حالة لا يـُصاب بها غير 2 في المليون وعلاجها الوحيد الحبوب المنوِّمة

مرضها الغريب حيـّر الأطباء| مأساة المذيعة التي لا تنام!

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

قصة أغرب من الخيال بطلتها المذيعة الراحلة، عليّة إحسان، التى داهمها مرض غريب فى ستينيات القرن الماضي حرمها من النوم، وحار الأطباء في تشخيص حالتها، لكن زوجها الإذاعى الراحل، صلاح زكى (أول مذيع تلفزيونى قدّم نشرة الأخبار فى التلفزيون المصري) ساندها فى محنتها ويقال إنها شفيت من هذا المرض بعد سنوات طويلة بفضل دعم زوجها لها.. قصة الإعلامية التى ودعت الدنيا فى 14 أبريل 2015، نشرتها «آخرساعة» عام 1963، ونعيد نشرها بتصرف محدود فى السطور التالية:
 

مذيعة التلفزيون علية إحسان تمر الآن فى مأساة أن عينيها الجميلتين لا تعرفان النوم.. جفونها دائما مفتوحة طوال ساعات الليل والنهار.. الطب يــقف عاجــزًا بعد أن فشـــل فـــى عــلاجـــها.. زوجــها صلاح زكى يحاول دائمًا تسليتها، إنه يصحبها كل ليلة بعد منتصف الليل فى سيارته ويظل يطوف بها فى شــوارع القاهــرة، وعندما تشعر بأن النوم بدأ يداعب جفونها تشير إليه ليعود إلى المنزل.. وينام الزوج من الإرهـاق وتظل الزوجة ساهرة حتى الصباح!

وعندما يحين موعد عملها تذهب إلى مكتبها بمبنى التلفزيون، وقبل موعد ظهورها على الشاشة بدقائق تسرع عليّة بإخفاء الهـــالة السوداء التى تحت عينيهــا مــن عـدم النوم مستعينة بالماكيــاچ، وتقف أمام كامـيرات التلفـزيون وعلى فـمــهـا ابتسـامتهــا الرقيقـــة لتقـدِّم فقرات الـبرنامــــج دون أن يشعر أحد بالعذاب الذى تعيش فيه.

إن سبب مأساة عليِّه إحسان غدة فى رأسها اسمها «الغدة النخامية» لا تقوم بعملها كما يجب، ولا تفرز المــادة التـى تجـعل صاحبتها تنام.. وعندما عرضت نفسها على أشهر الأطــباء فـى لنــدن قــالوا بالحــرف الواحد إن هذه الحالة لا يُصاب بهــا غــير 2 فــى المليـون، وأن العلاج الوحــيد لصاحبته الحبوب المنوِّمة، وإذا أدمــن المريض علـى تعاطـــيها فـــإنه سيتعــــوّد عليهــا ولــــن تقــوم بتأثيرها وتصبح عديمة المفعول.

◄ أصبحت عصبية
إن عليّــة إحسـان الرقيقة الحالمة أصـبحت عصـبية من عدم نومها. إنها لا تحمـل عذابها وحــدها، لكنها تفكــر أيضــًا فى زوجـها، إنها تتســاءل فى ألــم مــا ذنبـه هـو.. إذا كنتُ مريضة بعدم النوم فلماذا يظل هو ساهرًا معى إلى ما بعد الفجر؟!

وفى كل يوم تبحث علية إحسان عن فكرة جديدة لتتغلب بها على ساعات الأرق التى لا تفارقها لحظة واحدة.. تقرأ كثيرًا.. لكنها بدأت تشعر بالإرهاق بعد أن تستمر فى القراءة لأكثر من ساعتين متصلتين.. وأخيرا فكرت فى الكتابة.. وضعت فكرة لمسرحية جديدة قررت أن تحولها إلى صفحات يقرأها الناس أو تقدمها إحدى الفرق المسرحية وهى فى الطريق الصحراوى بين القاهرة والإسكندرية مع زوجها فى السيارة.

تقول عليّه وهى تشـرح فكرة مسرحيتها الجديدة، التــى تكتبها فى ساعات أرقها الدائم، إن بلدنا سهل منبسط لا جبال فيه ولا وديان منخفضة، وهذه الظاهرة الطبيعية قد انعكست على حياتنا وطباعنا.. قـد أكــون مخطـئة فــى هــذا الرأى ولكنه اعتقاد سأقدمه فى المسرحية التى أحاول كتابتها الآن.

وبرغم أن النوم لا يعرف طريقه إلى جفون مذيعة التلفزيون الرقيقة، وأنها تظــل طــوال الليـل بــلا نــوم، فإنها لا تستطيع أن تبدأ فى كتابة المسرحية إلا بعـــد الساعـــة الثالثـة صباحًا، ولقــد كتبت عنها حتى الآن أكثر من خمسين «فولسكاب»

وقصة اليقظة الدائمة التي تعيش فيها عليّة إحسان بدأت منذ عامين بلا مقدمات.. إن الساعات التى تمضيها وهى نائمة بدأت تقل بالتــدريــج حــتى انعـدمــت تمـامًا.. وضاع النوم وجاء مكانه زكام دائم.. وظاهرة أخرى هى برودة أطرافها.. إن يديها وقدميها دائمًا باردة.

وعندما تنبه زوجها صلاح زكى إلى ما تعانيه زوجته، انتهز فرصة وجـــودهـما فـي لندن وعــرضــها علــى أشـــهر الأطـــباء هناك وهو البروفيســور بوتشــــي.. لقــــد ظـــل الطـبيب المعالج يختبر عليّـــة ويوجـــــه إليها الأسـئلة، ثم قال كلمـــته والتى قرر فيــــها أن الغــــدة النخامية التى تجلب النوم لصاحبها لا تفــرز، بالتالى لا يمكـن لصاحبها أن ينام.

وقال الطــبيب أيضًا إن هذه الحالة لا تصيب غـــير 2 في المليـــون، وأن العلاج الوحيد لها هو الحبوب المنوِّمة، لكنه علاج مؤقت سيصبح بمضــى الوقــــت عـلاجـــًا فاشــلًا. ونصح الطبيب المذيعة عليّة إحسان أن تغيِّر نوع الحبوب المنوِّمة التى ستتعـــاطـــاها كل فـــترة حـــــتى لا تدمــن عليها.. وعــادت عليّة إلى القاهرة لتتعاطي الحبوب المنومة، وبعــد أسابيع توقف مفعولها كما تنبأ الطبيب.

◄ حب وزواج

ومذيعة التلفزيون التي لا تنام تزوجت من صلاح زكي منذ 5 سـنوات.. كان صلاح يواصـل دراساته العليا فى الجامعة، وكانت هى لا تزال طالبة، وتم زواجهما بعد قصة حب. وسافرت مع زوجها فى بعثته الدراسية التى أمضاها فى الاتحاد السوفيتي. وفى موسكو درســت فــــى المـــونـتــاج والتلفزيون وحصلت على شهادة فى الإذاعات الموجهة، ولـــم تعـــــترف بها إذاعة القاهرة!

وبعد انتهاء مدة البعثة فـي الاتحـاد السوفيتـي عاد الزوجــان إلـى القاهــرة بطريقـتين.. صــــلاح زكى عاد بالباخرة بينما عادت عليّة بالطائرة، حيث زارت خلال عودتها عــدة بـلاد منـها چنيف وزيوريخ وبراجا وروما وستوكهلم وكوبنهاجن وإنجلترا وميونيخ.

وعاد الزوجــان إلـــى القاهــرة.. تسلم صلاح زكي عمله في التلفزيون، وبقــيت عليّـــة تواصـل عملها فى الإذاعة بقسم الاستماع السياسي، ثم انتقلت إلى التلفزيون لتعمل فى قسم المونتاج حوالى ثلاثة أشهر عملت بعدها مع ماما سميحة فى تقديم «جنة الأطفال».

وعندما أعلــن التلفزيون حاجته لمذيعات، قـرّرت عـلـيّة دخول الامتحان، وكان زوجها مــن بين أعضــاء لجنة الامتحان، فما كادت عليّة تدخل لمواجهة الممتحنين حتى انسحب زوجها من اللجنة، ولم يعد إلا بعـــد أن أدت زوجته الامتحان، ونجحت وكان ترتيبها الأولى. وبدأت تظهر صورتها على الشاشة الصغيرة، وهى تقدم فقرات البرامج أو وهى تقدم برامجها الخاصة. إنها تقدم «أرشيف التلفزيون» مرتين كل أسبوع، وتعد برنامجًا جديدًا اسمه «أول مرة» تعرض فيه قصة ظهور الأشياء التى غيّرت مجرى التاريخ فى حياتنا لأول مرة.. وفى الساعة التاسعة من مساء كل ليلة لتقديم فوازير رمضان.

وعلى الرغم من أن عليّة وزوجها صلاح زكى يعملان فى التلفزيون، فإنهما لا يلتقيان إلا بعد انتهاء عملهما فى المساء المتأخر، ومع ذلك فإن عليّة تمسك الخشب وتقول إن حياتها أكثر من سعيدة.

وفي خلال الساعات التى تمضيها مع زوجها فى المنزل تدور بينهما مناقشات حول برامج التلفزيون. تقول عليّة إن زوجها ينتقد برامجها بعنف، وهى أيضًا تنقد له برامجه التى يقدمها أو يشرف على تقديمها ولكن بلا عنف.

◄ سر ابتسامتها
والآن.. إن كل هذه الحياة التى تعيشها المذيعة الرقيقة عليّة إحسان حياة مستيقظة لا تعرف لها حدود، ولا فواصل فيها، وبرغم شدة المأساة التى تعيشها فإنها لا تزال تحتمل.. وحتى كتابة هذه السطور فإن أحدًا من أسرتها لا يعرف الحقيقة التى تعيشها عليّة إحسان، ولا يمكن لأحد أن يتصوَّر المأساة التى تعيشها.

إن المشكلة التى تواجه هذه المذيعة الرقيقة أصبحت أخطر من مجرد عدم النوم. إن هذا المرض قد يتطوّر فى لحظة من اللحظات إلى شيء رهيب لا يمكن تصوره. إن عليّة إحسان هى التى تعلم وحدها تفاصيل المأساة التى تعيشها الآن، وتدرك تمامًا أى مصير يمكن أن يقابلها فى أى لحظة من لحظات استيقاظها الدائم. ورغم كل هذا لا تزال تبتسم.. تظهر فى كل يوم على الشاشة الصغيرة لتبدأ البرنامج أو تنهيه وهى تتمنى للمشاهدين كل الأمنيات الطيبة التى لا تستطيع مجرد أن تتخيلها لنفسها وهى تقول: «تصبحوا كلكم على خير».

وإذا تصادف وظهرت عليّة على شاشة التلفزيون ولم تبتسم، فإن عشرات الخطابات من المشاهدين تصلها وتسألها: «لماذا لا تبتسمين؟».

وتبتسم عليّة إحسان وتضحك وتملأ الشاشة الصغيرة، والدموع المختفية تملأ عينيها من الحاضر الذى تعيش فيه والمستقبل المجهول الذى ينتظرها، والذى سيظهر أثره على عينيها.. وربما يخفى ابتسامتها.

(«آخرساعة» 6 فبراير 1963)