محمد شعيرعن كامل التلمساني.. عزيزى كامل

كامل التلمسانى
كامل التلمسانى

حسب معاصريه، كان كامل التلمسانى سريع الملل، مشحونا بالقلق، حاد الطباع، يتكلم فى ثورة عارمة، لا يحمل تحت شاربه الكث فما، بل فوهة، تظنها فوهة مدفع أو فوهة بركان. وكان- أيضا-  كتلة من المتناقضات، تلتحم وتتصارع فى لحظة واحدة بين جوانحه، وسرعان ما تتحول من حالٍ إلى حال.

2
القلق الدائم قد يكون مفتاح شخصية  التلمسانى (1915-1972)، قلق قادة إلى ثورة دائمة، من مغامرة إلى مغامرة أخرى، كان يذهب إلى الحدود القصوى فى الفن، ثم يتخلى عنه ليبدأ رحلة جديدة، يتخلى عن كل ما يقد يثقله، يريد دائما أن يكون خفيفا كريشة. 

اقرأ أيضاً | منى‭ ‬الشيمي:‬ الأدب‭ ‬التسجيلي‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬مكانه‭ ‬بعد‭ ‬في ‬مصر

 درس الطب وفى السنة النهائية قرر ألا يكمل دراسته ليتفرغ للفن التشكيلي، قدم بيانات عن الفن الشرقي، ثم قادته المغامرة إلى السريالية، وأقام عددا من المعارض الجماعية والمفردة، ولكنه ترك كل ذلك من أجل السينما، وفى السينما كان محملا بطموح تغير خارطة السوق، فاصطدم بإرادة جمهور يريد فنا للتسلية. ثم وجد نفسه متهما فى قضية عبثية ليغادر مصر نهائيا إلى بيروت ويعمل مستشارا للرحبانية، ويموت قبل منتصف الخمسين، تماما مثل رفاقه جورج حنين وفؤاد كامل ورمسيس يونان، ماتوا جميهم فى سن متقارب، وزمن متقارب، وعاشوا جميعهم حياة صاخبة. ماتوا – كما قال جورج حنين- مثل أبناء الفيلة منفردين ووحيدين.

3
فى ديسمبر 1938 وقع ما يقرب من 32 مثقفا  مصريا، أو مقيمين فى مصر البيان الشهير «يحيا الفن المنحط»، ردا على معرض فنى أقامه الفاشيون فى ميونخ بعنوان الفن المنحط  وكان المعرض يتألف  من 650 عملا فنيا حديثا، علقت بشكل عشوائى مصحوبة بملصقات نصية تسخر من الفن. صمم المعرض لإثارة الرأى العام ضد الحداثة، وانتقل بعد ذلك فى عدة مدن أخرى فى ألمانيا والنمسا.

اقرأ أيضاً | منى‭ ‬الشيمي:‬ الأدب‭ ‬التسجيلي‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬مكانه‭ ‬بعد‭ ‬في ‬مصر

ومن بين الأعمال المعرضة لوحات لمارك شاجال، بول كيلي،بيكاسو، ورينوار .. وقد شكل بيان المصريين نواة لتأسيس الحركة السريالية المصرية،  إذ أعلن بعد شهر واحد عن تأسيس جماعة «الفن والحرية» التى تشكلت من ثلاثة روافد: جماعة المنبوذين وهى حلقة تجمعت حول أنور كامل بعد صدور كتابه «الكتاب المنبوذ» وضمت فؤاد كامل وكامل التلمساني، وجماعة الدعاية الفنية التى ضمت رمسيس يونان، وجماعة المحاولين التى ضمت جورج حنين. 



وهى المجموعة التى وصفها لويس عوض بأنهم للتدليل على ثقافتهم وحجم المأمول منهم:  « كانوا طوال الوقت يتحدثون الفرنسية، لا الفرنسية البزرميط التى اكتسبها المصريون من الشوام؛ بل فرنسية المثقفين فى باريس، فرنسية الكتب.

وكانوا يُجيدون الإنجليزية المثقفة. وكانوا يُتقنون العربية ولهم فيها أساليب. ولم أكن أرى شيئاً على المصاطب أو على الأرض أو فى الأركان إلاّ ديوانـاً لرامبو، أو أندريه بريتون أو أراجون، أو رواية أو بحثاً عن حضارة الأنكا والأرتيك والزنوج».

وكان من أهم أهداف الجماعة  حسب بيانها التأسيسي: الدفاع عن حرية الفن والثقافة، ونشر المؤلفات الحديثة، وإلقاء المحاضرات، وكتابة خلاصات عن كبار المفكرين فى العصر الحديث، وأخيرا تعريف الشباب المصرى بالحركات الأدبية والفنية والاجتماعية فى العالم.

ورغم أن لويس عوض كان يرى أن للجماعة ثلاثة أئمة: أنور كامل فى السياسة، وجورج حنين فى الأدب، ورمسيس يونان فى الفن، إلا أن أنور كامل يضع كامل التلمسانى بديلا ليونان لدوره التأسيسى فى الجماعة.، وفى تشكيل رؤيتها، وتوجهاتها.

كان التلمسانى أكثر أعضاء الجماعة دفاعا عنها، بعد أن تعرضت لهجوم شديد فى مجلة الرسالة، وقد كتب مقالات عديدة اعتبر فيها أننا نريد حضارة تسير مع العالم ولا نريد أن نقف حين يسير الجميع. ويوضح فى مقالاته الدفاعية مخاطبا المهاجمين للجماعة: « هل رأيت يا سيدى (عروسة المولد الحلاوة) ذات الأيدى الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصص أم الشعور والشاطر حسن وغيرها من الأدب الشعبى المحلي.. كل ذلك يا سيدى سيرياليزم. هل رأيت المتحف المصري.. كثير من الفن الفرعونى سيرياليزم. هل رأيت المتحف القبطي.. كثير من الفن القبطى سيرياليزم. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية، بل نخلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد السمراء وتمشّى فى الدماء من يوم كنا نعيش بتفكيرنا المطلق حتى هذه الساعة يا صديقي».

4
كلمات  قليلة كتبها كامل التلمسانى فى كتالوج المعرض الأول للفن الحر: «السواد والدماء والأشكال الممزقة والخطوط الحزينة الصارخة هى الصورة الوحيدة التى يمليها عالم غير متجانس تعيش فيه إنسانية مشوهة»..يشرح فى هذه الكلمات أسباب اختياراته للسريالية. 

ولكن هل كان كامل- بالفعل-  سيرياليا؟ 

5
كانت السريالية لدى كامل مجرد مغامرة أيضا من مغامراته العديدة، مغامرة عابرة لم يتوقف أمامها طويلا، ولم يكن مخلصا لها إخلاصا تاما، فقط ثلاث سنوات ثم غادرها إلى مغامرة أخرى، يفسر البعض مغادرته الى اختلاف فى الرؤى بينه وبين جورج حنين، أو بسبب انتقاد حنين له  فى معرض الفن الحرالثالث. لكن يبدو أن الأمر أعمق من ذلك. تقاطعت بعض أفكاره الفنية معها، وتعارضت معها فى بعض الأفكار. 

 فى تلك السنوات الثلاثة كان كامل سرياليا بطريقته الخاصة، يؤمن بأن  «الفن معمل بارود» عبارة الكاتب اليونانى نيكولا كالاس والتى أشار إليها حنين ويونان والتلمساني، ولكنه على الجانب الآخر يؤمن أيضا بالانتماء الكامل إلى الحياة المصرية، إلى الواقع إلى المعنى والرسالة الكاملة. فى إعلان المستشرقين الجدد(1937) يتحدث عن معالم لفن محلى جديد، كما أن معظم اهتماماته فى مجال الكتابة فى تلك الفترة ارتبطت بالسينما فن القرن الجديد، أو الرغبة فى الوصول إلى  الجمهور. يكتب فى المجلة الجديدة « تميز القرن العشرون بفنون ثلاثة هى: الصحافة والسينما والاذاعة. وعلى هذه الفنون الثلاثة يعتمد العالم فى كل أموره، وهذه الفنون الثلاثة تحتل اليوم ما كان لكل الفنون مجتمعة من قبل وعليها وحدها يتوقف كل أمل المستقبل وحياة الغد... وفيها طريق الخلاص الذى يرقبه الجيل الجديد».

6
كان كامل أول المغادرين للسريالية، بعد اربع سنوات أصدر جورج حنين ورفاقه بيانهم بانهاء تلك المرحلة تماما،  أعلنوا فى بيانهم معلنا فى أن القيمة الوحيدة، القيمة المنسية، القيمة المهددة هى الفرد، ونصرخ بأن للفرد موارد ثمينة لم تكتشف ولم تستغل بعد وأولها الخيال بما له من صفة جهنمية، بما فيه من قوة اندفاع وانطلاق.

الفرد فى وجه الدولة 
الخيال فى وجه المادية الديالكتيكية
الحرية فى وجه الإرهاب المتشعب
اختار حنين الصمت لأنه وسيلة من وسائل المقاومة، والاكتفاء بالعمل الصحفي، وانتقل رمسيس وفؤاد كامل إلى مرحلة جديدة فى الفن: التجريد.

7
فى تلك الفترة كان كامل يخوض مغامراته السينمائية، ويصدر كتبا، أصدر «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية» 1957، و«عزيزى شارلي» ـ 1958، كما كتب رواية مفقودة بعنوان «أم محمد» عن سيرة والدته، لم يكن على تعارض تام مع الخط الوطنى للدولة، ولكن الدولة نفسها كانت لديها هواجسها تجاهه، وتجاه السرياليين القدامى، وتجاه اليسار كله. سافر التلمسانى الى إسبانيا لفترة، وعمل هناك مساعدا فى الإخراج، ولكنه لم يمكث طويلا، سافر إلى لندن وعمل فى إذاعة البى بى سى وكتب لها عشرات المسلسلات والبرامج الإذاعية، ثم كانت رحلته الأخيرة، وربما الأطول فى الاستقرار عندما سافر الى بيروت ليعمل مع الرحبانية مستشارا فنيا.

وبعد رحيله فى 6 مارس 1972 بكته فيروز. وتذكرت حوارهما الأخيرة عندما حدثها عن أمنيته أن يسافر الى مصر، ويسكن فى قريته مع زوجته الجديدة، ويكتب فى تلك القرية رحلة عذابه فى الحياة. داعبته فيروز: هذه أحلام شابة وكثيرة على رجل فى الخمسين. قال لها فى مرح: لا مجال للحديث الآن عن العمر..حتى الموت لن يفكر فيه قبل الثمانين!