خالد محمود يكتب: فلسفة الحياة فى « شحاذون ونبلاء »

خالد محمود
خالد محمود

عقب‭ ‬مشاهدتي‭ ‬من‭ ‬جديد فيلم‭ ‬“شحاذون‭ ‬ونبلاء”،‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬الدراما‭ ‬نالت‭ ‬من‭ ‬السينما‭ ‬عند‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني،‭ ‬نعم‭ ‬تفوق‭ ‬وتألق‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الدرامية،‭ ‬لكنه‭ ‬ألهم‭ ‬وأبدع‭ ‬في‭ ‬شخصيات‭ ‬سينمائية‭ ‬جسدها‭ ‬بعمق‭ ‬ووعي‭ ‬كبيرين،‭ ‬لدرجة‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬ننسى‭ ‬حواراتها‭ ‬وظرفها‭ ‬التاريخي،‭ ‬وكيف‭ ‬جعلتنا‭ ‬نفكر‭ ‬معها‭.‬

في‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬أخرجته‭ ‬وكتبه‭ ‬أسماء‭ ‬البكري،‭ ‬جسد‭ ‬السعدني‭ ‬شخصية‭ ‬“جوهر‭ ‬جوهر”‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬الجامعي،‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬لشعوره‭ ‬بالزيف‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬التاريخ،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬العلم‭ ‬عموما،‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬مهدمة‭ ‬فقيرة‭.‬

توقف‭ ‬“جوهر”‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬والثقافة،‭ ‬لكنه‭ ‬مازال‭ ‬يراقب‭ ‬ويتابع‭ ‬بعينيه‭ ‬فقط،‭ ‬ويبدي‭ ‬أرائه‭ ‬وفقا‭ ‬لثقافته‭ ‬السابقة‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬المثقف‭ ‬المشرد‭ ‬الفقير‭.‬

اتذكر‭ ‬كيف‭ ‬أبدع‭ ‬السعدني‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أعظم‭ ‬مشاهد‭ ‬الفيلم‭ ‬بتاريخه‭ ‬وتاريخ‭ ‬السينما‭ ‬أيضا،‭ ‬داخل‭ ‬قاعة‭ ‬للمحاضرات‭ ‬وقف‭ ‬أمام‭ ‬الطلبة‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬بإنفعالات‭ ‬متباينة،‭ ‬وتقمص‭ ‬وكأنه‭ ‬يتوه‭ ‬بعقولنا‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬“قوة‭ ‬تريد‭ ‬للبشرة‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬في‭ ‬معاناتها‭..‬‮ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬ثم‭ ‬لا،‭ ‬ليست‭ ‬البشرية‭ ‬بهذه‭ ‬البلاهة‭ ‬أو‭ ‬البساطة،‭ ‬لكنها‭ ‬محكومة‭ ‬بشرذمة‭ ‬من‭ ‬أبشع‭ ‬المخلوقات‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬إنها‭ ‬مسابقة‭ ‬خلقتها‭ ‬قوة‭ ‬واعية‭ ‬تماما،‭ ‬قوة‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬تعلن‭ ‬حربا‭ ‬على‭ ‬المنطق‭ ‬البسيط،‭ ‬وعلى‭ ‬الوضوح‭ ‬وأنا‭ ‬اتفق‭ ‬معكم‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نزيف‭ ‬أو‭ ‬نعرف‭ ‬التاريخ،‭ ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نكذب‭ ‬في‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬أقولها‭ ‬نعم‭ ‬لقد‭ ‬كذبوا‭ ‬في‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬لقد‭ ‬أقاموا‭ ‬حدود‭ ‬مصطنعة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬حدود‭ ‬متعسفة‭ ‬حتى‭ ‬أضاعت‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الرائع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الأكاذيب‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ ‬بعينها”‭.‬‮ ‬

وفي‭ ‬منحنى‭ ‬آخر،‭ ‬نجد‭ ‬“جوهر”‭ ‬شخصية‭ ‬قليلة‭ ‬الحديث،‭ ‬هادئة‭ ‬الملامح،‭ ‬لكنها‭ ‬تكبت‭ ‬توترا‭ ‬عاليا‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬الدائم‭ ‬بالزيف‭ ‬من‭ ‬الأشياء،‭ ‬ألم‭ ‬نفسي‭ ‬ووجودي‭ ‬رهيب،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الشعور‭ ‬بالفرح‭ ‬والابتسامة‭ ‬طالما‭ ‬شعور‭ ‬الزيف‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬دمه،‭ ‬ويري‭ ‬أن‭ ‬التشرد‭ ‬والصعلكة‭ ‬هما‭ ‬أنسب‭ ‬فلسفة‭ ‬للحياة،‭ ‬حيث‭ ‬راحة‭ ‬البال‭ ‬والصدق،‭ ‬والنقاء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬مناقشاته‭ ‬مع‭ ‬ضابط‭ ‬الشرطة‭ - ‬الذي‭ ‬جسده‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬مخيون‭ - ‬الذي‭ ‬أقنعه‭ ‬بمنطقه‭ ‬الصعلوكي‭ ‬ساخرا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬دار‭ ‬حوار‭ ‬رائع‭ ‬بين‭ ‬الضابط‭ ‬“نور‭ ‬الدين”‮ ‬و”جوهر”،‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬الأخير‭: ‬“نعيش واقع‭ ‬فرض‭ ‬بأحلام‭ ‬مسبقة”،‮ ‬وتساءل‭ ‬الضابط‭: ‬“هو‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬واقع،‮ ‬ويقول‭ ‬“جوهر”‭: ‬“أكيد‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬خلقة‭ ‬الدجل،‭ ‬تفلفص‭ ‬فيه‭ ‬زي‭ ‬السمكة‭ ‬جوه‭ ‬الشبكة،‭ ‬والواقع‭ ‬التاني‭ ‬دا‭ ‬واقع‭ ‬مبهج‭ ‬بيعاكس‭ ‬بساطة‭ ‬الحياة‭.. ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬محتاج‭ ‬إيه‭ ‬عشان‭ ‬يعيش‭.. ‬لقمة‭ ‬عيش”،‭ ‬الضابط‭: ‬“لكن‭ ‬ده‭ ‬يعتبر‭ ‬نفي‭ ‬لأي‭ ‬تقدم”،‮ ‬“جوهر”‭: ‬“عليك‭ ‬أن‭ ‬تختار‭ ‬عايز‭ ‬التقدم‭ ‬ولا‭ ‬راحة‭ ‬البال،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬إحنا‭ ‬اختارنا‭ ‬راحة‭ ‬البال”،‮ ‬ويعود‭ ‬الضابط‭ ‬ليسأله‭: ‬“وإيه‭ ‬هي‭ ‬راحة‭ ‬البال؟”،‭ ‬“جوهر”‭ ‬ينظر‭ ‬ساخرا‭: ‬“اللي‭ ‬أنت‭ ‬بدور‭ ‬عليه؟”‭.‬

كانت‭ ‬نظرات‭ ‬السعدني‭ ‬تحمل‭ ‬فلسفة‭ ‬أداء‭ ‬كبيرة،‭ ‬ويمكنها‭ ‬أن‭ ‬تتوجه‭ ‬أحد‭ ‬أعظم‭ ‬ممثلينا،‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬نفسك‭ ‬شحاذا‭ ‬أو‭ ‬فقيرا،‭ ‬لكن‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تتمتع‭ ‬بالنبل،‭ ‬ولا‭ ‬تفقد‭ ‬احترامك‭ ‬لذاتك،‭ ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬اوحت‭ ‬بها‭ ‬شخصية‭ ‬“جوهر”‭ ‬أو‭ ‬السعدني‭ ‬وهو‭ ‬يجسد‭ ‬تلك‭ ‬الصعلكة‭ ‬بنبل‭ ‬أيضا،‭ ‬كشخصية‭ ‬مثالية‭ ‬مغرقة‭ ‬في‭ ‬الخيال‭ ‬الفوضوي،‭ ‬فـ”جوهر”‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬حياة‭ ‬كريمة‭ ‬ويحيى‭ ‬بمكانة‭ ‬راقية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬بمساعدة‭ ‬علمه‭ ‬الغزير‭ ‬ومشوار‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬نجاحات‭ ‬كبيرة،‭ ‬لكنه‭ ‬شعر‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬قلبه‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬يتم‭ ‬تزويره‭ ‬والجغرافيا‭ ‬أيضا‭.‬


 

;