يعزف مسلسل “مليحة” على وتر يهمس بذاكرتنا أنشودة أرض ووطن وبشر، نعم، تلك الذاكرة لم تنس لحظة القضية الفلسطينية وحق شعبها في حياة تم إغتصابها عنوة، لكن مشاهده وأحداثه التي تروى أمامنا، تستدعي التاريخ مرة أخرى، لتؤكد أن المشهد الراهن له جذور علينا أن نتفهمها ونستوعبها ونعي دروسها، وأن هناك حقائق راسخة لا يمكن طمسها .
الرؤية الفنية الجيدة أصابت الهدف من اللحظة الأولى بإيقاعها المناسب، ولجأ المخرج عمرو عرفة والمؤلفة رشا الجزار إلى حالة خاصة في السرد تمزج التوثيق والدراما، لتصل صورة قصتهما بشفافية وصدق إلى المشاهد الذي توحد مع العمل وأبطاله .
فحالات الإستهلال المميزة في كل حلقة كانت حوار بسيط بين الحفيد والجد (صوت سامي مغاوري)، الأول يسأل والثاني يجيب، والصورة في الخلفية تنطق وتوثق أصل الحكاية بالأبيض والأسود، في ربط بين ماض وحاضر، وهو شيء مهم، حتى لا يطغى الخيال على الواقع، ولا الزيف على الحقائق .
تلك اللحظات التمهيدية هي الخيط الحقيقي التي يحرك مجريات ومصير شخصيات العمل دراميا، و”الحدوتة” الاجتماعية التي نتابع أحداثها، وتؤكد قيمة ونهج وموقف مصر وجنودها البواسل وشعبها تجاه الوقوف في وجه إرهاب المغتصب، ورفض فكرة تهجير الشعب الفلسطيني الذي تم فضحها وكشفها في صلب الأحداث .
في بداية الحكاية سأل الطفل جده السؤال الشائك الدائم “ليش إسرائيل تقتل الفلسطينيين.. ليش الأطفال تموت.. ليش الناس ما تعيش في سلام؟”، وأجاب الجد: “كانوا عايشين في سلام إلى إن صار اللي صار، قبل 100 سنة، كانت فلسطين أرض سلام، العربي المسلم جنب أخوه المسيحي جار اليهودي، يزرعوا ويصنعون ويتاجرون مع بعض، لم يكن هناك كره، الكره كان في البر التاني عند الغرب، معظم الأوروبيين كرهوا اليهود، واضطادوهم، وصعد الصحفي هرتزل ليفكر كيف تحب أوروبا اليهود، ورأى أن الحل الوحيد أن تكون هناك دولة لهم، وفي عام 1897 عملوا أول مؤتمر لتحويل دولة اليهود من فكرة إلى واقع في فلسطين، وأعينهم على القدس عاصمة لدولتهم، وساعدهم الغرب بعد أن وجدها فرصة للتخلص من مؤامراتهم، وأقنعهم هرتزل أن الدولة اليهودية ستكون جدار دفاع عن أوروبا، وبدأوا في تنفيذ مخططهم، حاولو شراء الأرض بالنفوذ والمال وبالمؤامرة، ولم ينجحوا، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى أخذوا الأراضي بالدم، حيث وجد الفلسطينيين أنفسهم تحت الاحتلال البريطاني.. وعام 1917، وعد رئيس وزراء بريطانيا العظمى، بلفور، بإقامة وطن لليهود، وعام 1921 نهبوا الأراضي بالفعل، وبدأت هجرة اليهود إلى فلسطين لتنفيذ وعد بلفور، وبدأت المقاومة الفلسطينية فيما يشبه الثورة من 1936 إلى 1939، وواجهتها بريطانيا بالقوة وقتلوا 5 آلاف فلسطيني”.
وسأل الطفل مجددا: “وأين كان العرب يا جدي؟”، وجاء الرد: “العرب كانوا في رحلة نضال، كل واحد في حكايته، مصر مثلا كانت مهمومة بالاستقلال من الاستعمار”.
ذلك المشهد الإستهلالي كان مهم، قبل أن ندخل في قلب الدراما، وسياق المسلسل الذي جاء في وقته، لنرى كيف كانت مصر خلال عام 2012، وبالتحديد على الحدود الغربية، لتبدأ الأحداث من السلوم على الحدود بين مصر وليبيا، حيث تسكن الفتاة الفلسطينية مليحة (سيرين خاس)، وأسرتها، بعد النزوح من أراضيها عقب الانتفاضة الثانية عام 2000، لكن بعد أحداث ليبيا المدمرة، تضطر للعودة مرة أخرى إلى غزة عن طريق مصر، وخلال الرحلة تواجه العديد من الصعوبات.
على الطرف الآخر من الدراما، وفي قلب القاهرة، حيث أسرة المقدم أدهم (محمد دياب)، التي تضم ميرفت أمين، أمير المصري، حنان سليمان وأشرف زكي، حيث تعيش الأسرة حياة بسيطة،
وعندما ينقل الضابط أدهم إلى العريش، يواجه على الفور محاولة تفجير الأتوبيس الذي كان يقل أسرة “مليحة” وآخرين من الفلسطينيين والمصريين، وينقذهم، ليتشابك الطرفين في قضية واحدة .
تتذكر مليحة الانتفاضة الثانية عام 2000، وهي صغيرة، وكيف تمسكت الطفلة بعروستها وهي تهرب مع الأسرة من الهجمات الوحشية إلى ليبيا، وفي أحد أجمل المشاهد تقول لجدتها “لازم نرجع فلسطين.. إحنا فلسطينيين”، وتبكي الجدة وسط “أهة” كبيرة .
ظهرت الشخصيات على الشاشة طبيعية وحقيقية، جسد دياب دور الضابط المصري المتفاعل مع واجباته دون مبالغة، وكان أقرب لشخصية البطل الشعبي، كذلك سيرين خاس التي جسدت شخصية “مليحة”، وهنا أشير إلى ذكاء المخرج في الإستعانة بوجوه أخرى غير مصرية لإضفاء نوع من الواقعية على الأحداث، فبالإضافة إلى سيرين هناك الممثل الأردني مروان عايش، الذي يلعب شخصية “عمار” والممثلة اللبنانية الأردنية ديانا رحمة التي تلعب شخصية “ألطاف”.
كجمهور سعداء بأن نرى الحالة الفلسطينية على الشاشة، وهو دور كبير تلعبه القوى الناعمة المصرية ممثلة في الدراما، تلك الحالة التي أضافت لها الموسيقى التصويرية لخالد حماد بعداً من الشجن، وكذلك ملامح الواقعية في الديكور الموفق لفوزي العوامري، وكاميرا مدير التصوير شريف النمر الذي جعلنا نعيش بكامل هواجسنا في قلب الحدث، ونكون جزء من القضية، خاصة في مشهد التفجير، ومشهد التهجير، مع أغنية “راجعين يا فلسطين” .
الشيء المهم، هو تفاعل الجيل الجديد مع القضية عبر المسلسل، وأعتقد أن الفكرة ستكون على تماس حقيقي مع سير الأحداث، التي تمتد صداها وتوابعها إلى الآن.