يوميات الأخبار

خواطر.. وتداعيات رمضانية

محمد بركات
محمد بركات

هذه إطلالة متأنية على ما كانت عليه حالتنا الرمضانية، فى زمن عشناه قبل منتصف الستينات،..، وما أصبحت عليه الحالة الرمضانية الآن

مهما تعاقبت علينا فصول العام وشهوره صيفًا أو شتاءً، وبينهما خريف هين ومعتدل أو ربيع عاصف ومترب،..، ومهما تغيرت من حولنا طبيعة الجو ودرجات الحرارة، لتحيطنا ببرودتها القارصة فى الشتاء، مثل التى مررنا بها منذ أسابيع، أو تفاجئنا بدفء مفاجئ وغير متوقع مثل تلك التى زارتنا منذ أيام،..، مهما حدث ذلك وبالرغم منه، يظل لشهر الصوم «رمضان الكريم» لدى كل المصريين طبيعة خاصة ومذاق متفرد، لا يشابهه شيء على الإطلاق، ولا يدانيه فى طبيعته ومذاقه شهر آخر من الشهور.

ففى رمضان صيفًا أو شتاءً ترق القلوب وتصفو النفوس، ويتطلع المرء إلى مرضاة الله عز وجل، ويحاول جاهدا التقرب إليه، وتهفو إلى رحمته وغفرانه قلوب البشر ونفوسهم، آملة متوسلة راجية فى القبول والسماح من الرحمن الرحيم رب العالمين مالك يوم الدين، الذى وسعت رحمته كل شيء،..، القادر على المغفرة والهداية، والسميع البصير بمكنون الصدور، وما يعتمل فى أغوار النفس البشرية ما ظهر منها وما بطن.

الحالة الرمضانية

ويدرك جميع المصريين هذا الذى أقوله، ويعرفون أن طبيعة الشهر الكريم تهل عليهم مع لحظة الإعلان عن ثبوت الرؤية لهلال رمضان، وتحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم فور هذا الثبوت وذلك الإعلان، فإذا بنا جميعا نعيش الحالة الرمضانية، بكل ما فيها من روحانيات سامية، ورغبات جارفة للتوبة والمغفرة والهداية.

ولعلى لا أبالغ إذا ما قلت إنى كنت ومازلت على قناعة بأن كل المصريين فى ذلك سواء، يستوى فى ذلك أبناء المدن وساكنو الريف، الكل يعيش الحالة الرمضانية، كل على قدر استطاعته، والكل يسعى لمرضاة الله، ويأمل فى كرمه ورحمته، والكل يقشعر منه البدن ويرتجف الوجدان، وهو ينصت خاشعا إلى آيات الذكر الحكيم أو إلى أذان المغرب، بصوت الشيخ «محمد رفعت» رحمه الله، والكل ينتظر دقات المسحراتى ويطرب بها، وكنت ولازلت متصورا أن كل الصبية مازالت تراودهم رغبات النزول لمرافقة المسحراتى، فى تجواله لإيقاظ وتنبيه من غلبهم النوم، بصوته المألوف ودقات طبلته الحادة، كما كنا نفعل ونحن فى عمرهم منذ سنوات وسنوات، فى أيام وليالٍ مازالت محفورة فى الذاكرة حتى الآن رغم مرور السنين.

ألف ليلة.. وليلة

فى تلك الأيام ولياليها الجميلة منذ سنوات وسنوات، كنا صغارا فى بواكير الصبا، وكانت أحلامنا كبيرة وخيالنا يسع الدنيا كلها وينطلق بلا حدود فى مكان أو زمان، تغذيه حكايات وقصص «ألف ليلة وليلة» التى كانت سمة أساسية مميزة لشهر رمضان، بما فيها من كسر للمألوف وقدرة فائقة على جذب الإنتباه، والاستحواذ على المشاعر والألباب، تأخذنا معها للغوص فى أعماق البحار حيث ممالك الجن. وتصعد بنا إلى قمم الجبال على أجنحة طائر الرخ (وتعود لتطوف بنا فى أرجاء بعيدة من أطراف أرض الله الواسعة، لترينا بعين الخيال وتسمعنا فى ذات الوقت من خلال صوت المذياع «الراديو» ما لا عين رأت ولا أذن سمعت). وكنا فى تلك السن وتلك الأيام، حين نلتقى مع أقراننا فى المدرسة صباحا، أو أماكن وساحات اللهو واللعب بالمساء نتسابق للحكى عما سمعناه من قصص «شهر زاد» وحكاياتها «لشهريار»، وعادة ما كنا نضيف من عندياتنا حواشى كثيرة للقصة والحكاية على قدر ما أعطى الله لكل منا من خيال جامح ومنطلقا.

وكان ذلك يسعدنا أيما سعادة، ونطلب المزيد منه ممن توافرت لديهم هذه الموهبة منا، وفى كثير من الأحيان كانت قصص وحكايات هؤلاء الأصدقاء تبدأ بما جاء فى ألف ليلة، ولكنها سرعان ما تتفرع بعيدا عن النص لتنسج قصصاً أخرى قائمة بذاتها، دون اعتراض من أحد منا، بل وسط تشجيع الكل وإنصاتهم النهم لكل ما تجود به قريحة الأصدقاء وخيالهم الخصب.

وفى تلك الأيام وتلك السن ما بين السابعة وما بعدها حتى ما دون الثالثة عشرة، كنا ننتظر مدفع الإفطار وأذان المغرب ابتداء من بعد العصر صيفا أو شتاء ونحن نمرح ونتسامر، واضعين فى جيوبنا بعض البلح الجاف «التمر» بعدد الأصدقاء المقربين لكل منا، بحيث نسارع فور انطلاق المدفع وبدء الأذان لنتناولها معا، مع مشاعر دافقة من الود والسعادة،..، ثم ننطلق إلى بيوتنا لتناول الأفطار على موعد اللقاء بعد ذلك فى المساء.

الحضرة.. والورد

وفى ليالى رمضان فى تلك الأيام، وفى ذلك المكان حيث إحدى قرى الدلتا، كانت لنا سهرات أسبوعية مع الكبار من الأهل، تضم الآباء والأقارب والأصدقاء من الرجال، حيث تقام بالتناوب فى بيت أحدهم ليلة للدعاء وقراءة القرآن وبعض الأوراد فى رمضان، ونطلق عليها «الحضرة»، وكنا ونحن الصغار حريصين على إثبات الحضور والتواجد ومحاولة مجاراة الكبار فى القراءة من كتب «الأوراد» بصوت مرتفع حتى يشعر بنا الجميع ويدركون مشاركتنا لهم.. وكنا كثيرا ما نخطئ فى القراءة، وكانوا كثيرا ما يصححون لنا فى حالة انتباههم،..، أما إذا كانوا قد دخلوا فى حالة من الانفعال والتدفق الوجدانى، فلا ينتبه أحد منهم لأخطائنا وتعثرنا فى القراءة، ولذا كانت تمر مرور الكرام،..، أو هكذا كنت أظن وأتخيل وأتمنى، حتى أتى اليوم الذى نبهنى فيه عمى الكبير بعد انتهاء الحضرة، وكنت قد أخطأت كثيرا فى قراءة «الورد»، وتصورت كالعادة أن أحدا لم يلاحظ وتهيأت للإنصراف لشأن من الشئون،..، فإذا به يستوقفنى وكان الجميع قد انصرفوا حيث كانت الحضرة فى منزلنا، ونظر إلىّ فى رفق وهو يضع يده على كتفى ويقول، «فى المرة القادمة لابد أن تقرأ الورد قبل بدء الحضرة حتى تستطيع تجنب الأخطاء،..، وفى كل الأحوال يستحسن ألا ترفع صوتك كثيرا فوق أصوات الكبار»،..، وكم كان خجلى كبيرا وموجعا فى تلك الليلة، ولكنى آليت على نفسى بعدها المواظبة على قراءة «الورد» قبل كل حضرة، وأيضا كنت أخفض من صوتى قدر الاستطاعة، حتى لا أتعرض لما تعرضت له تلك الليلة.

وظللت على تلك الوتيرة عدة أيام حتى لاحظ عمى ذلك وتنبه إليه، فإذا به يطلب منى فى أحد الأيام أن أقرأ له ما فى الورد، فلما فعلت ولم أخطئ تهلل وجهه وقال، «الآن يمكنك أن ترفع صوتك وأنت تقرأ معنا»،.. وكم كانت سعادتى كبيرة وأنا أفعل ذلك.

بداية التحول

كان هذا هو واقع الحالة الرمضانية التى عايشتها وغيرى من الأقران، فى واحدة من قرى مصر ومجتمعاتها الريفية المتشابهة مع غيرها من القرى والبلدات الريفية الصغيرة الممتدة بطول الدلتا وعرضها فى سنوات نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وما قبل ظهور وانتشار الشاشة الصغيرة «التليفزيون».

وفى ظنى أنه رغم اختلاف المكان وطبيعة الحياة وتسارع أو رتابة وقعها، وارتفاع أو انخفاض صخبها بين القاهرة حيث العاصمة، وبين بقاع الريف المختلفة فى القرى والمدن الصغيرة فى المحافظات المختلفة، إلا أن خصائص الحالة الرمضانية لم تكن تختلف كثيرا فى جنوحها للروحانية وميلها فى ذلك الوقت من بداية الستينات فى الريف والحضر، وهو ما أدى إلى التأثير على ملامح وشكل الحياة فى مصر، وجعلها كلها تقريبا متشابهة فى الشكل والإيقاع.

ولكن بدأ هذا الشكل وذلك الإيقاع يختلف نوعا ما ورويدا رويدا مع منتصف الستينات، نظرا لما طرأ عليها من متغيرات على المستوى السياسى والاجتماعى والثقافى،..، وقد طال هذا المتغير أيضا الحالة الرمضانية، بحيث أصبحت مختلفة عما كانت، وقد تباين هذا الاختلاف من مكان إلى آخر، وعلى قدر ما طال هذا المكان من متغيرات اجتماعية وثقافية.

وأنا هنا لا أوجه إدانة إلى ما حدث من تغير أو تحول، ولكنى أقوم فقط بمحاولة موضوعية للرصد وتسليط الأضواء وقراءة لما جرى دون إضافة أو نقصان.
وفى هذا السياق لابد أن نسجل أن الزمن قد فعل فعلته وأتت الأيام والشهور والسنون بما تأتى به دائما من متغيرات ومستحدثات ومستجدات، طالت الأمكنة والناس والمجتمعات فى كل القرى وكافة المدن بطول مصر وعرضها.

تخمة الطعام

وفى أطار الرصد لما هو قائم الآن، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، يستوقفنى بشدة كلما هل علينا شهر رمضان الكريم، ذلك الخلط السيئ الذى وقعنا فيه جميعا سواء فى الريف أو الحضر، بالمحافظات أو العاصمة، بين روحانيات الشهر الفضيل، والإغراق فى الإسراف السفهى فى الطعام والشراب،..، كما يستوقفنى أيضا ذلك الربط الظالم والمتعسف الذى نقوم به دائما، بين ليالى رمضان المباركة، التى يجب أن نضيئها بوهج المعرفة ونحييها بنور التفكر والتعبد،..، وبين ما نمارسه اليوم من الغرق الإرادى فى دوامة التسلية والسمر والسهر.