها محذراً من التعامل باطمئنان مع وسائل التكنولوجيا فتجد من يباغتك، فإذا أنت مفضوح على الملأ.

استطاع الكاتب الروائى أحمد صبرى أبو الفتوح أن يتخذ القرار الصعب، أن يضحي بمنصبه الرفيع في السلك القضائي من أجل التفرغ للدفاع عن الفقراء والمهمشين من خلال مهنة المحاماة والكتابة لتحقيق حلمه في مشروعه الأدبى وتسليط الضوء على قضايا العدالة الاجتماعية، من أعماله الروائية «طائر الشوك»، و«أجندة سيد الأهل»، و«جمهورية الأرضين»، و«تاريخ آخر للحزن»، وتأتى على قمة ابداعاته «ملحمة السراسوة» التي حصدت جائزة مؤسسة ساويرس عام 2010.

 

أما روايته الأحدث «صاحب العالم»، الصادرة عن دار الشروق، فهي بكائية روائية ساخرة، وصرخة تحذير من خطورة التطور التكنولوجي الرهيب، وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي وسطوتها الشديدة، من هنا التقيت صاحب «صاحب العالم»، وسألته: 

إلى أى مدى ترى تأثير عملك السابق فى القضاء ثم فى المحاماة حالياً فى عالمك الإبداعى؟
بالطبع أرى أن لعملى سواء فى القضاء أو بعد ذلك فى المحاماة أثراً كبيراً فى تكوين عالمى الروائى، فكل التجارب التى مررت وأمر بها سواء من حيث نوعية الصراع الذي يدور في الواقع أو في نفسية المتهم وطبيعة الجرائم التي تُرتكب وأسباب وقوعها وتأثيرها على نفس المتهم وعلى المجني عليه وعلى الآخرين، وحتى على المحيط الاجتماعى، كل هذا يثرى عالمي الذي أنهل منه، فالكاتب الروائي لا يستطيع أن يكتب أعمالاً حقيقية دون أن يكون لديه عالم روائي ينهل منه، في هذا العالم تُختزن التجارب والأشخاص والصراعات والخبرات وغيرها، وعندما يكتب تنفسح الذاكرة عن ذلك العالم الذي يعرفه فيسهل الاستشهاد بمفرداته، وهذا ما أقصده بقولي إن تأثير عملى له تأثير كبير فيما أكتب.

«صاحب العالم» عنوان مثير ومحير لروايتك الأحدث، كيف جاءت الفكرة وما كواليس كتابتها؟
إن لحظة ولادة فكرة الرواية لحظة عبقرية فى بساطتها، فقد تولد فكرة الرواية لمجرد أن يلفت نظرك شخص ما، فإذا فكرت فيه تجده يتهيأ لك لتكتبه، أو تفكر فى صراع ما يكون مقروناً بشخص أو أشخاص بعينهم، هنا تولد الفكرة، وقد تقفز إلى سطح ذاكرتك حادثة بعينها، وتلهمك كتابة رواية، وأمور كثيرة لا مجال لذكرها هنا، فى «صاحب العالم» استلهمت الفكرة من إحدى القضايا التى كنت أترافع فيها، رجل رفيع المقام وقع فى حبائل مبتز استدرجه عبر واحدة من منصات التواصل الاجتماعى وسجل له فيديوهات خاصة جداً وراح يهدد بفضحه، مستغلاً عدم درايته بمدى سرية ما يجرى عبر هذه الوسائط، هذا المجنى عليه الذى يجرى ابتزازه كان على المعاش، أب وجد ومهدد بالفضيحة، ألهمتنى هذه الواقعة كتابة الرواية، ماذا لو أن الإبتزاز ليس من قبل شخص مجرم؟ ماذا لو أن هذا العالم له صاحب يطلع على كل نقائص البشر، مستغلاً حاجاتهم لأن ينعموا ولو فى الخيال بشىء من الحرية، فكان «عبد الحميد دهمش» وكانت أزمته مع نفسه ومع مجتمعه ومع صاحب العالم الذى يمتلك هذه الوسائط ويعرف كل ما يدور فيها، إنها بكائية روائية ساخرة على انتهاك خصوصية ومكنون سر الإنسان المعاصر.

تقول فى الرواية على لسان أحد أبطالها «العالم مراقب من قلة من الناس، مجلس إدارة وكبيرهم صاحب العالم»، كيف ومتى حدث ذلك؟
انتهاك الخصوصية والتنصت والتلصص هى آفة كل العصور، يناضل الإنسان من أجل صون خصوصيته ومكنون سره، وفى المقابل يطور منتهكو الخصوصية المتنصتون المتلصصون قوانين وقواعد وتكنولوجيات ليتمكنوا من الاطلاع على مكنون سر الإنسان المسُتهدف بذلك، إنه صراع أزلى، منذ وُجد الإنسان وُوجدت السلطة وانقسمت المجتمعات إلى طبقات ذات مصالح متعارضة تنشأ عنها صراعات حتمية، عنيفة مرة ومكتومة مرات، فى عصرنا الحالى امتلك هؤلاء فضلاً عن القوانين التى تكفل لهم السيادة فى هذا المضمار تكنولوجياتٍ خطيرة تجعل من الإنسان مكشوفاً أمامهم ولا يتمتع بأية خصوصية، هذه هى المعضلة، هو صراع قديم قدم الإنسان والسلطة، فهل سيقود الصراع إلى إيجاد آليات لإحداث التوازن بين سلطة التجسس وحقوق الخصوصية فى امتلاك الأدوات والتكنولوجيات التى تقاوم هذه الرغبة القاتلة فى التسلط وكشف مكنون أسرار الإنسان؟ ربما يحدث ذلك يوما، ولكن ما أعرفه هو أن العالم فى حاجة إلى إبداع عهد عالمى لحماية الخصوصية، من أجل الإنسان.

«رغم الحصار يمكن للمرء أن يمارس بعض ألعاب الحرية» كيف يمكن ذلك فى عصر صاحب السطوة والسيطرة، صاحب العالم؟
الخطر الحقيقي عندما يخضع الخيال لقواعد السطوة والسيطرة، وأظن أن الخيال يمكن أن يحافظ على التوازن ويمنع الانسحاق أمام صاحب السطوة والسيطرة الذى هو صاحب العالم، مهما خضع الجسد يظل لدى الخيال قدرة على الانطلاق، على التحليق، أذكر أننى وأنا مراهق كنت أغنى دائماً فى داخلى، ليل نهار، طالما أنا مستيقظ، أغنى بداخلى وأنا أسير وأنا أجلس وأنا آكل وأنا أتحدث حتى، وإن مات عزيز على جداً، كنت أسير فى أحد شوارع المدينة الصغيرة وأنا أبكى، ولكننى كنت فى نفس الوقت أغنى، لا حدود لقدرة الخيال على التحليق، إنها الحرية المطبوعة فى فطرتنا.

«كل عالم له كبير» حتى داخل السجن، يتحكم «كبير الليمان» فى المحيطين به من نزلاء، وأيضا قدمت صورة مفصلة عن الحياة داخل السجون، كيف لك ذلك، وهل ساعدك عملك السابق فى القضاء فى الوصول إلى التفاصيل الدقيقة والتعبير عنها بأسلوب رشيق؟
ربما لا يعرف القراء أن من مهامى كرئيس للنيابة الكلية التفتيش على السجون المركزية التى تقع فى دائرة عملى، وهذا التفتيش لا يقف عند حدود تأدية الواجب، بل إنك كرئيس للنيابة تزور السجن وتدخل أى مكان فيه وتستمع لشكاوى المسجونين وتزور عنابرهم وزنازينهم وحتى الوحدات الإنتاجية التى يعملون بها كورشة صناعة الأثاث وورشة صناعة الأحذية والمطبخ، وتزور المكتبة التى يرتادها بعض المسجونين وغيرها، لهذا أنا أعرف خريطة السجن الكبير كسجن المنصورة العمومى من حيت جغرافية المكان ومناطق الخطورة فيه والمبانى الإدارية وحتى زنازين التأديب، فى كل زيارة تفتيشية كنت أقضى يوماً مع المسجونين والإدارة فى هذا المكان، وكان المسجونون ينتظرون زيارتى الشهرية ويحملوننى شكاواهم سواء المتعلقة بحياتهم فى السجن أو المتعلقة بصعوبات حياتهم وتوقهم للعدالة أو للتسامح أو حتى للغفران، لقد ساعدنى عملى فى القضاء وأيضاً فى المحاماة على الكتابة عن الحياة داخل السجن بتفاصيلها الدقيقة ومساحة الحرية الضيقة جداً المتاحة، ويالها من حياة!

فى أحداث «صاحب العالم» ما المسافة بين الواقع والخيال، وكيف تداخلا؟
المسافة بين الواقع والخيال فى أحداث الرواية هى المسافة بين الشعور بالأمان والشعور بالخوف، فأنا لا أظن أن العالم خال من التداخل بين الشعورين، فلا أمان لا ينغصه الخوف، ولا خوف لا يلمع فى ظلامه بصيص الأمل، فى صاحب العالم كابوس حقيقى هو الصراع بين سلطة الفضح ومملكة الأسرار التى تتقلص حتى لتكاد تُمحى، إنهما على الدوام متداخلان، الواقع والخيال، القهر والحلم بالانعتاق.

الهروب والخروج من عالم «صاحب العالم» هو الحل الذى تطرحه النهاية، كيف يتحقق؟
فلتسمح لى أن أهنئك على صياغة هذا السؤال، غيرك ممن حاورونى تساءلوا إن كان الانعزال عن العالم هو الحل، واختلفت معهم، هنا منطق السؤال فيه توفيق كبير، كيف سنفر أو نخرج من العالم الخانق الذى يسيطر عليه صاحب العالم ويعلم كافة أسرار الناس فيه، الرواية فى الحقيقة لم تجب على السؤال عن كيفية الهرب أو الخروج، الرواية تمنطقت بالحب والإخلاص والصداقة والتفانى كقيمٍ عليا تساعد على التفكير فى كيفية الخلاص، إنها هدنة نلجأ فيها إلى أحضان أحبائنا لنفكر فى سكينة كيف سنفلت من هذا الحصار، وبما أنه فى العالم الحقيقى لم يتحقق هذا فإن الرواية أيضاً انفتحت نهايتها على هذا التصور، ليتنى أعرف كيف سيكون ذلك، بل ليت العالم يعرف!

كيف يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعى فى الإبداع وهل أنت مع أم ضد إشراكه فى العملية الإبداعية؟
هذا الطرح هو أحد أوجه محنة الكتابة السردية بشكل عام والرواية على نحو خاص، الوجه الظاهر الآن هو استخدام الشبكة العنكبوتية للترويج للإنتاج الأدبى لأرباع المواهب أو حتى معدميها، بدعوى موت السرديات الكبرى والتداعى الحر على غير معناه، والتشظى والتشتت والتشيؤ ونبذ الحكاية والحبكة وغيرها من الأمور الغريبة التى فرغت الرواية من مضامينها الإبداعية الساحرة، ويتم هذا عن طريق تشكيل جروبات واستكتاب أقلام والإلحاح على أشخاص بعينهم وأعمالٍ بعينها ومن ثم الانتقام من المواهب الإبداعية الحقيقية لا لشىء إلا لأنها تملك الموهبة التى تنقصهم، وقد أدى هذا إلى العبث فى كل شىء أخطرها الجوائز التى تمنح لأنواع من الكتابة ليست من الأدب الكبير بمفهومه الإبداعى وسحر الفن، ولذلك فإنه بعد الفوز بالجائزة تذهب الكثير من الأعمال الفائزة إلى النسيان، إن كان هذا هو أحد أوجه المحنة التى تواجهها الكتابة الإبداعية الحقيقية فما البال إذا كانت الكتابة كلها منشأة بمعرفة آلة لا تشعر ولا تمتلك ذاكرة عن أحداثٍ حقيقية، وهذا إن حدث وتم اعتماده - وأنا لا أستبعد هذا - سيقول المروجون له ولم لا؟ ليكن أحد أوجه الكتابة وربما من باب إدعاء الشفافية إلزام صانع هذا المحتوى بالإشارة إلى أنه تمت كتابته بمساعدة ما يسمونه بالذكاء الاصطناعى، وإن كنت أتمنى ألا يمتد بى العمر لأعيش هذا اليوم، بالقطع ودون مواربة أنا ضد هذا وأرى أنه سيكون التتويج لمحنة الكتابة الروائية أو السردية بوجه عام.

بعيداً عن «صاحب العالم» فى أكثر من مناسبة تحدثت عن تقديرك الكبير لنجيب محفوظ إلى أى مدى تأثرت بعالمه الروائى؟
نجيب محفوظ أستاذى، وفضلاً عن هذا هو الرائد الذى اختصر الزمن وطوى الطريق ليلحق الإبداع المصرى والعربى فى عالم السرد بالمستوى العالمى ومدارسه المختلفة، كاتب كان جسراً بين أشكالنا الإبداعية القديمة كالمقامات والروايات الممُصرة وبين التطور الذى حدث للسرد فى أوروبا، وحتى فى آسيا كاليابان والصين مثلاً، وعندما صعد محفوظ إلى السماء كنا على نفس المستوى الإبداعى مع هؤلاء، أنا تأثرت بطريقته فى الكتابة، وكذلك فى إخلاصه لها، وفى دأبه وطريقته الفذة فى الالتزام والتسامح والذكاء الهادئ بغير صخب، وأحزن جداً عندما يتجرأ البعض على مقام الرجل، فالطبيعى أن تتجاوز الكتابة التى تلت محفوظ كتابته، هذا هو منطق التطور والتقدم، ولكن ريادة محفوظ وأستاذيته ليست محلاً للاجتهاد أو الاختلاف حولها.

يبدو انحيازك لطبقاتٍ بعينها فى المجتمع، فهل هذا تحقيق لفكرة «المثقف الملتزم»؟
لا أعرف إن كنت تقصد بتعبير طبقات بعينها الفقراء أم الطبقة المتوسطة المصرية، أم هما معا، على كل أنا لا أنكر هويتى السياسية كما لا يخفى على أحد هويتى الاجتماعية، أنا أؤمن بالإشتراكية، وكذلك أؤمن بالحرية، وأرى أن الجدل بينهما هو صانع التقدم، وأن الجور على الفقراء جريمة اجتماعية وسياسية يجب مقاومتها، كما وأن العسف بحريات الناس جريمة لا تُغتفر ويجب مقاومتها، ولكننى فى النهاية لا أكتب على طريقة مكسيم جوركى وغيره من الكتاب الكبار الذين تأثرت كتابتهم بالأيديولوجيا، وما أكتبه ليس مانيفستو، الذى أكتبه هو من طين وواقع وطننا وشعبنا، ولم يقم أبداً فى يقينى ولا فى خلفية موقفى من الكتابة فكرة المثقف الملتزم، وإن كان التزامى ككاتب هو بالصدق الفنى والحرية وليس أى شىء آخر.

قلت فى أحد لقاءاتك الصحفية إن «الكتابة الجيدة لا بد أن تحافظ على قدر من الرومانسية»، كيف تُحقق ذلك فى كتاباتك؟
أظن أننى قلت هذا لما تحدثت عن التكالب على كتابة الرواية، فالجميع يريدون أن يكتبوا رواية، وضربت مثلاً باستفادة الرواية من إسهام الشعراء فى كتابة الرواية، وقلت إنهم أضافوا إليها لمحة رومانسية كانت الواقعية بمختلف أوجهها فى أمس الحاجة إليها، ليتحقق بتلك اللمسة الشاعرية الرومانسية سحر الفن، وهذا صحيح من وجهة نظرى، فالواقعية بكافة أطيافها حتى الواقعية الجديدة فى حاجة إلى هذه اللمحة، وأنا أجتهد لأحققها فى صورة قصة حب جميلة أو حتى حكاية حزينة آسرة، المهم هو أن يرتقى الكاتب مع العواطف القوية وهو  يقرأ فى صميم الواقع، وليتنى أكون قد وفُقت فى ذلك.