خارج النص

د. أسامة السعيد يكتب: «فرحة» مصر

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

حقيقة لم تكن لدى نية لكتابة أول مقال لى على صفحات جريدة «الأخبار» العريقة رئيسًا للتحرير فى هذا التوقيت، ربما كنت أرجئ الأمر حتى نبدأ فى تنفيذ خطة تطوير المحتوى والشكل الجديد للصحيفة، لكننى لم أستطع الانتظار أمام مشاعر غامرة سيطرت علىّ فى يوم العيد.

وجهها البهى حرك قلبى، قبل أن يحرك قلمى... اسمها «فرحة»، وهى بالفعل فرحة.

اسمها كاملا: فرحة محمد عبد البصير فؤاد، سوسنة صغيرة من بساتين البراءة، عمرها لا يتجاوز ستة أعوام، لكنها مليئة ببهجة تكفى عمرا كاملا.

كان من حظى أن أجلس إلى جوارها، فى احتفالية عيد الفطر، التى شرفها بالحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى أمس، عقب أداء صلاة العيد بمركز مصر الثقافى الإسلامى بالعاصمة الإدارية الجديدة.

• • •

منذ أن جلست إلى جوارها لم تكف عن الحركة، بينما عيون والدتها تترقبها فى حنو لافت، لا تكف عن التحليق من حولنا كفراشة، فى انتظار لحظة دخول الرئيس حتى تراه.

عندما جلست إلى جوارى سألتها عن اسمها، أجابتنى فى خجل طفولى، وبكلمات لا أكاد أتبينها، لكننى استطعت التقاط الاسم، فقد وجدته مكتوبا أمامها: الشهيد مقدم طيار/محمد عبد البصير فؤاد.

أدركت لماذا كانت ملامح الشجن تكسو وجه الأم فى يوم العيد، ولماذا جلست «فرحة» إلى جوارنا تترقب فى شغف لحظة دخول الرئيس، بمشاعر طفلة تنتظر إطلالة أبيها فى ذلك الصباح الذى يغرس فى قلوبنا أجمل الذكريات.

طلبتُ منها - ممازحا - أن أجرى معها حديثا صحفيا، فردت بثقة النجوم ودون تردد: ماشى!

بدأت أحدثها عن مدرستها والمواد التى تفضلها؟ ومن اختار معها ملابس العيد الجديدة؟ وماذا تريد أن تعمل فى المستقبل؟

أخذت ترد باندفاع طفولى جميل أنها تريد أن تكون طبيبة أطفال، وتحب دروس اللغة الإنجليزية، وتهوى اللعب مع شقيقتها الكبرى «ريتال».

لكن خجلها أو البحث عن إجابة كان يحول دون أن تجد ردا سريعا على أسئلتى فى أحيان أخرى، فترنو باتجاه أمها الصيدلانية «حنان عبد الناصر» مستعينة بها، لكن نظرة السعادة التى لمعت فى عينى الأم فخرا بابنتها الواثقة من نفسها لم تستطع أن تخفى إحساس الفقد لغياب الزوج والسند.. فى يوم العيد.

• • •

تبدأ فقرات الحفل، تتقافز «فرحة» مع أغنية «أهلا بالعيد» التى أشاعت البهجة فى القاعة بصوت وحضور الفنانة الجميلة صفاء أبو السعود، لكن عندما غنى كورال الأطفال أغنية الشهداء، تعلقت عيناها بشاشة العرض على المسرح، بدت كأنها تبحث عن شىء لا أعرفه، وفجأة انتفضت وهى تشير نحو صورة أحد الشهداء التى كانت تمر أمامنا على الشاشة، ربما لم تتمكن من قراءة الاسم الذى ظهر سريعا واختفى، لكنها كانت تعرف جيدا ملامح الصورة، إذ كانت تحمل على وجهها الصبوح بعض ملامح ذلك الوجه الذى تصدر الشاشة.

عيون الصقر التى كانت يوما حارسة لسماء الوطن، والتى لم تتوان عن مراقبة الأفق تأمينا للحدود وتعقبا لـ»طيور الظلام» الذين نجانا الله منهم بتضحيات جسام لخيرة شباب ورجال مصر، تتجلى فى وجه «فرحة» فأشعر أن تلك الروح لا تزال حية وراء عيون الصغيرة البهية.

أسأل الأم عن  زوجها البطل الشهيد، تجيب بذاكرة حاضرة، وألم لم يغادر إلى الآن القلب والملامح، بأنه استشهد خلال عملية مداهمة لبعض العناصر التكفيرية فى سيوة يوم فى 26 أبريل (3 رمضان) 2020، تحرص على ذكر المكان والتاريخين الميلادى والهجرى، وكأن الزمن تجمد عند تلك اللحظة القاسية.

تتحدث عن الشهيد بصيغة الحاضر، لا الغائب، تستعيد روحه وعلاقته ببناته، وخصوصا «فرحة» التى فارقها وهى رضيعة، وكيف تحرص على أن تكون ذكرى الأب البطل حاضرة فى قلب وعقل بناته.

• • •

من حولنا أنظر إلى العاصمة الإدارية الجديدة، مدينة من المستقبل، تتجاور فيها أبراج الحى المالى برونقها المعاصر، ومبانى الحى الحكومى بشموخها الذى يعكس عراقة الدولة المصرية.

تفاصيل مركز مصر الثقافى الإسلامى، تشعرك بروح أرض الكنانة الإسلامية الممتدة منذ أكثر من 1400 عام، جماليات الآيات القرآنية والخط العربى بانحناءاته الساحرة التى تدفعك إلى التأمل، ورحابة ساحات الصلاة التى تمنحك إحساسا عميقا بالطمأنينة وأنت تقف بين يدى الله.

تشعر أن أرواح من بنوا مساجد عمرو بن العاص وأحمد بن طولون والأزهر والسلطان حسن، تحوم من حولك لكن برونق أكثر عصرية، دون أن يفقد المكان والبناء ملمس العراقة والأصالة.
أتأمل مشهد أطفال غزة، وهم يشاركون أشقاءهم من أطفال مصر لحظات السعادة فى يوم العيد، يلوحون بأعلام مصر وفلسطين، فأدرك أن تلك القضية ستبقى حية فى قلب كل مصرى، وأن مصر سند الأمة العربية الدائم عبر التاريخ.

فجأة.. تتركنا «فرحة» لتذهب إلى منطقة الألعاب، تتقاسم مع العشرات من أقرانها المصريين والفلسطينيين المرح فى جو أسرى جميل، يلتفون حول الرئيس السيسى وهو يشاركهم تلك اللحظات الصافية من البهجة يوم العيد.

أتأمل المشهد، فأشعر أن «فرحة» ليست وحدها فى هذا اليوم الجميل، بل مصر كلها إلى جوارها... مصر كلها فرحة.
فشكرا «فرحة».. وهنيئا لمن صنع الفرحة.. وطوبى لمن ضحوا من أجل أن نحيا  نحن فى رحاب تلك الفرحة.