رحيل تشيخوف زمننا

أليس مونرو
أليس مونرو

إعداد: بسمة ناجى

صباح الثلاثاء، 14 مايو، نشرت العديد من الصحف الأجنبية الخبر الحزين: ماتت أليس مونرو، عن عمر 92 عامًا بعد معاناة مع الزهايمر لمدة عشر سنوات.

أليس هي أيقونة الأدب الكندي، الحائزة على جائزة نوبل عام 2013، وإحدى أساتذة فن القصة القصيرة المعدودين في العالم.

في أدبها، رصدت «تشيخوف الكندية» والكاتبة المُلهمة لأجيال متعاقبة من الكُتاب والقراء، تفاصيل الحياة اليومية من خلال عدسة القصة لنحو ستين عامًا، وارتكزت أعمالها، التي تأرجحت على الحافة بين القصة القصيرة والنوفيللا، على أشكال وموضوعات تجاهلتها التيارات الأدبية السائدة.

وبأسلوبٍ دقيق، لا يقوض إيجازه تعقيد الشخصيات وغموضها، تستخدم مونرو الدراما دون أن تكون درامية، وتوظف مشاهد الموت أو الخيانة أو الجنس والرغبات والعُتمة الداخلية لشخصياتها كناقلات لتحريك القصة، وخلق التوتر الذي يطور الحبكة، ما جعلها تُثري فهم قرائها للأدب وتُبرِز الإمكانيات الهائلة لفن القصة القصيرة.

عوالم مونرو
تمتد عوالم مونرو لأجيال من شخصيات عادية في ظروف عادية تخوض مواجهات مع الطبقة المتوسطة في الغالب، وينصب تركيزها على النساء. عند قراءة أعمالها من منظور نِسوي، نرى مونرو نِسوية بحسب ما يسمح به الظرف الخاص جدًا والشخصي لكل امرأة من شخصياتها، والعام والشائع في حيوات النساء في الوقت ذاته. وهي واعية تمامًا بوضعها ومكانها من العالم كامرأة.

تقول في مقابلة لها نشرت في باريس ريفيو:»كانت الضغوط من أجل الزواج كبيرة، حتى شعرتُ أنه حجر لابد أن أزيحه من طريقي ثم أمضي: سأفعل ذلك كي لا يزعجوني بسيرته، بعدها سأصير شخصًا حقيقيًا وتبدأ حياتي». 

لم تنل أعمال مونرو شهرة واسعة إلا في وقتٍ متأخر، حين حصدت قصصها البسيطة عن أشخاص عاديين يعيشون في بلدةٍ كندية صغيرة العديد من الجوائز الدولية، تُوجت بجائزة نوبل، وتوسعت شهرتها إلى ما هو أبعد من العالم الناطق بالإنجليزية. قد لا تجذب كتابة مونرو من ليس لديهم اهتمام حقيقي بالقصص القصيرة، ممن يرون الرواية أكثر طموحًا، ويجدون فيها مساحة آمنة للغوص في عالمٍ كامل، حيث التجسيد الواضح والثابت للزمان والمكان والشخصيات المضفورة معًا، لتترك بصمات قوية في مخيلة القارئ.

ولدت مونرو عام 1931 لعائلة من رعاة الثعالب ومربي الدواجن تعيش خارج وينجهام، أونتاريو، وبدأت الكتابة في سن المراهقة، ثم التحقت بالجامعة لدراسة اللغة الإنجليزية والصحافة في جامعة ويسترن أونتاريو بمنحة دراسية لمدة عامين، ونشرت قصتها الأولى «أبعاد الظل» عام 1950، قبل أن تنتقل إلى فانكوفر مع زوجها الأول، جيمس مونرو، في عام 1951، ومنها إلى فيكتوريا، حيث افتتحا مكتبة مونرو، ولا تزال تعمل حتى الآن.

ربة منزل تكتب
اعتادت مونرو وصف نفسها بأنها ربة منزل خلال تلك المرحلة، وبدأت الكتابة في أثناء فترات نوم بناتها، مع الحرص على جعل النصوص قصيرة قدر الإمكان لصعوبة التركيز والعمل لفترات طويلة مع وجودهن الصاخب كأطفال. إلا أن قصص مونرو مثَّلت علامة حياة لفن القصة القصيرة خلال فترة السبعينيات، لحيويتها ورصدها الدقيق للتفاصيل اليومية من حياة المزارعين وسكان البلدة الصغيرة، وطرحها للأسئلة أكثر من تقديمها لإجابات جاهزة مُعلبة.

نالت المجموعة القصصية الأولى لمونرو، «رقصة الظلال السعيدة»، استحسانًا كبيرا، وحازت جائزة الحاكم العام (1968)، وهي أعلى جائزة أدبية في كندا. أعقب هذا النجاح محاولة مونرو كتابة الرواية، فوجدت نفسها تعاني لأنها، كما اعترفت لاحقًا، «لم تكن نابضة بحياة. لم تظهر فيها تلك المفارقة الصادمة. شيء ما فيها كان مترهلًا». قسمت روايتها إلى مجموعة من القصص المرتبطة، «حياة الصبايا والنساء»، والتي نُشرت في عام 1971 وقدمت «صورة للفنانة في شبابها» متتبعة الراوية ديل وهي تبدأ الكتابة في بلدة صغيرة بأونتاريو. كانت المجموعة بمثابة مانيفيستو لعمل مونرو: تتخلى ديل عن الرواية القوطية التي كانت تعمل عليها وتتحول إلى الحياة «المملة، والبسيطة، والمذهلة، التي لا يمكن فهمها» من حولها في بلدة جوبيلي، واصفة «كل شيء أخير، كل طبقة من طبقات الكلام والفكر، ضربة ضوء على لحاءٍ أو جدران، كل رائحة، حفرة، ألم، صدع، وهم، - كلها راسخة ومتماسكة، مُشعة وأبدية.»

كانت السبعينيات عِقد التحول بالنسبة لمونرو: عادت إلى وينجهام بعد انهيار زواجها الأول في عام 1973، وتزوجت مرة أخرى في عام 1976، ونشرت قصتها الأولى في مجلة نيويوركر في عام 1977 «صفعات ملكية»، وهي قصة مبنية على العقوبات التي تلقتها من والدها في طفولتها. واصلت النشر في مجلات كبرى مثل باريس ريفيو وأتلانتيك.
ورغم المحاولات المتكررة، لم تصل لكتابة رواية أبدًا. قالت في أحد الحوارات: «مع كل كِتاب، أقول لنفسي، حان وقت العمل الجاد... ثم يفشل الأمر».

مؤرخة للحسية
ولع مونرو بالأصالة في أعمالها حوّلها إلى مؤرخة لا تضاهى للجنس والحب والخداع والرغبة. بحسب مارجريت أتوود «قلة مِن الكتاب مَن استطاعوا استكشاف مثل هذه الأمور بشكل أكثر شمولاً، وأشد قسوة من مونرو: الأيادي والكراسي والنظرات- كلها جزء من خريطة داخلية معقدة تحكمها الأسلاك الشائكة والأفخاخ المتفجرة، والمسارات السرية».

واصلت شهرة مونرو الصعود مع اتساع نطاق قصصها وتعقيدها. وصلت مجموعتها «من تظن نفسك؟» إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر عام 1980 بعنوانها البديل «المتسولة»، وتبعتها جائزة جيلر مرتين، مرة في عام 1998 عن «حب امرأة طيبة» ومرة أخرى في عام 2004 عن «الهروب»، حصلت على جائزة مان بوكر الدولية عام 2009 عن مُجمل أعمالها.

بعد خضوعها لجراحة قلب مفتوح في عام 2001، صارت كتابات مونرو تدور بشكل وثيق حول المرض والذاكرة. في عام 2008، نشرت قصة «شوارد حُرة» في مجلة نيويوركر، عن شخصية شُخِصَت إصابتها بالسرطان، أعقبها إعلان أنها مصابة بالسرطان. صدرت مجموعتها القصصية الأخيرة، بعنوان «حياتي الغالية» في عام 2012، وتضمنت أربع نصوص من السيرة الذاتية، وصفتها مونرو بأنها “الأشياء الأولى والأخيرة–والأقرب– التي يجب أن أقولها عن حياتي الخاصة».

وفي حديثها للجارديان في عام 2013، ذكرت مونرو بوضوح أنها كانت تكتب قصصًا شخصية طوال حياتها، وأضافت:»آمل أن تكون تجربة قراءة جيدة. أتمنى أن تلمس القراء. كقارئة، عندما أحب قصة فذلك لأنها تفعل شيئًا ما... كضربة على الصدر».

بجانب الحزن العام، ثمة شعور بالامتنان، امتنان حقيقي، يعطي التأسي للموت بعدًا أعمق. كانت مونرو تغيّر بكتابتها شيئًا ما في العمق منا، وتأخذنا بخطوة أو خطوات في اتجاهين، للداخل نحو ذواتنا وللخارج نحو العالم. مع الحزن نشعر بالامتنان لها ونحن نودعها وداعًا أخيرًا.