الشيخ حسن العطار.. رأس حربة المجددين

الشيخ حسن العطار
الشيخ حسن العطار

■ كتب: حسن حافظ

في وقت كان الجمود قاعدة والبحث العلمي الرصين غائبا، عندما وقع المجتمع المصري في مرحلة طويلة من الركود المعرفي، ظهر الشيخ حسن العطار يشتكى ويطالب بضرورة التجديد للحاق بركب الأمم التى نهضت وتمسكت بالعلم وعملت به، الذى امتلك روحا متمردة رافضا الركود في وقت جاء الغزو الفرنسى بأدوات الغزو التى تخفى خلفها بنية معرفية وعلمية أحدث من الأدوات التى وجد علماء الأزهر يتعاملون بها، فيما وقع المجتمع المصري فى ظروف مأساوية بسبب الفقر والجهل والمرض بسبب سياسات العثمانيين والمماليك التى أفقرت العباد وأفسدت البلاد، وسط كل هذا خرج العطار حاملا مشعل نور مؤمنا بدوره فغيّر المجتمع كله، فكان أول المجددين فى العصر الحديث، وأصبح من أصحاب الفضيلة الذين حصدوا إجماع المحبين.

◄ بدأ تعليمه دون إذن والده ثم حصل على دعـم الأسرة ليلتحـق بالأزهـر

◄ تحدى الجمود داخل أروقة الأزهر وانفتح عـلى العلوم العقليــة

◄ رأي ضرورة الأخذ بثمرة الحضارة الأوروبية فرمى حجرا في الركود المعرفي بمصر

◄ تولي مشيخـة الأزهر بنهج إصلاحي وكون جيلا من المجددين فى مقــدمتهم الطهطاوى

ولد الشيخ حسن العطار في القاهرة عام 1782، لأسرة من أصول مغاربية، إذ استقر والده بالقاهرة واشتغل ببيع العطور، وعرف باسم محمد العطار، وأشرك ابنه حسن فى تجارته، ويقول حسن قاسم فى كتابه "ذيل تاريخ الجبرتى": "ولما يفع أشركه أبوه معه فى عمله، ولم يتوجه به إلى طلب العلم فامتثل إرادة أبيه على تكره وتخوف، وكان كلما سنحت له فرصة تسلل للأزهر ليتعلم خلسة، ولما علم أبوه بميوله إلى العلم لم يمنعه ذلك، وساعده على طلب العلم، فأخذ ينهل منه حتى ارتوى". وبعد تخرجه فى الأزهر، لم يتوقف حسن العطار عن طلب العلم، بل قرر التجوال فى البلدان طلبا للعلم فحج حجة الإسلام، ثم زار بلاد الشام يتجول بين مدنها، ثم زار العراق والأناضول، ثم عاد لمصر واستقر فى أسيوط فترة من حياته.

وعرف بروحه المتطلعة للمعرفة مع الذكاء النادر والذاكرة الجيدة، فلم يكتف بالعلوم الدينية، بل درس العلوم الرياضية والفلكية والهندسية والطبية، وهو أمر استوقف تلميذه رفاعة الطهطاوى فقال عنه: "كانت له مشاركة فى كثير من هذه العلوم حتى فى العلوم الجغرافية، ولقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لإسماعيل أبى الفداء سلطان حماة، وله هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلع دائمًا على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولع شديد بسائر المعارف البشرية".

◄ عصر التحولات
خلال رحلة حسن العطار العلمية مر بالكثير من التقلبات، وعاصر الكثير من المحن التى مرت على المجتمع المصري، إذ عاصر الصراع بين الفرق المملوكية والعثمانية على الحكم وكيف نهبت البلاد وأفقرت العباد خلال هذه الفترة، فتشرب كراهية شديدة لهذا النظام العبثى الذى لا هم له إلا النهب والسلب، ثم عاصر الغزو الفرنسى لمصر بقيادة نابليون بونابرت (1789- 1801م)، وترك العطار القاهرة وتمركز مع المقاومة المصرية في الصعيد ضد الغزو الفرنسي، وهناك اشتغل كمراسل حربى، إذ كان يرسل تقارير عن الأحداث والوقائع فى الصعيد إلى صديقه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى، والذى ضمنها فى كتابه الشهير "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار".

عندما تصدى العطار للتدريس فى الأزهر، لم يعتمد طريقة التعليم المتبعة من الاقتصار على القشور المعرفية، بل رأى ضرورة العودة للأصول والكتب الكبيرة، فبدأ بتدريس تفسير البيضاوى، ولم يكن الأزهر يعرف تدريس هذا التفسير منذ دهور، فلما بدأ فى تدريسه تقاطر العلماء لسماعه وأحاطوا به، ثم أخذ فى دراسة المطولات من المنقول والمعقول حتى شحذ الأذهان، ونبه إلى علوم كانت قد زويت وحرم منها الأزهر وطلابه.

أدرك العطار أن لا نجاة من حالة الركود الحضاري الذى تعيشه مجتمعاتنا إلا بالتجديد الحضارى، والأخذ من الأوروبيين فى المجالات التى تقدموا فيها خصوصا الفلسفة والمعرفة والعلوم الطبيعية والإنتاج الصناعى، وأنه لا عيب فى الاستفادة من منجزهم فى بناء نهضة حضارية، لذلك انفتح على الأوروبيين يجالسهم ويأخذ منهم العلم ويعلمهم مما عنده، ويقول حسن قاسم عن ذلك: "واجتمع عليه بالقاهرة أفواج من الفرنجة المستعربين ممن يبحث منهم فى العلوم الإسلامية، فكان الواحد منهم لا يجد فى علماء العصر ملجأ يفزع إليه فى حل ما غمض عليه من المشاكل التى لم يتفهمها إلا حسن العطار، وكان يفسح لهم صدره ويتباحث معهم مبينا لهم كل ما أشكل عليهم وعجزوا عن فهمه من العلوم، مساعدا لهم فى كل رغباتهم. واستطاع الشيخ العطار من كثرة اجتماعه بهم وترددهم عليه أن يحذق لغتهم فكان يتكلم الفرنسية والإنجليزية إلى جانب ما تعلمه من اللغات الشرقية الأخرى".

◄ شيخ الأزهر
عند وفاة شيخ الأزهر أحمد الدمهوجى فى سنة 1830، اختلف علماء الجامع حول من يتولى المشيخة، هنا تدخل محمد على باشا لفض الخلاف واختار الشيخ حسن العطار لتولى المنصب، ليتولى الشيخ المجدد المنصب لنحو خمس سنوات حتى وفاته فى 22 مارس 1835. وخلال هذه السنوات ظهر النفس التجديدى للعطار داخل أروقة الأزهر خاصة أنه أعاد للمنصب رونقة وهيبته، فيقول حسن قاسم: "وكان محمد على يحبه ويحترمه لعلمه وأدبه ونزاهته وشهرته الذائعة، وكان ذا هيبة، إذا أقبل على مجلس قام الناس لتحيته فى إجلال وإكبار، ولم يخش محمد على من العلماء سواه"، لذا نراه يستخدم مكانته فى تحدث التعليم بالأزهر وإدخال دراسة العلوم الطبيعية فى نظام الأروقة.

بينما يلخص أحمد تيمور باشا جهود حسن العطار داخل الأزهر بقوله: "اتخذت جهودُ الرجل عدة مظاهر: أولها أنه جعل يُنبه الأزهريين فى عصره إلى واقعهم الثقافى والتعليمى، ويبين ضرورة إدخالهم المواد الممنوعة؛ كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية، كما يبين ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم فى التدريس، ووجوب الرجوع إلى الكتب الأصول وعدم الاكتفاء بالملخصات والمتون المتداولة، ويتوسل إلى ذلك بكل وسيلة، يقول مبينا الفارق بين علماء عصره والعلماء الأفذاذ الذين عرفهم العالم العربى قبل عصر العطار، ومحطما أكذوبة تحريم الدين الإسلامى لبعض العلم".

◄ أستاذية المجدد
لم يتوقف دور حسن العطار عند تحريك المياه الراكدة فى الأزهر، بل عمل على تربية جيل من العلماء تحت إشرافه ليستكملوا المهمة من بعده، وهنا نلتقى بجانب الأستاذية فى شخصية العطار، إذ دفع تلاميذه لتجديد الدرس الأزهرى فدفع تلميذه محمد عياد الطنطاوى لتدريس الأدب فى الأزهر تحت إشرافه، من خلال نص مقامات الحريرى، كما لعب الدور الأبرز فى الدفع مسيرة تلميذه رفاعة رافع الطهطاوى إلى أفق غير مسبوق.

في الأزهر الشريف التقى الطهطاوى بأستاذه العلامة حسن العطار، الذى يعد واحدا من أهم الشخصيات التى تركت أثرها فى تكوين الطهطاوى، إذ أولى العطار عناية خاصة للطهطاوى بعدما لاحظ فيه علامات النبوغ، فكان للطهطاوى "فضيلة الامتياز عند الأستاذ العطار عن سائر طلبته.

وأدرك العطار أن هناك مسئولية تاريخية على العلماء، بعدما لمس بنفسه البون الواسع بين أحوال الفرنسيين الذين جاءوا بعلوم حديثة ومعارف مختلفة، وبين أحوال المصريين والشرق المسلم عموما، ولأنه أدرك من البداية أن الصراع الحضاري لا يحسمه السلاح بقدر القدرة على تطويع المعارف الحديثة، فقد قرر منذ البداية أن يوسع أفق تلاميذه ويدفع بهم للنهل من كتب التراث من ناحية مع مزجها بكتب العلوم فى أحدث صورها في أوروبا.

◄ التلميذ النجيب
لذا عندما طلب منه محمد على باشا اختيار أحد تلامذته لإرساله إمامًا لأول بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا سنة 1826، وقع اختيار حسن العطار على تلميذه النجيب رفاعة الطهطاوى ليكون عين العطار لرؤية ما فى فرنسا من علوم جديدة، لذا طلب من تلميذه أن يسجل كل ما يرى فى بلاد فرنسا، وهو ما نتج عنه رحلة الطهطاوى الشهيرة بـ «تخليص الأبريز فى تلخيص باريز».