جرح على جبين الرحالة ليوناردو: بصمة العابر

جرح على جبين الرحالة ليوناردو
جرح على جبين الرحالة ليوناردو

ممدوح رزق

كيف يمكن للجرح الجسدى أن يكون ملاذًا روحيًا غير مشروط بتمثله الظاهري، طارئًا كان أم مقيمًا؟ متى يكون هذا الجرح كاشفًا عن «الجرح الرئيسي» أو «مرض الولادة» الذى لا شفاء منه بتعبير سيوران؟ ما الذى يجعل هذا الجرح تلصصًا على قهر الحياة والموت، لا بوصفه اعتداءً حسيًا، وإنما باعتباره إشارة دامغة لذلك الانفصال الغامض بين الذات وملكوتها من قبل أن توجد كقرينة للعدم؟

«لم تستطع أن تتحدث إلى جراحك السابقة، لأنك لم تشعر بها قط، لكن ما إن شعرت بى حتى رحت أتحدث إليك؛ إن معظم الجرحى لا يستطيعون التحدث إلى جراحهم، لأنهم لا يشعرون بها، لكننى عادة ما أتحدث إلى أولئك الذين لديهم ذات إحساسك».

تتمعن رواية «جرح على جبين الرحالة ليوناردو» للكاتب ثائر الناشف والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون فى هذا التوحد بين الذات والجرح، ليس كشيئين متباعدين يندمجان فى كيان واحد، وإنما كشيء عثر على اللحظة الملائمة لكى ينتبه إلى تكوينه غير المنشطر بين «ذات» و»جرح». وكأن هذه اللحظة ـ بكل ما تنطوى عليه من ألم ـ بمثابة اهتداء إلى ملجأ باطني، تطارد «الذات» عبر أغواره المعتمة تلك المشيئة المجهولة التى حفرتها فى العالم كـ «جرح».

> > >
أفكر فى العفوية التى ستدفع بها هذه الرواية قارئها لاستدعاء جراحه الجسدية السابقة، وتحديدًا الجرح الذى ترك أثرًا ما، وكيف يمكن لها ـ أى الرواية ـ أن تحرّض هذا القارئ على تفحص الماضى بواسطة ذلك الجرح، كأنه صيرورة، لا ذكرى قديمة فحسب. أفكر بالضرورة فى المقارنة التلقائية التى سيعقدها كاتب آخر بين جروحه التى كتب عنها من قبل وهذه الرواية.
     
ثمة جرح فى ظهر يدى اليمنى منذ الطفولة، هو الوحيد الذى ترك أثرًا مرئيًا من بين الجروح كلها التى طالت جسدي. كتبت عن هذا الجرح نص «للبالغين فقط»، وفى روايتى «إثر حادث أليم» سردت ذكرى الواقعة التى نتج عنها، وكانت تتعلق بزميلة لى فى الفصل الابتدائي:

(تسبب الطرف المعدنى الحاد لحقيبتها فى إصابة ظهر يدى بجرح لا يزال أثره واضحًا حتى الآن.. كانت تعلّق الحقيبة الكبيرة فوق ظهرها، وكنا نتحرك لمغادرة الفصل بعد انتهاء اليوم الدراسي.. مرّت بجانبى فى اللحظة التى رفعت خلالها بالصدفة يدى اليمنى لسبب ما دون أن أنتبه لحقيبتها فحدث الاحتكاك المؤلم الذى جعل الدماء تتدفق بغزارة.. أسرعت إلى أحد صنابير الفناء كى أغسل يدى لكن الدماء لم تتوقف فربطت الجرح بمنديلى القماشى الأبيض وعدت إلى البيت.. وضعت أمى الـ «الميكروكروم» فوقه، وأعادت ربط يدى بالشاش، وطلبت منى أن أبقيها مرفوعة.. تمددت على الكنبة أمام التليفزيون، وأرحت يدى فوق رأسى مدة كبيرة.. عن هذا الجرح كتبت منذ زمن طويل هذا النص بعنوان «للبالغين فقط»:

رغم الشيخوخة التى أعطتنى شحوبًا مقاربًا للون جلدك ورغم الشعيرات الصغيرة التى حاول بواسطتها الزمن أن يخفيني لا زلت واضحًا على الأقل بالنسبة لك … لم أكن مجرد جرح عادي حفره بغدر طائش الطرف المدبب لحقيبة مدرسية معلقة على ظهر تلميذة الابتدائي أنا النبوءة التى لم يبطلها «الميكروكروم « والتذكار الذى لم تمحوه ضمادة منزلية. لم أعد الغريب الذى كرهت طفولتك تطفله المؤلم ولا العابر الذى لم تصدق شرفتك خلوده. أصبحت منذ سنوات طويلة جدًا وبالتدريج اللازم للتعايش مع انتهاك ما صديقًا لم تعد فى حاجة للنظر إليه حتى تتأكد من بقائه … الذى لم يسأم المشى بكل عكازاتك وكراسيك المتحركة ولا مشاركتك الانحناء تحت المؤخرات الثقيلة... المقيم معك على الطرق فائقة السرعة حيث تنتظر حافلة إلى الرحمة لا يلتقطها رادار الغيب ولا يوقفها شرطى مرور السماء … مؤرخ «الاشتغالة» الغامض الذى لم يتعب من التنقل وراءك طوال الحياة بين الكواليس المعتمة وجمع العظام التى يتركها الجائعون من روحك بخبرة كيس قمامة عجوز طالما طيّره هواء الشوارع  وتكوّم تحت طاولات المقاهي وطردته البيوت إلى السلالم الخلفية … أنا الخط العرضى الصغير الذى أصبح جزءً من التكوين الطبيعي لظهر كفك والذى ربما من حين لآخر تسمعه يخاطبك بطريقة ما :/ «ألم أقل لك؟!»).

إن الجرح بهذه الكيفية يمثل تعريفًا للكتابة. التيقظ للجرح هو إدراك ما تعنيه الكتابة  كحفر فى سره. الكتابة هنا هى الذات التى تحفر فى سر جرحها، أى فى سر نفسها. وكأن هذا الثقب فى رواية «جرح على جبين الرحالة ليوناردو» يتحوّل إلى «الملكوت المضاد» أو «الثأر الروحي» للذات من «جريمة ولادتها». وعلى هذا النحو يمكن التحديق إلى «الخلود» الذى يتسم به الجرح.

«إنى صوت روحك الذى لا يخمد، ألا تذكر ما قاله ليوناردو؟ إذ قال إن الجراح خالدة؛ إننى أشعر بذاكرتك المشوشة تحت تأثير تلك الملاءة ونظرات الأطباء والمسعفين؛ لا شك فى أن صورتى الظاهرة لعينيّ الطبيبة عن طريق الثقب ستتغير بعد الرتق مثلما تتغير صورتها البهية من يوم إلى آخر، فلا أحد يستطيع أن يحافظ على صورته النقية، لكنه قد يستطيع الاحتفاظ بصوت روحه إذا ما شعر بها».

> > >
أفكر فى هذا الجرح القديم لا باعتباره «حادثًا» وقع فى بداية حياتي، وإنما «علامة استشرافية» كشفت عن نفسها فتحوّل من «صدفة» أقرها الواقع إلى «وخزة تخييلية» لتأمل «الطريق الغيبى الممهد» لوقوعه. هذا يعنى أن «الجرح» يسبق قطعًا تلك اللحظة القديمة التى أصاب خلالها الطرف المعدنى الحاد لحقيبة زميلتى فى الفصل الابتدائى ظهر يدي، وما كانت تلك اللحظة إلا تجسيدًا دالًا لخفائه الرابض فى ما قبل الزمن. ما كان لهذا التجسيد أن يتم حقًا لو لم أدركه كبداهة غير مفهومة، كأصل محتوم لا يمكن تبريره، لو لم أؤرق به كنبوءة مترصدة، كوعيد غائم لا أمل فى الانفلات من تدابيره الإيهامية.

لكن ذلك لا يرتبط بالأثر المتعين الذى يتركه الجرح سواء كان مؤقتًا أو دائمًا. ثمة جروح لا تترك أثرًا ملموسًا ولكن حدوثها، أو «اكتشافها» بشكل أدق يمثل دافعًا أقوى لهذا التأمل. فى طفولتى أصبت بجرح أكثر هولًا وإيلامًا وأكثر غرابة بالتأكيد من ذلك الذى ألحقته بى حقيبة البنت الصغيرة، كتبت عنه أيضًا فى «إثر حادث أليم»، وبالرغم من أنه لم يخلف بصمة مستديمة إلا أن تأثيره كان أشد ضراوة فى تشكيل وعيى الذاتى بـ «الإرادة المستترة للجحيم» التى أصبح هذا الجرح دليلًا حاسمًا لها:

(ماكينة خياطة «سنجر مرسيدس» كانت تستعملها جدتى وأمى وأختي، وكانت توضع أمام الكنبة بجوار حجرة والديّ، وأحيانًا كانت تنتقل صباحًا إلى داخل هذه الحجرة لتوضع بجوار البابين المغلقين للبلكونة ذات الشيش المفتوح.. كانت جدتى تجلس خلفها ـ حيث أبى فى عمله خارج البيت ـ وتفصّل الملابس.. كانت الصالة وحجرة والديّ تمتلئان أحيانًا ـ عندما تعمل ماكينة الخياطة وقتًا طويلاً وأيامًا متواصلة ـ بالأقمشة، والقصاصات، وبكرات الخيوط بالإضافة إلى «المازورة» الملونة فى أحد وجهيها بالأصفر، وفى الوجه الآخر بالأبيض والأحمر والأخضر ـ كالتى كان يستعملها «يوسف شعبان» فى مسلسل «عيلة الدوغري» ـ وكذلك المتر الخشبى القديم ذى اللون البنى الفاتح.. لى تجربة مروعة مع هذه الماكينة كتبتها فى نص قديم اسمه «الحبل السُري»:

«بينما كان صغيرًا كان يراهم يضعون القطع القماشية الممزقة أو المنفصلة عن بعضها البعض أسفل إبرة ماكينة الخياطة ثم يديرون المقود الدائري لتتحرك الإبرة سريعًا فوق ثقوب القماش والقطع المتباعدة فتختفى الثقوب وتتلاحم القطع المتباعدة كان مبهورًا بما يراه حتى أنه انتهز فرصة عدم انتباههم له وابتعادهم عن ماكينة الخياطة وقرر أن يمارس الأمر بنفسه لم يبحث عن قماش ممزق ليرتقه أو قطع متباعدة ليلحمها فقط وضع إصبعه الصغير أسفل الإبرة وأدار المقود/ بالطبع/ كانت هناك دماء كثيرة وصرخات كثيرة وألم كبير لكنه بعد أن انتهى من البكاء وبعد أن صار إصبعه ملفوفًا بضمادة سميكة لم يعرف لماذا فعل ذلك لماذا وضع إصبعه بديلاً للقماش حتى بعد سنوات كثيرة جدًا لم يعرف فقط  كان يشعر بضرورة ما فعله حتى أنه إلى الآن وكلما وقعت عيناه على ماكينة خياطة يظل يتأملها طويلاً ثم بشكل تلقائى جدًا يجد نفسه متوجهًا فى صمت/ نحو أية مرآة قريبة».

أريد الآن أن أذكر شيئين أساسيين فى هذا الحدث: الأول أن إبرة ماكينة الخياطة اخترقت إظفر إبهامى من المنتصف وخرجت من الناحية الأخرى.. الثانى أن أمى حينما رأت المشهد لم ترفع إبرة الماكينة بالمقود، وإنما بجزع ودون تفكير أسرعت بجذب يدى بقوة والإبرة واقفة بثبات داخل إبهامى مما أدى لتعاظم المأساة.. الغريب جدًا أن ما حدث فى هذا اليوم لم يترك أى أثر فى إصبعي، وهو ما لا أستطيع استيعابه حتى الآن).

التيقظ إلى الجرح الشخصى / الكتابة هو ارتحال مخاتل فى ذاكرة الآخرين، تنقيب فى أقدارهم، استراق محموم إلى متاهاتهم، مطاردة لكوابيسهم، ليس بالانتباه إلى الأثر الملموس على أجسادهم فقط، وإنما إلى الشقوق المتوارية التى تومئ بها هذه الأجساد أيضًا. وكأن الذات تلاحق صورها الممزقة فى كل احتمال للغياب. هكذا تبدو مغامرة الرحالة ليوناردو فى الرواية كأنها عبر أزمنة لم يعشها جسده، ولكنها تركت حكاياتها فى جرحه.

> > >
«تذكر وأنت تشاهد صورتى التى رأيت فيها صورتك الحية، أن هناك بشرًا لا يزالون يشاهدون صورتك النقية بعين الماضى البعيد، مثلما تشاهد صورهم بعين الحاضر. للوهلة الأولى انتابك شعور غامض بأنى جزء من الماضى الغابر، لكنك ما إن رأيت صورتى حتى اكتشفت أن الجرح جزء أصيل من الروح المرتحلة من مكان إلى آخر. عليك أن تتذكر دائمًا أنه كان هناك إنسان ما يشبهك فى الماضى وأنك تحمل نفس جراحه القديمة، أما الجسد فلا يلبث أن يفنى لكى تخرج أنت إلى الدنيا، ولتكون على ذات صورته القديمة، فتتابع خوض صراعاته وانتكاساته ومغامراته فى الحياة. يجب أن تبحث عمّن يشبهك فى خصالك، وليس مهمًّا أن يكون إنسانًا حيًا، بل لو كان جرحًا على جبين من يشبهك فى الماضي».

ليس الجرح المرئى هو ما يجعل الذات أو «مأساتها» بالأحرى واضحة، ويمكن ملامستها، وإنما ما تقرر الذات أن تقوم به تجاه جرحها المخبوء حتى تجعله كذلك. ما تعرف حينئذ أن هذا ما يتعيّن عليها فعله، لا لأنها والجرح شيء واحد، وبالتالى حين تسرد نفسها فإن جرحها هو الذى سيتحدث، حتى بما لم تكن تعتقد الذات أنه صوتها وحسب، وإنما لأن ما تخاطبه أيضًا كل مروية لهذه الذات يبدو كأنما يتضاءل كلما كان للجرح «بصمة» كتابة. يتجرد المجهول من وحشيته، فى اللحظة التى يداعب خلالها الخيال ذروتها الهزلية.