صقلية .. الحلقة المفقودة فى تطور عمارة القاهرة

صقلية .. الحلقة المفقودة فى تطور عمارة القاهرة
صقلية .. الحلقة المفقودة فى تطور عمارة القاهرة

قامت دوريس أبوسيف بعدة دراسات حول الروابط والتبادلات الثقافية بين صقلية النورمانية ومصر الفاطمية، والتى كان أقدمها عام ١٩٩٨ وأحدثها تم نشره فى عام ٢٠١٨، وهى دراسات تظهر ثراءً فى المنهجيات التى اتبعتها الأستاذة المرموقة. ففى هذا البحث الذى بين يديّ القارئ، والذى تم نشره فى عام ١٩٩٨، نظرت دوريس إلى الثقافة المادية النورمانية كاستمرار ــ أو تأثير من ــ للعمارة الفاطمية التى شكلّت ما أطلق عليه الباحثون اللغة الفنية البحرمتوسطية (Mediterranean koiné). وبالتالى، فدراسة أبو سيف للأشكال والعناصر المعمارية والزخرفية بصقلية النورمانية كان من منظور أنها «حلقة وصل» فى تطور العمارة الإسلامية فى مصر. وفقًا لهذه المنهجية، فالعمارة الفاطمية، ولا سيما عمارة البلاط التى لم يصل منها شىء يذكر، تم حفظها ككبسولة فى المبانى النورمانية التي ــ بشكل ضمنى  لم تقدم منتجاتٍ جديدة. ومن ثم، فهذه المنشآت النورمانية يمكنها أن تخبرنا بالكثير حول العمارة الفاطمية التى لم تصلنا.

اقرأ أيضاً | القاهرة في مرأه باريس

فى الدراسة الأحدث لدوريس أبو سيف أستاذ كرسي الفنون الإسلامية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن يبدو أنها تعيد التفكير فى هذه المنهجية التى اتبعتها من قبل، إذ تعرض العديد من العناصر المعمارية والزخرفية النورمانية التى لا تتوافق مع التحف والمبانى الفاطمية الباقية، أو على الأقل تظهر مستوياتٍ مختلفة من التعقيد. إذ ترى أنه «من الصعوبة بمكان تقدير المساهمة الصقلية على أنها قد قامت بشكل أساسى بدور الحافظ للأشكال والتصميمات التى وُجدت يومًا فى القاهرة أو أنها كانت المصدر الأصلى لتلك التصميمات». وإن مالت للافتراض الأول والدليل على ذلك عنوان الفصل نفسه الذى يفيد أن صقلية كانت «حلقة وصل».

أما فى بحثها الأخير فهى تختم مقالها بشكل يفيد بأنها قد أعادت التفكير فى منهجيتها الأولى، إذ تقول إن عناصر الفن الإسلامى فى صقلية النورمانية «لا ينبغى النظر إليها على أنها مرآة الفنون التى كانت يومًا ما فى القاهرة الفاطمية».



وأشارت أبو سيف إلى بعض العناصر التى تؤكد نظريتها؛ فالأمير الجالس على العرش (enthroned figure) الممثل فى سقف الكابيلا بالاتينا لم يظهر أبدًا فى الأيقونوغرافيا الفاطمية التى وصلتنا.

أيضًا فالمقرنصات التى وظفها النورمان يبدو أنها كانت أكثر تعقيدًا وإتقانًا من نظيراتها الفاطمية التى لا تبدى وجود أى نية من قبل المعمار المصرى لتطوير المقرنصات إلى صفوفٍ متراكبة، وهو ما سيظهر فى العمارة الأيوبية والمملوكية فيما بعد، كما أن القباب الحجرية النورمانية على سبيل المثال ليس لها مثيل فى مصر الفاطمية؛ لذلك فنحن أمام منهجيتين ومنظورين ينتج عنهما فرضيتان مختلفتان حول علاقة صقلية النورمانية بالفن المصرى القروسطي. والقارىء بدوره يمكنه تبنى أى نظرة يميل إليها هواه أو يراها أكثر قربًا من المنطق أو الفرضية صاحبة الحجة الأقوى، وكل نظرة تأتى بإشكالياتها والأسئلة الخاصة بها.




فمثلًا، لو زعمنا أن صقلية كانت «كبسولة» حفظت لنا العمارة الفاطمية التى اندثرت، فهل هذا يعنى أن معمارى صقلية النورمانية (عرب ونورمان) لم يطوروا ما وصل إليهم من أشكالٍ وعناصر ورثوها من الحكم الفاطمى السابق؟ ولو افترضنا بأن صقلية طورت العناصر الفاطمية، فماذا يحدثنا هذا عن الثقافة النورمانية ولا سيما عن المعمار النورمانى الذى تفوق على مثيله المصرى؟ وهل هذا يجعلنا أصلًا نعيد التفكير فى مصادر المعمار الصقلى الذى ربما تعدد بين الفن السلجوقى والأتابكى فى شرق البحر المتوسط والفن الفاطمى فى شمال أفريقيا؟ ماذا إذن عن العناصر المعمارية التى ظهرت فى صقلية قبل ظهورها فى مصر؟ هل الطموح الإمبريالى النورمانى لعب دورًا فى تطوير الإرث العربى على نحو فاق فيه معاصريه البحرمتوسطيين؟ على أية حال، إن أكدت كل هذه الفرضيات على شىء، فإنها تؤكد على أن حوض البحر المتوسط شهد ترابطًا واتصالًا ثقافيًا مستمرًا بين الدويلات التى على ضفافه، وهو ما يجعل المنهجيات القديمة التى تتمحور حول التأثير والتأثر، الأصل والفروع، المركز والأطراف ناقصة وغير آهلة للتصدى للمشكلات المعقدة التى واجهتها الثقافة المادية البحرمتوسطية فى ذلك الوقت.

(ص٢٨٥) احتفظت لنا عمارة القاهرة بآثارٍ فنية، ولا سيما عناصر زخرفية تعود تقريبًا لكل الحقب التى مرَّ بها تاريخها الإسلامى، والتى يظهر فيها تأثيرات من غرب العالم الإسلامى1 فقد كانت مصر، بفضل موقعها الجغرافى، محط الأندلسيين وأهل شمال أفريقيا والصقليين 2 وهم فى طريقهم إلى مكة أو إلى دول الشرق الإسلامى.



ربما قام بعض الفنانين بالعمل داخل القاهرة وهم فى طريقهم إلى الحج - كحال أغلب العلماء - فى حين جاء آخرون يلتمسون فرص عمل عقب انطلاق عمليات الاسترداد فى إسبانيا وانحسار رعاة العمارة هناك؛ أى بعبارة أخرى، كانت هجرة الفنانين إما بسبب ضغوطات الحياة فى موطنهم الأم أو الظروف القاسية داخله أو لتوافر سبل عمل مغرية فى مكان آخر.
ويشير التراث المعمارى المتميز فى مصر الإسلامية إلى أن فرص عمل كهذه كانت متوافرة خلال فترة طويلة من تاريخها.

فمن خلال مواد متنوعة فى الفن الإسلامى توصلنا إلى أن هؤلاء الفنانين - كصناع المعادن، ومصورى المنمنمات، والخزافين - قد فروا أمام غزوات المغول لإيران، والعراق، وقد عثروا على وظائف داخل مصر والشام المملوكيتين. ولدوافع أقل طواعية اشترك الفنانون الصليبيون - كأسرى حرب - فى تشييد منشآتٍ خلال العصرين الأيوبى و المملوكى.3 هذا وبخلاف إشارة صغيرة سريعة قام بها كريسويل وسنشير إليها لاحقًا، بأنه لم تلقِ التأثيرات الصقلية على العمارة القاهرية اهتمامًا كافيًا. 

وعند تناول الفن والعمارة الإسلاميين فى صقلية، فإن العصر النورماني4 هو العصر الذى يمكنه أن يقدم الكثير إلى أى مؤرخ، إذ لم يبق تقريبًا من العمارة الإسلامية التى شُيدت فى ظل الحكم الإسلامى هنالك شىء يُذكر؛ فقط ما ورد فى المصادر الأدبية وما جاء فى روايات الرحالة يمكنه أن يخبرنا عن مدى عظمة المدن الإسلامية وعن الثقافة فى صقلية خلال  ذلك الوقت. لكن ما تبقى من التراث العربى داخل صقلية يتركز بشكلٍ أساسى فى التأثير العربى على عمارة وفنون المملكة المسيحية النورمانية. أما فيما يتعلق بفترة ما بعد النورمانية، كعهد أسرة هوهينشتاوفينس5 Hohenstaufens على سبيل المثال، فهناك القليل كى تقدمه لمؤرخ الفن الإسلامي. من الجيد ملاحظة أنه بالرغم من علاقات الإمبراطور فردريك الثاني6 Friedrich II الوثيقة بالحكام المسلمين، ولا سيما (ص ٢٨٦) بالملك الكامل الأيوبي،7 وبالرغم من انجذابه للثقافة وأسلوب الحياة العربيين إلا أنه من الظاهر عدم إبدائه اهتمامًا كبيرًا للفن الإسلامي، بل إن فترة حكمه لم تكن ملائمة لازدهار ذلك الفن.



ونادرًا ما كان يقيم فردريك الثانى فى جزيرة صقلية وإنما فى إقليم أبوليا 8Apulia، بل لم يكن بلاطه ثابتًا، وكان اهتمامه الأساسى منصبا على بناء المنشآت العسكرية. فهو لم يرد بالتجمع العربى الذى أقامه فى مدينة لوتشيرا 9 Lucera أن يكون نقطة أمامية للحضارة العربية فى إيطاليا، بل أراد من ورائه نقل العرب هنالك وعزلهم عن إخوانهم فى شمال أفريقيا؛ ومن ثم وضع حدًا لتمرداتهم المستمرة داخل صقلية.

شكلّت فترة حكم فردريك آخر مرحلة للوجود العربى فى صقلية والمحطة الأخيرة فى صبغ الجزيرة بالصبغة اللاتينية.10 ومع نهاية القرن ٧هـ/١٣م اكتمل الخروج الجماعى للعرب من تلك الجزيرة.

لكن فى المقابل لم يستطع النورمان – الذين بدأوا من قبل فى صبغ الجزيرة بالصبغة اللاتينية للتخلص التدريجى من الوجود الإسلامى - مقاومة انبهارهم بالجمالية الإسلامية، خصوصًا أنهم أدرجوها فى فنونهم ولاسيما فى حقل العمارة وزخارفها. فقد استخدم الملوك النورمان المفردات الفنية العربية ليعززوا وضعهم وليباروا من خلالها الملوك المسلمين المعاصرين لهم. كما استمر النورمان فى عملية توظيف النقوش العربية على المبانى والتحف المنقولة. فمثلًا إذا تحدثنا عن الوظائف المدنية مثل عمارة القصور نجد أنهم قد تبنوا أيضًا الطراز العربى فى شكله الخالص. أما فى حالة العمارة الدينية، حيث سيادة التقاليد المسيحية، فهنا يظهر الطراز العربى مختلطًا مع عناصر بيزنطية ولاتينية.

على سبيل المثال، فالتصاوير التى تزين سقف كاتدرائية تشيفالو Cefalù، 11 يمكن البحث عن أصولها فى فن البلاط الإسلامي. 12 وبالرغم من اشتمال الكابلا بالاتينا Cappella Palatina (المصلى الملكي) -13 الذى شيده روجر الثانى فى ٥٣٤هـ/١١٤٠م- على مناظر دينية قد نفذت بالفسيفساء الزجاجية وفق التقليد البيزنطي، إلا أن تصاوير سقفها المقرنص، هى فى حد ذاتها تصاوير تعكس موضوعات دنيوية ووسائل التسلية بالبلاط، فهى تتبع بأكملها الطراز العربى الذى تم تعزيزه بكتاباتٍ عربية.



وتُعد عباءة روجر الثانى إحدى منتجات الفنانين العرب بالرغم من احتمالية رمزيتها - كما أشار إتنجهاوزن - إلى انتصار المسيحية على الإسلام.14 لم يعن هذا (ص٢٨٧) النصر بالنسبة للنورمان التخلص النهائى من المجتمع العربى الصقلي، بل صبغ الجزيرة بصبغة مسيحية ولاتينية يؤججها تزايد هجرات المسيحيين إليها من داخل البلاد.

وبالرغم من وصف ابن جبير أنه كان ولعًا بالثقافة والفن العربيين وبعشقه للتبارى مع بلاط الحكام العرب، إلا أن وليام الثانى (٥٦١-٥٨٥هـ/ ١١٦٦-١١٨٩م) لم يحد عن سياسة أسلافه فى عمليات صبغ الجزيرة بالصبغة اللاتينية والمسيحية.15

ونتيجة لأسباب جغرافية وسياسية، تأثرت العمارة الإسلامية فى صقلية بتلك الموجودة فى شمال أفريقيا وأيضًا بالعمارة الفاطمية داخل مصر. لكن لم تكن هذه الأنواع من العمارة وحدها هي مصدر الإلهام الوحيدة، إذ لا ينبغى إغفال الميراث البحرمتوسطى المشترك السابق على المسلمين، فضلًا عن دور بيزنطة وتأثير حواضر الدول العظمى، كدمشق وبغداد، وسامراء، حيث انتشر تأثيرهم فى العالم الإسلامى كافة. ومن ثم؛ فالتأثير الفنى الإسلامى على صقلية كان يتميز بتعدد مصادره وتنوعه أيضًا. 

وعندما نتحدث عن العمارة النورمانية، فإن مادتنا تتألف من مجموعة الكنائس والقصور.16 مع الوضع فى الاعتبار أن معظم الآثار النورمانية لا يمكن تأريخها بدقة شديدة؛ فالعديد منها استغرق إنشاؤه سنين عدة أو تم تجديده خلال وقتٍ لاحق. ومع ذلك، لا تشكل هذه معضلة كبيرة، لأن المنشآت ذات الأهمية بالنسبة لنا تم بناؤها خلال فترة أقل من قرنٍ، بين ٥٢٤هـ/١١٣٠م و٥٨٦هـ/ ١١٩٠م. ويمكننا أن نقيم براهيننا على حقيقة أن العناصر التى يتم تناولها هنا تتعلق بعمارة القرن ٦هـ/ ١٢م.

والآن لنلقى نظرة على بعض السمات الأكثر بروزًا فى العمارة الصقلية النورمانية.

- السمة الأكثر بروزًا نجدها فى القباب الحجرية المحمولة على حنايا ركنية، والتى تميز الكنائس النورمانية. وبخلاف القبة البيزنطية كنزة المظهر وبالكاد تبرز من الخارج وعادة ما تُشيد على مثلثات كروية، نجد أن القبة الإسلامية - التى تظهر هنا - تبرز إلى الخارج وتهيمن على ظل (سلويت) المنشأة. كما لاحظ جرابار، بالرغم من الأصول البيزنطية لقبة الصخرة ببيت المقدس إلا أنها تشتمل على هذه الخصيصة العربية الإسلامية. 17 بالإضافة إلى ذلك، تحاكى نوافذ منطقة الانتقال فى القباب النورمانية شكل الحنايا الركنية، منتحلة نفس الشكل المعقود.(ص٢٨٨) و لما كانت قد شُيدت القباب الحجرية المحمولة على حنايا ركنية بالفعل فى شمال أفريقيا فى ق٣هـ/٩م، لذا يُرجح أنها ألهمت عمارة القبة فى صقلية.

- على النقيض من العمارتين البيزنطية والرومانسكية المعاصرتين حيث يسود العقد النصف دائري، نجد أن العقد المدببogival أو ذا المركزين، الشائع فى مصر الفاطمية منذ القرن التاسع، قد انتشر فى المنشآت النورمانية. نعم، فقد ظهر العقد المدبب قبل ذلك فى العمارة الأموية ثم شاع وذاع تحت حكم العباسيين.

تزين الدخلات المعقودة معظم واجهات المنشآت النورمانية؛ فتظهر فى بعض الحالات غائرة وفى حالات أخرى تبدو ضحلة يؤطرها شريط منقوش يجرى بطول الواجهة بأكملها ويحيط بالنوافذ أيضًا. كما يعد استخدام الدخلات المعقودة لتقسيم الواجهة رأسيًا تقليدًا من الشرق الأدنى القديم، ذو أصول إيرانية ومن بلاد الرافدين، تبناه المعمار الإسلامى بدءًا من العصر الأموي. 

ظهر فى العمارة السكنية بصقلية مخططات متنوعة وأشكال معمارية جاءت من شمال أفريقيا ومن مصر الفاطمية، بما فى ذلك الجواسق المقببة الموضوعة داخل برك مياه اصطناعية.
يظهر التأثير الإسلامى متلألًأ فى حقل الزخارف: مقرنصات، تصاوير ذات روح فنية إسلامية، أشرطة كتابية عربية، شبابيك جصية ذات زخارف هندسية، أطباق نجمية متشابكة فى الأرضيات، عقود زخرفية متقاطعة، ونقوش خشبية على الطراز الفاطمي.

ولا تتمحور هذه الدراسة حول التأثير العربى على صقلية، وإنما حول احتمالية انتقال تصميماتٍ إسلامية من صقلية تعود إلى العالم الإسلامي، وأكثر تحديدًا إلى مصر. ويطرح هذا التساؤل بشكل أساسى حول المجموعة الجنائزية للسلطان قلاوون والتى شُيدت بين٦٨٣-٦٨٤هـ/١٢٨٤-١٢٨٥م. ولكن قبل دراسة هذا الأثر، يمكن أن نبدأ بتناول بعض التصميمات الزخرفية فى العمارة القاهرية التى تعود إلى القرنين ٦هـ/١٢م و ٧هـ/ ١٣م، والتى لها نماذج سابقة فى صقلية ولكن على ما يبدو تفتقر إلى نماذج سابقة لها فى مصر.

البناء بمداميك متناوبة الألوان (الأبلق)
ظهر البناء بمداميك متناوبة الألوان فى العمارة البيزنطية، وإن كان العالم العربى الإسلامى هو من تبنى هذه الخصيصة على نطاق واسع لتخدم أغراضًا زخرفية كما هو الحال فى جامع قرطبة18 أو فى قبة جامع الزيتونة بتونس المؤرخة بـ ٣٨١هـ/ ٩٩١م.19 وفقًا لكريسويل، أقدم مثال لهذه الخصيصة (ص٢٨٩) فى الشام كان فى السور الكبير لمدينة دمشق (٥٠٣هـ/١٠٠٩-١١١٠م).

انتشر هذا الأسلوب منذ القرن ٦هـ/١٢م فى إيطاليا ليخدم أغراضًا زخرفيةً أيضًا؛ فنجده فى إقليم كامبانيا Campania، وفى مدينة بيزا وجزيرة صقلية. ومسألة الأصول الخاصة بكل قطر منها لا تزال تطرح إشكالياتٍ.20 وعلى الأرجح فإن أصولها فى العمارة النورمانية تعود للعمارة الإسلامية.

أما بالنسبة لأقدم نموذجٍ اسُتخدم فيه البناء بالأبلق فى القاهرة فقد كان فى بوابة جامع الظاهر بيبرس (٦٦٥-٦٦٧هـ/١٢٦٦-١٢٦٩م). وهذا الظاهر نفسه هو من قام بتشييد القصر الأبلق فى دمشق الذى من المؤكد أنه تم زخرفته على نفس هذا الطراز.21.

التلبيس بألوان متعددة
انتشرت الزخارف المُلبسة المتعددة الألوان من الرخام والحجر فى العالم البحرمتوسطى القروسطوي، فى كل من العمارتين البيزنطية والإسلامية. فالوردات ذات البتلات المتقاطعة المنفذة بالتلبيس فى أرضية الكابلا بالاتينا تسبق أول ظهور لها فى العمارة المملوكية القاهرية بعقود عدة. نجد هذا التصميم أيضًا فى التربة التَكريتية بدمشق التى أرخها هرتسفيلد قبل ٦٣٤هـ/١٢٣٦-١٢٣٧م حيث تظهر وردة ذات بتلات متقاطعة تؤطر نافذة قمرية. 22 (شكل:١)

تبنى الفنانون النورمان كذلك تقنية التلبيس متعدد الألوان فى زخرفة الواجهات، كما هو الحال فى كاتدرائيات بالرمو Palermo ومونرياليه 23 Monreale وفى إفريز أعلى مدخل سانتا ماريا ديل أمّيراليو 24S.Maria dell’Ammiraglio، وهذا الأخير يشبه إلى حدٍ كبير النمط المستخدم فى الزخارف المملوكية (شكل:٢). فيما يتعلق بمصر، لم يثبت استخدام التلبيس متعدد الألوان قبل النصف الثانى من القرن ٧هـ/١٣م عندما ظهر على الحجر بأعتاب جامع الظاهر بيبرس. 25 هذا ولم تحتفظ القاهرة بأى نموذج معمارى فاطمى أو أيوبى يحمل زخارف ملبسة.

الخط النسخى
أما بالنسبة للخط النسخى فقد تم استخدامه فى النقوش المعمارية الصقلية قبل استخدامه داخل مصر. وقد بدأ الخط النسخى فى الظهور بمصر على النقوش المعمارية (ص٢٩٠) أثناء فترة حكم صلاح الدين، وأقدم نماذجه المعروفة مؤرخة بـ٥٧٤هـ/١١٧٨-١١٧٩م و٥٧٩هـ/١١٨٣-١١٨٤م والموجودة بقلعة الجبل. 26 أما فى الشام، فقد ظهر فى وقت أسبق بكثير (فى ٤٨٣هـ/١٠٩٠-١٠٩١م)، 27 وظهر أيضًا فى بدايات القرن الـ٥هـ/١١م فى الموصل 28.

وفيما يخص صقلية، فقد تم تبنى الخط النسخى فى نقش لروجر الثاني، أى فى النصف الأول من القرن ٦هـ/١٢م، والذى كان فى الأصل موجودًا داخل قصره بمدينة ميسينه Messina وصار الآن بالبالاتسو رياليه (القصر الملكي) ببالرمو Palazzo Reale in Palermo، 29 وأيضًا فى نقش ساعة مائية بالكابلا بالاتينا المؤرخة بـ ٥٣٦-٥٣٧هـ/١١٤١-١١٤٢م.
يسبق النقش الكتابى الموجود بمدينة ميسينا فى التاريخ، وهو نقش ملبس بالرخام الأبيض والأسود، أقدم نموذج لكتابة ملبسة باقية بالقاهرة، وهى تلك التى بخانقاة بيبرس الجاشنكير ٧٠٦-٧٠٩م/ ١٣٠٦-١٣١٠م، بأكثر من ١٥٠ عاماً.. (شكل: ٣، ٤)

الإفريز المزخرف بدالات من مراوح نخيلية Palmette zigzag frieze
أحد النماذج المهمة فى هذا الصدد نجده فى تصميم يبدو أن ظهوره الأول كان فى بوابة مدرسة الناصر محمد بالقاهرة. وهى بوابة رخامية قوطية نقلها من عكا إلى القاهرة العادل كتبغا الذى بدأ فى إنشاء المبنى عام ٦٩٥هـ/١٢٩٥م. استخدم هذا التصميم بعد ذلك بسنينٍ قليلةٍ فى واجهة خانقاة بيبرس الجاشنكير وفى محراب مدرسة طيبرس بالجامع الأزهر (٧٠٩هـ/١٣٠٩-١٣١٠م)، (شكل: ٥، ٦، ٨). هذا التصميم، الذى يمكن وصفه تقريبيًا بأنه دالات تتألف من مراوح نخيلية، ظهر بنفس الشكل تمامًا - وإن كان بالفسيفساء الزجاجية - كإفريز بالجزء السفلى من الزخارف الفسيفسائية بالكابلا بالاتينا.

فى الجزء العلوى من الوزرة الرخامية بالكابلا بالاتينا، وكذلك فى المونرياليه، نجد شرافات منفذة بالتلبيس تبدو وكأنها صف من السهام المفصصة. هذا التصميم تم إضافته بالتلبيس أيضًا على أعتاب وصنجات بالعمارة المملوكية، فضلًا عن زخرفة واجهات المنشآت المملوكية بشرافات مشابهة. (شكل:٧)

القبوة المقرنصة
أقدم دليل على استخدام المقرنصات فى العالم الإسلامى يعود إلى بدايات القرن ٥هـ/١١م فى كل من إيران وشمال أفريقيا، مما يدعو إلى الظن بكون بغداد المركز الفنى الذى انتقلت منه إلى كلا القطرين. أما فيما يتعلق بمصر، فأقدم نموذج باقٍ للمقرنصات نجده فى الكورنيش الذى يتوج بدن مئذنة الجيوشى المؤرخة بـعام ٤٨٠هـ/١٠٨٧م، وهو مشابه لمقرنصات الجامع الأقمر فى كونه «مقرنص خطى» 30 على هيئة (ص٢٩١) كورنيش، ولكنه لم يغطِ مساحة ما أو يدخل ضمن تشكيل إحدى القبوات.

ثمة بقايا مقرنص جصى غير مؤرخ، محفوظ بمتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، يبدو أنه كان يزخرف منطقة انتقال إحدى قباب حمام يحتمل تأريخه بالعصر الفاطمي. وبشأن القبوات الحجرية المقرنصة الأكثر تعقيدًا، كتلك التى فى البوابات أو فى أنماط أخرى من الحنايا، فلم يُوثق ظهورها فى القاهرة قبل النصف الثانى من القرن ٧هـ/١٣م، وأقدم مثال نعلمه يوجد ببوابة مدرسة الظاهر بيبرس، الدراسة،31 المشيدة بين ٦٦٠-٦٦٢هـ/١٢٦٢-١٢٦٣م.32

أقدم القبوات المقرنصة الباقية بالشام تعود لتاريخ أسبق، كتلك التى فى مدرسة شادبخت بحلب المؤرخة بـعام ٥٨٩هـ/١١٩٣م.33 إذ لا ينبغى النظر إلى البوابة المقرنصة كظاهرةٍ فريدة، بل يتحتم علينا ربطها بتطور القبة المقرنصة. فقد تطورت القبة الجصية المقرنصة فى نهايات القرن ٥هـ/١١م بالعراق ثم ظهرت بعد ذلك بقرن من الزمان فى الشام حيث اسُتخدمت فى بيمارستان نور الدين (٥٤٩هـ/١١٥٤م) وفى مدفنه (٥٦٧هـ/١١٧٢م) بدمشق.34 ثم بعد عقد من الزمان، على وجه التقريب، بدأ الشاميون استخدام قبواتٍ حجرية مقرنصة كذلك. على نحو مشابه فى غرب العالم الإسلامي، شيد الفنانون المغاربة تحت حكم المرابطين فى فاس وتلمسان قبواتٍ جصية مقرنصة بين عامى ٥٣٠هـ/ ١١٣٦م و٥٣٧هـ/ ١١٤٣م لتزيين بلاطة المحراب فى المسجد.35

أما فيما يتعلق بصقلية، فالسقف الخشبى المقرنص بالكابلا بالاتينا تم تشييده فى فترة معاصرة للقبوات المقرنصة المرابطية. أما فى قصر العزيزة La Zisa ببالرمو (٥٦٠-٥٦٢هـ/ ١١٦٥-١١٦٧م)36 فيشتمل على تنويعٍة كبيرة من القبوات الحجرية المقرنصة التى تزين طواقى حنايا ودخلات نوافذ بالطوابق الثلاثة بالقصر. شُيدت هذه القبوات المقرنصة بنفس التقنية التى شُيدت بها البوابات المقرنصة، وتعد من النماذج الباقية الأقدم للقبوات الحجرية المقرنصة فى العمارة الإسلامية ككل. (شكل:٩)

وتشير الشواهد الباقية إلى أن مصر كانت متأخرة نسبيًا فى تبنى تقنية المقرنصات التى وصلت بالفعل إلى مرحلة الإتقان فى مكان آخر. بالرغم من ذلك، فالنماذج الباقية لا يمكنها تشكيل دليل قاطع حيال هذا الأمر، إذ علينا أن نتذكر أن نسبة كبيرة من المنشآت الفاطمية المهمة، كالقصور وبعض المساجد الرئيسة، قد اندثرت. (ص٢٩٢).

على نحو مشابه، تم تفكيك قلعة ومقر إقامة الصالح نجم الدين أيوب فى جزيرة الروضة - من المؤكد أيضًا أنها كانت مجموعة معمارية متميزة - على يد السلاطين أيبك، وقلاوون، والناصر محمد، فقد استعانوا بها كمصدرٍ لجلب الأحجار.37.

ويجدر بالذكر هنا ما قاله المقريزي، ناقلًا عن مصادر قديمة، حول رسم زائف لمقرنص muqarnas trompe-l’oeil تم تنفيذه فى مسجد من القرن العاشر وهو جامع القرافة 38 المشيد ٣٦٦هـ/٩٧٦-٩٧٧م.39 استخدام هذا الرسم الخدَّاع للمقرنصات يشير إلى أن المقرنص كان معروفًا تمامًا فى ذلك الوقت. بل لقد لاحظ مارسيه أن المقرنصات الموجودة فى واجهة الجامع الأقمر (٥١٩هـ/١١٢٥م) تعد أقل اتقانًا من النماذج المرابطية فى شمال أفريقيا.40

ظهرت القباب الحجرية فى الشام وتونس وصقلية قبل مصر، إذ إن القبة الحجرية القاهرية لم تتطور قبل القرن ٧هـ/ ١٤م. أيًا كان الأمر، فثمة دليلٍ كافٍ يثبت أن القبة الحجرية لم تُجلب من الخارج، وإنما كان تطورها محلي، تدريجي، وينطلق من عمارة القباب الخشبية والآجرية المحلية. 41

من الصعوبة تقدير المساهمة الصقلية على أنها قد قامت بدور «الحافظ» للأشكال والتصميمات التى كانت موجودة يومًا فى القاهرة قبل أن تندثر، أو على أنها كانت المصدر الأصلى لتلك التصميمات. وبناء على الافتراض الأول، فالعمارة النورمانية ربما كانت هى «الحلقة المفقودة» فى تاريخ العمارة المصرية الإسلامية. وكيفما كان الأمر، فالمجموعة المعمارية الدينية للسلطان قلاوون تحمل سماتٍ فنية عديدة كانت شائعة فى صقلية النورمانية، ولكنها كانت غريبة عن القاهرة فى ذلك الزمان. ومن ثم؛ فالتأثير النورمانى المباشر على عمارة هذا المبنى ينبغى أن تُدرس على نحوٍ منفصل.

مجموعة السلطان المنصور قلاوون 42
تحمل مجموعة السلطان قلاوون سماتٍ معمارية وزخرفية أكثر من أية منشأة قاهرية أخرى، إذ تشير إلى أصول صقلية. فبينا يناقش كريسويل عمارة مجموعة السلطان قلاوون بالقاهرة، يلاحظ خصيصة فى زخارف واجهة تلك المنشأة تشير إلى صقلية النورمانية: وهى النوافذ ذات العقدين اللذين يعلوهما قمرية ثم وضع التكوين بأكمله داخل عقد. النافذة التوأمية الموضوعة بداخل عقدٍ يمكن أن نراها فى مناطق انتقال القباب الشامية الأيوبية، وإن خلّت من القمرية. تلك الأخيرة جرى استخدامها هناك أيضًا، وإن كان الأمر على نحو منفصل.

تمكن كريسويل من العثور على النموذج السابق الوحيد لهذا التكوين بالبرج الجنوبى لكاتدرائية مونرياليه فى مدينة بالرمو (ص293) (النصف الثانى من القرن ٦هـ/١٢م) 43 (شكل: ١٠، ١١، ١٢). بالإضافة إلى هذا النموذج، يمكننا أن نرى مثالًا آخر فى برج سان بانتاليونى برافيلُّو فى كامبانيا S.Pantaleone at Ravello، المشيّد تحت حكم النورمان فى ٤٧٩هـ/ ١٠٨٦م (شكل:١٣)، وفى قصر سكلافانى Palazzo Sclafani المشيد عام ٧٣٠هـ/١٣٣٠م ببالرمو. ينسب كريسويل أصل هذه الخصيصة إلى الشام، ويضيف: «كما استقبلت صقلية تأثيرًا كبيرًا من الإسلام، فليس من الغريب أن يتأثر الإسلام فى المقابل». فى الواقع، من الخطأ اعتبار صقلية كمستقبل للفن الإسلامى وحسب؛ فبما أنها كانت إلى حد كبير جزءًا من العالم الإسلامي، فلربما قامت أيضًا بالمساهمة فى تطور الفنون فى المنطقة ككل. 

لا أتفق مع بيلافيوريه Bellafiore فى استخدامه العمارة المملوكية كدليل محتمل لما كانت عليه العمارة الفاطمية، كى يصل فى النهاية إلى تبرير لتلك المتشابهات بين العمارتين النورمانية والمملوكية. وبهدف تفسير مسألة السمات المشتركة نجده ينسبها لأصلٍ فاطمي، ويذهب إلى أن وصول تلك السمات إلى صقلية كان من خلال تأثيرات فاطمية، دون أن يأخذ بتاتًا فى عين الاعتبار احتمالية وقوع تأثيرٍ صقليٍ على العمارة المملوكية. ومن ثم، فهو يعتقد بشكلٍ جازم أن صقلية كانت مُستقبلًا للفن الإسلامى وحسب.

مما يؤسف له أن كريسويل لم يذهب أبعد من هذا أثناء محاولته لإيجاد نماذج موازية فى العمارة النورمانية، وبالرغم من أننا لا ننكر صحة حجته فى أن عمارة مجموعة قلاوون تعكس تأثيرات غربية، وأن تلك التأثيرات رومانسكية أكثر من كونها قوطية. يمكن لأحدهم أن يقول إن واجهة مجموعة قلاوون بأكملها، باستثناء الشريط الكتابى المسمى بالطراز- يحمل بالكاد أية سماتٍ قاهرية أو حتى إسلامية.

جرت العادة على اشتمال واجهات المنشآت التى تسبق مجموعة قلاوون على نوافذ مستطيلة ومقرنصات تتوج دخلات مستطيلة أو ذات عقود منكسرة.keel arches السمة التى تميز واجهة مجموعة قلاوون هى ذلك الصف من الدخلات ذات العقود المدببة التى تقسم الواجهة رأسيًا، وتحتوى على ثلاثة مستويات من النوافذ. والجمع المعتاد بين المقرنصات والعقد المنكسر قد غاب فى هذه الواجهة.

اشتمال الدخلات على عقود مدببة ogival وصنجات مزدوجة، بل وتنظيم الدخلات نفسها على هيئة صف كلها سمات تذكرنا بعناصر استُخدمت فى صقلية، وعلى نحو خاص بواجهة كاتدرائية بالرمو ٥٨١هـ/ ١١٨٥م. 44 أضف إلى هذا، فالاتجاه الرأسى فى واجهة قلاوون، بالمستويات الثلاثة لنوافذ مختلفة الأشكال (ص٢٩٤)، يعد أمرًا غير مسبوقٍ فى آثار القاهرة، ويذكرنا على نحوٍ غامض بعناصرٍ قوطية جرّت العادة على استخدامها لتقسيم الرواق الأوسط فى عمارة الكنائس.

يكتنف الجزء السفلى من الدخلات أعمدة تجرى على طول الواجهة. هذا الاستخدام المكثف للأعمدة الزخرفية ليس له نماذج موازية بواجهات المنشآت القاهرية، ولكنه أحد سمات العمارتين الرومانسكية والنورمانية. (شكل: ١٤، ١٥)

تزدان مئذنة قلاوون، الضخمة المستطيلة الشكل، بعقدٍ فى كل جانب من جوانبها وطبقة من طبقاتها، وتحمل بعض الشبه بأبراج كاتدرائية مونرياليه. على نحو مماثل، لا تحمل هذه المئذنة أيضًا أى شبه بالبنايات المشيدة بالآجر الخفيف التى تميز نهايات العصر الأيوبى وبدايات العصر المملوكى البحري، مثل مآذن الصالح نجم الدين ٦٤١هـ/ ١٢٤٣م وزاوية الهنود (حوالي٦٤٨هـ/ ١٢٥٠م)، ولا بتلك الأبراج المستطيلة بشمال أفريقيا أو الشام. (شكل: ١٢، ١٦)

وفيما يتعلق بالداخل، يتبع مخطط الإيوان الرئيسى بمدرسة قلاوون التخطيط البازيليكي، وهو ما يُعد أمرًا فريدًا فى عمارة المنشآت الدينية القاهرية إذا ما استثنينا مدرسة برقوق المشيدة بعده بقرنٍ من الزمان. فالبلاطة الوسطى تنفصل عن تلك الجانبية بواسطة بائكة من خمسة عقود محمولة على ثلاثة أعمدة ويتوج كل عقد منهم قمرية. 45 كانت البلاطة الوسطى فى الأصل تشتمل على عوارض خشبية تحمل «سقف جمالونى» خشبياً، وهو التكوين الذى اسُتخدم فى كاتدرائية مونرياليه. 

فى حين يمكن نسبة التخطيط البازيليكى لمدرسة قلاوون لمصادر متعددة بالعمارة المسيحية أو البيزنطية، إلا أن مخطط المدفن قليل الشيوع. وهو يتألف من حجرة مستطيلة بمركزها يوجد بناء مثمن يحمل القبة (انظر: المخطط فى نهاية البحث). بالإضافة إلى العقود الثمانية الموجودة داخل هذا البناء، فثمة ثمانية عقود أخرى مستعرضة تربط بناية القبة مع الجدران الجانبية للمدفن. استنادًا على هذا البناء المركزى المثمن التخطيط، فإن مخطط المدفن تم مقارنته بذلك الخاص بقبة الصخرة.

ذاع استخدام القبة المركزية القائمة على أعمدة فى عمارة الكنائس النورمانية، وإن اختلفت فى أن البنية التى تحمل القبة مستطيلة وليست مثمنة. وقد ظهر هذا فى كنائس ترينيتا دى ديليا فى كاستيلفترانو Trinità di Delia in Castelvetrano المشيدة فى منتصف القرن الثانى عشر، وفى سان نيكولو فى ماتسارا ديل فالُّو S.Nicolo in Mazara del Vallo. فقد تم تبنى هذا التكوين أيضًا فى عمارة القصور لذلك؛ من المؤكد أن قصر القبة Cuba ببالرمو كان يشتمل على قبة مركزية تتكئ على أعمدة فى الزوايا الأربع، وكذلك يرجح أن القاعة العليا فى قصر العزيزة كانت مغطاة أيضًا على نحو مشابه.

ينسب بيلافيوريه القبة المركزية فى صقلية إلى (ص٢٩٥) أصولٍ فاطميةٍ شمال إفريقية.فقد ظهر التكوين المؤلف من قاعة ذات قبة مركزية محمولة -على نحوٍ منفصل- على أعمدة فى القاهرة فى القصر الأيوبى الخاص بالصالح نجم الدين والمشيد عام ٦٣٧هـ /١٢٤٠م بجزيرة الروضة، وان كان مختلطًا بمخطط القاعة. ومن ثم فظهور هذا التكوين فى مدفن قلاوون، جنبًا إلى جنب مع المخطط البازيليكى فى المدرسة، يمكن أن يكون بسبب تأثيرٍ صقلى يتجلى كذلك فى عناصر أخرى بالمنشأة.

دخلت القمرية فى العمارة النورمانية على يد العرب الذين استخدموها قبل ذلك فى قبة الجامع الكبير فى القيروان فى القرن التاسع، وكذلك فى خربة المفجر.أقدم مثالٍ باقٍ فى القاهرة يعود تاريخه إلى جامع قلاوون، حيث اسُتخدم بكثرة فى الخارج وفى داخل المدرسة والمدفن على حدٍ سواء. القمريات الداخلية يحيط بها شريط جصى منقوش وتم تعشيقها بشبابيكٍ جصيةٍ بديعةٍ ذات تصميماتٍ هندسية أو وفق اسلوب التوريق.

هذا الاستخدام المكثف لعنصر دائرى يذكرنا أيضًا بعناصر زخرفية نورمانية. فقد زُينت واجهات كاتدرائيات بالرمو ومونرياليه بدوائر ملبسة بتصميمات هندسية موضوعة فوق وبداخل الدخلات المعقودة. يبدو أن القمريات التى بقلاوون عبارة عن ترجمة على هيئة عمل مفرغ للفكرة نفسها.

يمكن رؤية بعض السمات التى تميز مجموعة قلاوون أيضًا فى مدفن فاطمة خاتون (٦٨٢-٦٨٣هـ/ ١٢٨٣-١٢٨٤م)، الذى شيده قلاوون من أجل زوجته، وفى مدفن الأشرف خليل بن قلاوون (٦٨٧هـ/١٢٨٨م). زينت رقبة قبة هذا الأخير بصفٍ من الدوائر الجصية المتشابكة التى تتبادل مع ميمات. كل دائرة ثانية تم فتحها على هيئة نافذة قمرية يغطيها شباك. تلك الدوائر والميمات، برغم انتشارها فى الفنون الزخرفية، لم تستخدم فى العمارة القاهرية فى الوقت التى كانت فيه شائعة فى الزخارف المعمارية النورمانية. فنراها فى التلبيسات الحجرية متعددة الألوان الموجودة فى واجهة حنية كاتدرائية بالرمو، وكذلك فى الزخارف الفسيفسائية الموجودة فى فوارة قصر العزيزة. (شكل: ٩، ١٧)

ليس للزخارف الثرية المنفذة بالفسيفساء الرخامية الموجودة فى مدفن قلاوون أى نموذجٍ سابقٍ فى القاهرة، وقد كان لها تأثير قوي جدًا على الزخارف المعمارية المملوكية بالقرون التالية، وإن كانت جودتها العالية لا تزال منقطعة النظير. فالأسلوب الفنى المستخدم هنا، والمعروف أيضًا بـOpus alexandrinum، والذى يوظف قطعًا فسيفسائية مربعة ومثلثة بهدف تكوين تصميمات هندسية، تم تطبيقه لزخرفة أرضيات الكنائس البيزنطية منذ (ص٢٩٦) القرن التاسع الميلادي. تم استخدام نفس الأسلوب كذلك فى الكنائس الرومانسكية فى القرنين ٦هـ/١٢م و ٧هـ/ ١٣م، حيث يطلق عليه الأشغال الكوسماتية Cosmati work.46

يمكن مشاهدة هذا الأسلوب الفنى فى صقلية على أرضيات الكابيلا بالاتينا وكاتدرائية مونرياليه وسانتا ماريا ديل أميراليو S.Maria dell’Ammiraglio إذ تم استخدامه مصحوبًا بتصميمات إسلامية متشابكة. نرى نفس الأسلوب أيضًا فى أجزاء من وزرات الكابيلا بالاتينا وكاتدرائية مونرياليه. (شكل: ١٨، ١٩، ٢٠)

إذا وضعنا فى الاعتبار الظهور المفاجئ لهذا الأسلوب الفنى فى مدفن قلاوون بل والتنفيذ الشديد المهارة له، لصار مرجحًا لنا أن سبب الظهور هذا هو قدوم فنانين. طبقًا لكريسويل فإن أقدم فسيفساء رخامية فى العمارة الإسلامية موجودة فى كوشات محراب بيمارستان نور الدين بدمشق (٥٤٩هـ/ ١١٥٤م). مع ذلك، فالمحراب مساحته محدودة وهذا الأمر يذكرنا بالفسيفساء الرخامية الموجودة بمدفن الظاهر بيبرس والذى شيده ابنه فى ٦٧٦هـ/١٢٧٧م وأكمله قلاوون فى ٦٧٩هـ/ ١٢٨٠م. على أية حال، لم تعد هذه هى أقدم نماذج باقية فى العمارة الإسلامية، حيث تم الكشف عن بقايا فسيفساء رخامية فى قلعة بنى حماد، فضلًا عن معرفة مدينة الموصل للفسيفساء الرخامية خلال القرن ٦هـ /١٢م. 

جدير بالملاحظة أنه باستثناء بعض الحشوات الرخامية المنقوشة بأشكال الطيور والأسود، والمحفوظة حاليًا بمتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، ليس لدينا معلوماتٍ متوافرةٍ بشأن الزخارف الرخامية الفاطمية والأيوبية. وفى وصفه للقصور الفاطمية بمناسبة زيارة المبعوث الفرنجي، كتب وليام الصورى 47 : «كان الفناء مرصوفًا بأسرة من الرخام الملون المحلى بالذهب الخالص الثمين». كذلك ثمة إشارة إلى استعمال الديرانى ديسيديريوس Desiderius (البابا فكتور الثالث) فى القرن الحادى عشر فنانين عرب ويونانيين من الإسكندرية والقسطنطينية لتنفيذ أعمال الأرضية الرخامية الملبسة بالرخام لدير مونتيه كاسّينو Monte Cassino. 48 لعل هذه الإشارة تشير إلى اعتياد فنانى مصر الفاطمية على عمل الفسيفساء الرخامية البيزنطية. وربما تم هجران هذا الأسلوب الفنى بعد ذلك، ثم أعيد إحياؤه خلال عهد السلطان قلاوون.

وتحمل الوزرة الموجودة بمدفن قلاوون تشابهًا كبيرًا مع تلك الموجودة فى قاعة الفوارة بقصر العزيزة (شكل: ٢١، ٢٢). فى كلتا الحالتين، يزخرف الجزء السفلى من الجدران ألواح رخامية رأسية موضوعة بداخل إطارات وأعمدة مدمجة موضوعة بأركان الجدران والدخلات كلها. (ص297)وبالرغم من ملاسة الحشوات الرخامية الموجودة بقصر العزيزة، نجد الوزرة الموجودة بمدفن قلاوون مزخرفة بالفسيفساء.

وتُعد العقود المتقاطعة إحدى سمات العمارة فى شمال أفريقيا والأندلس، وقد ظهرت مرارًا فى العمارة الصقلية النورمانية. يندر وجود هذا العنصر فى عمارة القاهرة فأقدم ظهور له كان موجودًا فى الطابق الثالث لمئذنة السلطان قلاوون والذى أعاد تشييده ابنه الناصر محمد عقب زلزال ٧٠٣هـ/١٣٠٣م، إذ ربما يتشابه -نوعًا ما- مع الطراز الأصلي. تم زخرفة هذا الطابق بعقود جصية مدببة ogival متقاطعة تشبه الطراز النورمانى الكامبانى المغاير للطراز الإسلامى ذى العقود الحدوية المنتشر فى غرب العالم الإسلامي. وتشتمل علي عددٍ من المنشآت الواقعة فى منطقة كامبانيا الإيطالية على عقود متقاطعة تتميز، كما هو الحال فى مئذنة قلاوون، بتشابكها عند القمم مع دوائر متقاطعة. ربما جاء هذا الطراز الزخرفى إلى مصر بتأثير صقلى أو كامباني؛ أى أنه ليس تأثيرًا أندلسيًا. (شكل: ١٦، ٢٣) 

يمكن للصلات مع صقلية كذلك تفسير إحياء بعض العناصر التى استخدمت فى التاريخ المبكر للقاهرة ثم هجرانها بعد ذلك. إذ يبدو أن هذه العناصر التى كانت شائعة أيضًا فى العمارة النورمانية قد أعُيد تقديمها مرة أخرى لقاهرة القرن الثالث عشر. من خلال تلك العناصر، ومنها التصميم الدالى المنقوشzigzag carved pattern الذى اسُتخدم قبل ذلك فى عقود مقياس النيل المشيد فى القرن الـ٩ الميلادى فى الروضة ولم يُسجَّل استخدامه بعد ذلك لمدة أربعة قرون حتى ظهوره فى بوابة جامع الظاهر بيبرس. على نحو مشابه، فالصنجات التى تشبه المخدات،49 وهى إحدى السمات التى تميز زخارف العمارة النورمانية، تم استخدامها فى باب الفتوح فى نهايات القرن ٥هـ/١١م ولم يُسجل ظهورها بعد ذلك حتى جامع الظاهر بيبرس ومنشآت مملوكية بَحْرية لاحقة.

وعزا «ماينيكيه» الرخام المنقوش فى مدفن قلاوون إلى تأثيراتٍ بيزنطية، مرتكزًا إلى العلاقات الدبلوماسية بين المماليك وبيزنطة. وفى سياق المقارنات التى عرضناها هنا لهذه التقنية، يبدو من الأحرى القول بأن التأثير البيزنطى قد جاء مصر من خلال القناة الصقلية. ويمكن لهذا أيضًا تفسير ظهور زخارف الفسيفساء الزجاجية بمحراب مدرسة قلاوون.

ومن ثم، فقد رأينا أن السمات المعمارية التى كانت شائعة فى العمارة الصقلية خلال القرن الثانى عشر قد ظهرت داخل القاهرة فى حدود النصف الثانى من القرن الثالث عشر على نحو شديد الوضوح فى المجموعة الدينية الخاصة (ص٢٩٨) بالسلطان قلاوون. وقد تجلت بعض هذه السمات فى الشام تقريبًا خلال نفس توقيت ظهورها فى صقلية، ويرجع هذا ربما إلى تبادلاتٍ فنية مكثفة بين الشام وصقلية النورمانية أكثر من مصر فى ذلك الوقت. كان هنالك اهتمام كبير بالإنشاء فى صقلية خلال القرن الثانى عشر، وكان الوضع مواتيًا لعمل الفنانين هناك، فى حين أن الوضع داخل مصرأثناء تلك الفترة كان أقل ملائمة، ولا سيما فى منتصف القرن؛ أى حين كانت الخلافة الفاطمية آخذة فى الانهيار ووقت أن كان التهديد الصليبى قويًا.

لكن فى النصف الثانى من هذا القرن أخذت العمارة العسكرية نصيب الأسد فى الأعمال الإنشائية الأيوبية فى القاهرة، وإن تغير الأمر خلال القرن الثالث عشر عندما جرى تشييد كل من قصور القلعة وتلك الموجودة فى الروضة، ثم ازدهار العمليات الإنشائية المملوكية بعد ذلك. بدأ كل هذا فى جذب الفنانين المسلمين القادمين من مناطق أخرى. فلربما هاجر عرب صقلية أو سكان جنوب إيطاليا إلى مصر تحت وطأة ظروف كهذه.

أياً كان الأمر، فمسألة وجود تأثيرات صقلية على العمارة المملوكية المبكرة لا تزال تطرح بعض الإشكاليات. فقد تم إنشاء مجموعة السلطان قلاوون بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن منذ سقوط الحكم النورمانى لصقلية، والذى مثّل أيضًا نهاية الطراز المعمارى النورمانى بالجزيرة. ومن ثم؛ فجيل الفنانين الذين ساهموا فى الفن النورمانى قد قضوا نحبهم آنئذٍ. هذا، وعندما غزا الأرجونيون Aragonese صقلية فى ٦٨١هـ/١٢٨٢م، لم يكن هناك عرب تقريبًا يعيشون فى الجزيرة، فقد توقف التأثير العربى على الفنون قبل ذلك بكثير. فكيف إذن انتقلت تصميمات نورمانية إلى العمارة المملوكية؟

استمر وجود المستوطنة العربية فى لوتشيرا Lucera، التى أسسها فردريك هوهينشتاوفين Friedrich von Hohenstaufen، حتى عام ٧٠٠هـ/ ١٣٠٠م حين جرى التخلص منها على يد أسرة أنجو Anjou. وقد قام الظاهر بيبرس بعلاقاتٍ ودية مع مانفريد Manfred ابن فردريك هوهينشتاوفين، ولكن نهاية أسرة هوهينشتاوفين فى ٦٦٤هـ/ ١٢٦٦م  -ربما- ساهمت فى تحفيز العرب القائمين بلوتشيرا -وكان بينهم عدد كبير من الفنانين- للبحث عن سبلٍ تُقُّلهُم مرة أخرى إلى العالم العربي.

لم تكن هذه هى الحالة الوحيدة لانتقال «متأخر» لتصميم معماري. فبوابة جامع السلطان حسن ٧٥٧-٧٦٠هـ/ ١٣٥٦-١٣٥٩م تشبه بوابة جوك مدرسة Gok Medrese المشيدة قبل السلطان حسن بأكثر من ٧٠ عاما، فى ٦٧٠-٦٧١هـ/ ١٢٧٢-١٢٧٣م فى مدينة سيواس Siwas. إذ يطرح الامر عدة تساؤلات حول سبل انتقال المعرفة المعمارية فى العالم الإسلامى القروسطوي.

أضف إلى هذا، (ص٢٩٩) لا تشير المتشابهات التى تم عرضها هنا بين مجموعة قلاوون وبين العمارة النورمانية إلى أنموذج محدد ولا إلى مفهومٍ معمارىٍ، ولكن إلى سلسلة من العناصر التى يمكن رؤيتها فى منشآت نورمانية متنوعة؛ حقيقة يمكنها أن تعكس تصميماتٍ لمنظمة عمالية. فإن انتقال تصميماتٍ معمارية وزخرفية عبر المكان والزمان هى مسألة متعلقة بالطرق التى ينتحلها الفنانون فى عملهم؛ لذلك فهذا الموضوع يستحق عمل أبحاثٍ موسعة بصورة أكبر وعمل دراسات مقارنة.