حكاية جدار: نص متخم بالبوح!

حكاية جدار
حكاية جدار

د. منير الحايك

يقول ناصر أبو سرور فى روايته «حكاية جدار» (دار الآداب 2022): «لا تضرِبْ جذورَك عميقًا فى أيّ دُنيا تسكنها، هكذا توفِّر على نفسك أوجاع وآلام اقتلاعك منها، متى حان اقتلاعك عش على سطح هذه الحياة، فلا تعمّقْ فى تعظيمك أشياءك فأنتَ كلّ شيء عداها إن تعالت فيك أنت». ناصر الأسير منذ العام 1993، يقدّم لنا نصًّا غزيرًا بالبَوح والفِكر والفلسفة الخاصّة الـمُحصَّلة خلال عشرات السنوات ومجاورة جدران لا عدّ لها.

توهمنا الرواية بأنّ الجدار حقًّا سيكون الشخصية الأبرز، ويقدّم أبو سرور لنصّه ليؤكّد هذا الأمر، ويعدنا بقراءة «وعِرة»، لنبدأ نصًّا جمع فنونًا عدة يصنّفها النقّاد للأدب، ولكنّك تقرّر ملاحقة أفكار الكاتب لتتبيّن السردية وبناها ومسببات تلك البُنى، ولكنك لا تستطيع، فالنصّ مُتخَم بالبَوح.

قد يقول أحدهم إنه ليس نصًّا روائيًّا، وخصوصًا فى جزئه الأول، الذى احتلّ ثلثَى صفحات النص، وقد يبرّر آخر بأن لا بأس فقد يحقّ للأسير ما لا يحقّ لغيره، ولكن التعاطف غير مقبول برأيي، طالما أنّ ما بين أيدينا كتابٌ صنّفه كاتبه وناشره بأنّه نصّ روائي، فلا بدّ من التعامل معه بمعزل عن ظروف كاتبه. فهل كانت روايةً حقًّا.

يبدأ النصّ ببَوح للأسير وبعلاقته بالجدار، وببعض الأفكار قد يمرّرها الكاتب بوصفها أفكارًا للجدار، ولعلّه يعطى كل جدران المعتقلات التى تنقّل بينها، وكل جدران زنزاناتها صفة جدار واحد، وهنا تكمن الرمزية بشكل جميل وعميق، فالأسير المحكوم بالمؤبّد والأمل، تصبح كلّ الجدران التى يلتقيها ويستند إليها، بكلّ ما للاستناد من تفاصيل حقيقية ومجازية، جدارًا واحدًا، وهنا يأتى التكثيف فى المعنى والرمزية ويكون قويًّا وعميقًا.

ننتظر سردًا وشخصيات وعلاقات وحركة سردية داخل الزمان والمكان أو خارجهما، ولكننا لا نحصل على ذلك، على الرغم من أنّ النص يقدّم معلومات عن واقع الأسرى، وعن عمليات التبادل، وعن واقع السجون والفروقات فيما بينها، وعن حالات الانتظار والترقّب التى تتملّك الأسير وما يرافقها من آمال وأحلام وخيبات وآلام، ولكن كلّ ذلك جاء من ضمن حالة مسيطرة على النصّ، هى حالة الشخصية، ناصر، فصلناها أم لم نفصلها عن ناصر أبو سرور الكاتب، حالة البَوح وضخّ الأفكار والفلسفات الخاصة والأسئلة والآراء، والحِكَم التى كثُرت أيضًا حتى يملّها المتلقّى فلا تعود تؤدّى دورًا يتوخّاه الكاتب الروائيّ عادةً.

قد نجد أنفسنا نردّ الجزء الأول من الرواية إلى أسلوب تيار الوعى والتداعى الحرّ، لا بأس بذلك، ولكن هذا التداعى الحرّ لم يحمل معه سرديّة مطلوبة بالقَدر الذى حمله من خواطر ونصوص شعرية، قالها الكاتب صراحة بوصفها قصائد، أو من خلال النثر الذى كان مثقَلًا بالشعرية من دون قصد، فيكون جزء الرواية الأول، على الرغم من كلّ الجماليات اللغوية والمجازية والفكرية العميقة التى قدّمها، مفتقرًا إلى أدنى متطلبات النصّ الروائي، ولو لم يطُل قبل أن يبدأ الجزء الثانى وهو الجزء الأقوى فى النصّ، لما كان هذا رأيي.

الجزء الثانى يبدأ مع ننّا، المحامية التى تدخل على خطّ علاقات ناصر الأسير، فعلاقته بالجدار عرفناها، وعلاقته بمزيونة والدته، عرفناها وإن بشكل سريع، ولكن تأتى ننّا لتعطى النصّ نكهة أخرى، نكهة هى المطلوبة، فنجد أنفسنا أمام رواية عن الأسر، عن الألم والحبّ والأمل، عن الخيبات والصراعات النفسية والوجدانية، تكاد تكون من أعمق ما تقرأ.

ننّا الحالمة التى أحبّت أسيرًا، والأسير الذى أحبّ امرأة حرّة، تنشأ بينهما علاقة لا تبدو مستحيلة، فما يقدّمه إلينا النصّ من خلال حواراتهما عند زياراتها، ومن خلال رسائل ننّا، ومن خلال من يتخيّله ناصر من حوارات، كلها تجتمع لتقنعنا بأنّ الحلم مسموح ومقبول ولا بدّ من أن يتحقّق، فيرافق السرد متعةَ القراءة، على الرغم من أنها مجبولة بالألم والحزن والتعاطف والأسى، وهنا تأتى علاقة الجدار بناصر لتظهر بقوّة، وتُظهر العلاقة التى توخّاها الكاتب من عنوان روايته.

فالجدار يخبر رفيقه، بعد صمتٍ طويل، إنه يخاف عليه، وإنه يخاف الألم الذى سيرافقه، ويريده أن يهدِّئ من ثورة أحلامه، الأمر الذى يحدث بالفعل بعد انسحاب ننّا، لتردّنا الرواية إلى الواقعية المؤلمة فى السردية الفلسطينية، الواقعية التي، مهما حلم ابنها بغدٍ أفضل، تعيده إلى المرارة و«الأسر» وموت الأحلام.

رواية مؤلمة، على الرغم من بعض الأمل الذى يحكمها عندما نقرأ الشعر، وهنا يكون مبرّرًا وجميلًا، الذى يكتبه ناصر لننّا، وعندما نقرأ أحلام تلك الفتاة وصمودها ودعمها لحبيبها، وعندما ينتقل إلينا الأمل. حتى عندما تنتهى قصّة الحبّ بالفراق، ويشدّد النصّ فى نهايته على جملة «أنتَ لا تكفينى (قالت ننّا)»، وهى جملة لم تقلها ننّا بالفعل، ويكرّرها مرّات عدّة مع كلّ تذكير للمتلقّى عن ماهية الأسير فى سجنه، لتنتهى الرواية بالفقدان، ولكن، ألَـمْ تنتهِ الكثير من قصص الحبّ بالهجر والفقدان، لأسباب كثيرة لا ترتبط بالأسير وسردية الفلسطيني، فتأتى النهاية عادية، لقصة حبّ نتوهّم بأنها عادية، وهنا مكمن القوة الأساسيّ للنصّ.

هى رواية عن الأسر، عن المعاناة، عن الجدران، هى جدران حقيقية ارتبطت بها حياة ناصر أبو سرور، ولكنها جدراننا جميعًا، فلكلّ منّا جداره، الذى يأسره أحيانًا، ويسنده ويسانده فى أحيان أخرى، ويضمّه ويدفئه إن هو لجأ إليه، وقد يسقط عليه بحسب تعدد الأسباب وتشابكها، حكاية الجدار هذه، هى حكاياتنا جميعنا.