يوميات الاخبار

وجها لوجه مع مصطفى أمين

جمال حسين
جمال حسين

حانت لحظة تكريمى وتوهمت أن رؤساء التحرير سوف يتخطفونى أنا والأوائل كما تفعل كبريات الأندية الرياضية مع نجمنا محمد صلاح حاليا

فى صيف عام ١٩٨٦ أعلن قسم الصحافة بسوهاج نتيجة امتحانات السنة النهائية وجاءت الرياح بما تشتهى نفسى حيث تصدر اسمى قائمة الأوائل استمرارا لمسيرة تفوق استمرت طوال سنوات الدراسة الأربعة.. كدت أطير من السعادة متخيلا أننى ودعت سنوات المعاناة دون أن أدرى أن المعاناة الحقيقية لم تبدأ بعد.. ندهتنى النداهة وشددت الرحال من جنوب الصعيد إلى القاهرة محملا بطموحات كبيرة تسبقها رغبة حقيقية فى تحقيق أحلام أب - رحمه الله - حرم نفسه من كل متاع الدنيا وأصر على تعليم أبنائه وأم حنون - رحمها الله - طالما سهرت معى الليالى خشية أن أنام أثناء المذاكرة فاحترق بنيران «لمبة الجاز» التى أذاكر على ضوئها قبل دخول الكهرباء لقريتى عنيبس التابعة لمركز جهينة بسوهاج.


ظننت -وبعض الظن إثم- أن الدنيا ابتسمت لى وتخيلت أن تفوقى الدراسى ونشر اسمى فى مقال «فكرة» لعملاق الصحافة المصرية مصطفى أمين ضمن الفائزين بجوائز مصطفى وعلى أمين الصحفية عن أوائل أقسام الصحافة سيكون جواز مرورى إلى بلاط صاحبة الجلالة.. اعتقدت أن الصحف والمجلات ستفتح أبوابها لاستقبال هذا الشاب الحالم القادم من الجنوب مفعما بالنشاط والحيوية ليبدأ خطواته الأولى فى عالم الصحافة بعد تدريب شاق فى عدد من الصحف والمجلات.. لكنى اصطدمت بالواقع المؤلم واكتشفت أن شبكة المعارف أو «الواسطة» هما جواز المرور إلى بلاط صاحبة الجلالة التى كانت صعبة المنال على مثلى عكس واقعنا الحالى بعد تزايد أعداد الصحف والمجلات والقنوات الفضائية.. حملت شهادتى وأوراقى وملفا يضم قصاصات موضوعاتى الصحفية المنشورة بتوقيعى وطفت على العديد من الصحف القومية والحزبية والمستقلة لكن هيهات هيهات.. فبدون توصية وزير أو اتصال مسئول كبير لمن يملكون ناصية القرار فأنت ومستقبلك فى خبر كان.. بدأت مع زملائى رحلة معاناة «التدريب المجانى» لفترات غير قصيرة يتم خلالها استنزاف قدراتنا والمقابل كتابة الاسم على الخبر أو التحقيق وهذا تفضل منهم لو تعلمون عظيم.. رضينا بالهم لكن الهم أبى وفى كل تجربة كان مصيرنا الشارع مطرودين من جنة مهنة عشقناها بعد تذوق حلاوة البدايات لنفاجأ بأسمائنا معلقة فى لوحة الإعلانات بمدخل الصحيفة ضمن قائمة الممنوعين من الدخول بعد أن نزغ الشيطان بيننا وبينهم ووسوس لهم دون ذنب منا أو جريرة أو الاقتراب من أى شجرة ملعونة !!
أول شيك فى حياتى
عانيت أنا ورفاق الدرب كثيرا وحفرنا فى الصخر للعيش فى قاهرة المعز التى تحتاج نفقات كبيرة لا قبل لمثلنا بها فى ظل محدودية المدد الشهرى الذى ترسله الأسرة والذى يكفى بالكاد إيجار الحجرة وسندوتشات الفول والطعمية مع عدم الاقتراب من عالم اللحوم والبروتينات إلا قليلا والتنقل بأتوبيسات النقل العام بالاشتراك المتين «الأبونيه»..
وجاء اليوم الذى انتظرته على أحر من الجمر حيث موعد الاحتفالية الكبرى التى تقيمها مؤسسة أخبار اليوم لتوزيع جوائز مصطفى وعلى أمين سنويا على الفائزين.. والحقيقة أننى كنت من أشد المعجبين بمقالات وكتب مصطفى أمين الذى أسس مع توأمه على أمين أخبار اليوم التى ولدت عملاقة ويحسب لهما أنهما أحدثا انقلابا وثورة فى عالم الصحافة وأثبتا أن المصريين قادرون على إنشاء صحافة ناجحة مثل الشوام الذين أسسوا فى مصر أشهر المؤسسات الصحفية كالأهرام «سليم وبشارة تقلا» ودار الهلال «جورجى زيدان» وروزاليوسف السيدة فاطمة اليوسف والدة احسان عبدالقدوس.. حانت لحظة تكريمى وتوهمت أن رؤساء التحرير سوف يتخطفونى أنا والأوائل كما تفعل كبريات الأندية الرياضية مع نجمنا محمد صلاح حاليا.. ارتديت بدلة أنيقة اشتريتها خصيصا من أجل هذه المناسبة وانطلقت إلى شارع الصحافة ودخلت دار أخبار اليوم وكلى رهبة وكأنها قدس الأقداس.. صعدت مع زملائى الذين حرصوا على مشاركتى فرحتى إلى قاعة الاحتفالات بالطابق السادس التى حل محلها «النيوز روم» حاليا.. وجدت نفسى جالسا بين عمالقة الصحافة والفكر والأدب.. منصة التكريم يتوسطها عملاق الصحافة مصطفى أمين وعن يمينه ويساره عدد من عظماء المهنة إبراهيم سعده وإبراهيم نافع وموسى صبرى وأحمد رجب ومصطفى حسين وجلال دويدار ووجيه أبو ذكرى وهشام حافظ مؤسس جريدة الشرق الأوسط السعودية وفى القاعة حشد من كبار الصحفيين تحيط بهم عدسات المصورين والقنوات التلفزيونية.. جلست على المائدة المخصصة للفائزين وتعرفت بالصدفة على ثلاثة أشخاص أصبحوا فيما بعد من أعز الأصدقاء والأحباب بعد ضمتنا بعد ذلك جدران دار أخبار اليوم الحبيبة.. كان الجالس عن يمينى ذلك الشاب النحيف ياسر رزق بصفته الفائز بجائزة الانتماء الصحفى وعن يسارى الشاب الحالم محمد أبوذكرى الأول على قسم الإعلام بجامعة الإسكندرية وفى المواجهة كانت تجلس تلك الفتاة الحسناء أمانى ضرغام وكانت صحفية تحت التمرين بمجلة صباح الخير بصفتها الفائزة بجائزة مصطفى وعلى أمين عن أفضل تحقيق صحفى بعنوان «٣ طبيبات راقصات !!».. جمعتنا الأقدار على مائدة التكريم ثم افترقنا لنلتحق بعدها أنا وأبو ذكرى -رحمه الله- وأمانى بالأخبار وتزوجت أمانى من ياسر رزق -رحمه الله- وكانت تؤكد دائما أنه الجائزة الأهم فى حياتها.
سألت ياسر رزق وقتها يعنى إيه جائزة الانتماء الصحفى؟
أجابنى أنها جائزة يمنحها مصطفى أمين للمتفانين فى عملهم الصحفى الذين يعطون كل وقتهم للمهنة وأنه حصل على الجائزة رغم صغر سنه لأنه بدأ العمل بالأخبار بعد الثانوية العامة وقبل التحاقه بكلية الإعلام وكان يحضر مع والده الكاتب الصحفى الراحل فتحى رزق ويظل بمقر الجريدة يوميا حتى الثالثة فجرا ومازحنى قائلا : لو أخلصت فى عملك من الممكن أن تفوز بالجائزة.
نادت مذيعة الحفل على اسمى وصعدت إلى منصة التكريم لأجد نفسى وجها لوجه أمام عملاق الصحافة مصطفى أمين.. استجمعت شجاعتى وقوتى وقررت ألا أضيع هذه الفرصة الذهبية من يدى وأن أطلب منه أن يساعدنى فى الالتحاق بجريدة الأخبار.. صافحنى بابتسامة جميلة ومنحنى شيكا بمبلغ ألف جنيه وما أدراكم قيمة الألف جنيه فى ذلك الوقت وكان أول شيك وأكبر مبلغ تمسكه يدى.. كما منحنى شهادة تقدير مكتوبة على ورق البردى لا زالت تزين مكتبى حتى الآن.. وبالفعل طلبت منه أن يساعدنى فى الالتحاق بالأخبار.. وجاءت إجابته قاطعة: «لو عاوز تدخل الأخبار هتدخل الأخبار».. قلت له: حاولت كثيرا ولم أفلح لأنى معنديش واسطة.. قال : ولو حاول تانى وتالت.. حاولت إغراءه وقلت له بسذاجة: أنا مستعد أن أتبرع بهذا الشيك وهو أغلى ما أملك إلى ليلة القدر مقابل أن التحق بالأخبار فضحك وقال لى: يا صعيدى خد الشيك ولو عاوز تشتغل فى الأخبار هتشتغل!!.. أخذت الشيك وقبل أن أترك يده قلت: وإذا فشلت هل تعدنى أن أحضر لمكتبك وأومأ برأسه موافقا.
يا فرحة ما تمت
شعرت بالسعادة لأنى نقلت مظلمتى للرجل الذى خصص معظم مقالاته للدفاع عن المظلومين وعملت بنصيحته وحاولت مرارا وتكرارا.. كنت أذهب إلى المبنى التاريخى لأخبار اليوم للقاء الأستاذ مصطفى أمين لأبث إليه همى وحزنى لكن الأستاذ كرم مدير مكتبه وقف حجر عثرة وحال دون ذلك وأظل بالساعات على مقهى الحاج عبدالوهاب المواجه لأخبار اليوم مما أحزننى كثيرا ومن عجائب الأقدار أن أصبح الأستاذ كرم بعد التحاقى بالأخبار صديقا عزيزا وعاتبته على ذلك عتاب الأصدقاء لأنه أضاع عاما من عمرى متنقلا بين ٧ صحف على بند «التدريب المجانى» الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع !!
لعبة القدر
ضاقت بى الدنيا وشعرت أن الصحافة ترفضنى ولجأت الى قريبى وبلدياتى المذيع الكبير عبدالرحمن رشاد بالإذاعة والذى أصبح رئيسا للإذاعة حفظه الله.. تعاطف معى بقوة وساندنى بكل شهامة وبذل جهودا غير عادية لإلحاقى بالإذاعة وخلال جلسة معه فى ماسبيرو بحضور الكاتب والمؤلف الكبير المرحوم عبدالوهاب داوود حصل على وعد بدخولى الإذاعة وسألنى المرحوم عبدالوهاب داوود: مبسوط يا سيدى؟.. أجبت بتلقائية لا.. اندهش وقال كيف ذلك؟.. قلت: لأن حلم حياتى ان أكون صحفيا!!
اعجب بردى وقال متحديا: وأنا هاخليك تشتغل صحفى ورفع سماعة التليفون واتصل بشقيقه الكاتب الصحفى الكبير عبدالسلام داوود مدير تحرير الأخبار فى ذلك الوقت رحمه الله وحكى له حكايتى وطلب منه أن يلحقنى للتدريب بالأخبار فورا وقد كان.. أسرعت من مبنى ماسبيرو إلى شارع الصحافة وخلال دقائق كنت أمام الأستاذ عبدالسلام داوود صاحب المقال الأشهر فى الصحافة المصرية «علامة استفهام» والأستاذ جلال دويدار نائب رئيس التحرير والتحقت بمعشوقتى «الأخبار» التى قضيت بين جدرانها كل سنوات عمرى لم أبرحها حتى الآن.
صفية مصطفى أمين
ومرت الأيام والسنون ولعبت الأقدار لعبتها مرة أخرى وتحققت نبوءة رفيق عمرى ياسر رزق - رحمه الله - وتشرفت منذ أسابيع قليلة بقرار مجلس أمناء جائزة مصطفى وعلى أمين للصحافة بمنحى جائزة الانتماء الصحفى بعد ٣٧ عاما من فوزى بها من قبل بصفتى أحد أوائل أقسام الصحافة.. تلقيت اتصالا عزيزا من الكاتبة الصحفية الكبيرة صفية مصطفى أمين رئيس مجلس أمناء الجائزة ابنة صاحب الدار ومؤسس الجائزة والتى تحظى باحترام وتقدير كبيرين داخل الوسط الصحفى.. أبلغتنى أن مجلس أمناء الجائزة قرر بالإجماع منحى جائزة «الانتماء الصحفى» لأكون أول صحفى يفوز بجائزة مصطفى وعلى أمين مرتين يفصل بينهما ٣٧ عاما عامرة بأحداث وذكريات وحكايات اعتزم توثيقها فى كتب ومجلدات !!