عقب مشاهدتي من جديد فيلم “شحاذون ونبلاء”، أدركت أن الدراما نالت من السينما عند صلاح السعدني، نعم تفوق وتألق في كثير من الأعمال الدرامية، لكنه ألهم وأبدع في شخصيات سينمائية جسدها بعمق ووعي كبيرين، لدرجة أننا لم ننسى حواراتها وظرفها التاريخي، وكيف جعلتنا نفكر معها.
في الفيلم الذي أخرجته وكتبه أسماء البكري، جسد السعدني شخصية “جوهر جوهر” أستاذ التاريخ الجامعي، الذي ترك هذا المنصب لشعوره بالزيف في منطق التاريخ، خصوصا في منطق العلم عموما، ليعيش في حجرة مهدمة فقيرة.
توقف “جوهر” عن القراءة والثقافة، لكنه مازال يراقب ويتابع بعينيه فقط، ويبدي أرائه وفقا لثقافته السابقة ليعيش في شخصية المثقف المشرد الفقير.
اتذكر كيف أبدع السعدني في أحد أعظم مشاهد الفيلم بتاريخه وتاريخ السينما أيضا، داخل قاعة للمحاضرات وقف أمام الطلبة وهو يقول بإنفعالات متباينة، وتقمص وكأنه يتوه بعقولنا وهو يقول: “قوة تريد للبشرة أن تظل في معاناتها.. لكن لا ثم لا، ليست البشرية بهذه البلاهة أو البساطة، لكنها محكومة بشرذمة من أبشع المخلوقات التي وجدت على هذه الأرض، إنها مسابقة خلقتها قوة واعية تماما، قوة قررت أن تعلن حربا على المنطق البسيط، وعلى الوضوح وأنا اتفق معكم أنه قد يمكن أن نزيف أو نعرف التاريخ، لكن كيف الحال مع الجغرافيا، هل يمكن أن نكذب في الجغرافيا، أقولها نعم لقد كذبوا في الجغرافيا، لقد أقاموا حدود مصطنعة في هذا العالم، حدود متعسفة حتى أضاعت هذا الكيان الرائع في هذا العالم، لقد أصبحت الأكاذيب هي الحقيقة بعينها”.
وفي منحنى آخر، نجد “جوهر” شخصية قليلة الحديث، هادئة الملامح، لكنها تكبت توترا عاليا من الشعور الدائم بالزيف من الأشياء، ألم نفسي ووجودي رهيب، لا يستطيع الشعور بالفرح والابتسامة طالما شعور الزيف يسير في دمه، ويري أن التشرد والصعلكة هما أنسب فلسفة للحياة، حيث راحة البال والصدق، والنقاء، وهو ما يظهر في مناقشاته مع ضابط الشرطة - الذي جسده عبدالعزيز مخيون - الذي أقنعه بمنطقه الصعلوكي ساخرا من كل شيء.
في ذلك المشهد دار حوار رائع بين الضابط “نور الدين” و”جوهر”، قال فيه الأخير: “نعيش واقع فرض بأحلام مسبقة”، وتساءل الضابط: “هو في أكثر من واقع، ويقول “جوهر”: “أكيد في واقع خلقة الدجل، تفلفص فيه زي السمكة جوه الشبكة، والواقع التاني دا واقع مبهج بيعاكس بساطة الحياة.. هو الإنسان محتاج إيه عشان يعيش.. لقمة عيش”، الضابط: “لكن ده يعتبر نفي لأي تقدم”، “جوهر”: “عليك أن تختار عايز التقدم ولا راحة البال، بالنسبة لنا إحنا اختارنا راحة البال”، ويعود الضابط ليسأله: “وإيه هي راحة البال؟”، “جوهر” ينظر ساخرا: “اللي أنت بدور عليه؟”.
كانت نظرات السعدني تحمل فلسفة أداء كبيرة، ويمكنها أن تتوجه أحد أعظم ممثلينا، من الممكن أن تجد نفسك شحاذا أو فقيرا، لكن عليك أن تتمتع بالنبل، ولا تفقد احترامك لذاتك، تلك كانت الرسالة التي اوحت بها شخصية “جوهر” أو السعدني وهو يجسد تلك الصعلكة بنبل أيضا، كشخصية مثالية مغرقة في الخيال الفوضوي، فـ”جوهر” أستاذ التاريخ والجغرافيا كان يمكن له أن يعيش حياة كريمة ويحيى بمكانة راقية في هذا الوقت بمساعدة علمه الغزير ومشوار الأكاديمي الذي شهد نجاحات كبيرة، لكنه شعر في قرارة قلبه أن التاريخ يتم تزويره والجغرافيا أيضا.