جورى جراهام: نكتبُ كى نتغير |حوار

جورى جراهام
جورى جراهام

جورى جراهام إحدى أقدَر الكاتبات الأمريكيات على رسم الخرائط، لكل شيء، فى كل مكان ودفعة واحدة. وصفها جيمس لونجينباخ، بأنها تستخدم «الإنسان برمته كموضوع لشعرها، بدلاً من الشريحة الشعورية المحدودة المُدَخرة للقصائد فى الغالب». تؤرِخ جراهام للضخامة، الضخامة الهائلة لكوكبنا، بل وضخامة الذات أحيانًا.

«أنا ضخمة»، تكتب بأسى، فى قصيدتها «صلاة وُجدت تحت ألواح الأرضية»، وهى رثاء لما يطمره البشر. تتنوع مواضيع قصائد جراهام بين السياسة والتكنولوجيا والتاريخ الطبيعى وأزمات المناخ.

درست جراهام الفلسفة وصناعة الأفلام، وهى المجالات التى تعمل بتدريسها. قصائدها مليئة بإخطارات سمعية وبصرية، مجردة ومُعاد تصورها حتى تصل إلى جوهر التأمل.

بعض أفكارها تخرجُ بقوة الانطباعات الحسية. فى عام 1996، فازت مجموعتها «حُلم الحقل الموحد: قصائد مختارة 1974-1994» بجائزة البوليتزر الأمريكية. تبع ذلك المزيد من التكريم، بما فى ذلك زمالة ماك آرثر وتعيين فى أكاديمية الشعراء الأمريكيين.

من المُغرى دومًا سرد قصة منمقة عن تطور عمل الفنان. أنت مهتمة بالإدراك الحسى والذاتية والفلسفة؛ يمكن وصفك أيضًا بما يسمى شاعرة طبيعية، ومؤخراً شاعرة عامة، تكتبين عن مصير الإنسانية والبيئة. هل ترين عملك محصورًا فى قوس التصنيفات المواضيعية؟
يكتب المرء من هواجسه أثناء مواجهته لظروفه. فى الخامسة والعشرين من عمري، بدأت أطور قدرتى على الملاحظة والتفكير والاستشعار والتشكيل، ثم تعرفتُ على أداتى الأدبية وأساليبها. بدت لي، كشابة، ساحات التفكير أكثر تميزًا، تفصلها مجالات استقصاء مُطلقة. لم أرَ حينها الأسئلة التى شعرت بالحرية فى طرحها تتدفق بوضوح من نظامٍ واحد، أو من مفترقٍ شاسع فى الطريق الذى سلكته القصة البشرية والذى نتقدم فيه الآن بلا رجعة. أراها متأخرة فى قصتنا. وعند نقطةٍ بعينها تبدو متأخرة فى قصتى ككاتبة.

اقرأ أيضاً | حلا عليان ..قصيدتان

لطالما تطرق عملك لفكرة التأخُر.
حسنًا، نجرى هذا الحوار فى لحظة قد توصف بالكارثية. الأسابيع التى سبقت مؤتمر قمة المناخ COP27 – اتسمت بالتأخُر الشديد، وينتظرنا غيرها الكثير عند كل منعطف. الإخفاقات واضحة جدًا. مُدمِرة، لكنها متوقعة. لكن التأخُر فى حياة مُكرسة لفنٍ ما قد يكون مُثيرًا. تشعرين كأنك تعاملت مع العديد من الأسئلة الجزئية. تشعرين بطريقتك، بشكل أعمى، ثم تبدأين فى تجميع الأحجية معًا. متاهة مختلفة عن غرفة مرايا. تفقدين بعض البراءة، ويطالك جُرحًا نافذًا يصيبك بالرعب أو يغمرك لغز الوجود. لكن تكتشفى أن الأشياء ذات طبقات أكثر، ترين التاريخ أكثر مُعاصَرة، أو تجدُدًا. صار الجسد، بحواسه جميعًا، ضروريًا بشكل أكثر إلحاحًا ككاشف، أكثر بكثير مما كنتِ تستطيعين تخيله فى البداية.

كتبتِ عن العديد من القضايا الجوهرية، هل تضحين بشيء حين يصبح صوتك الشعرى عامًا؟ هل يتولد بداخلك شعور بضياع الوقت بشكلٍ ما؟
لا يسعنى إلا أن أتساءل عما إذا كنتُ، كفنانة، قد أهدرتُ بعض الوقت الثمين فى العمل كناشطة مدنية، والإصرار على توسيع أداتى الأدبية لتشمل أسئلة قد لا تتطرق لها القصيدة عادةً. يصعب عليَّ الجزم بذلك. ينطوى الإبداع الفني، بطبيعته، على ما يبدو فى ظاهره أنه وقت طويل مُهدَر– تمضى فى طرقٍ مسدودة، وتضِل فى تيهٍ حيث لا يأتيك أى إلهام. لكن بعد حين، يُثمِرُ ما بدا ظاهره هَدرًا. وأنا أتعامل بجدية مع المسئولية الملقاة تاريخيًا على عاتق الشاعر، أو المنوطة به، فى المجال العام. أنا مواطنة، وشاهدة، وأم، وجدة، وفرد من نوع خارج عن السيطرة يضِل طريقه بشكلٍ متزايد.



كيف يتحقق العمل المتأخر؟ كيف تواصلين عملك، وتواصلين تطويره؟
أهم ما فى العمل المتأخر للفنان أنه العمل الذى وُضعت أساساته فى البداية. حين تبنى مجموعة أدواتك الأولية كفنانة شابة، عليك التأكد من أنك لا تخلِقين أدوات للحظتك الحالية فحسب، أى للفن «الجديد» الذى تُبدعينه حينها. احرِصى على صقل حزمة واسعة من المهارات، قد ترينها لم تعُد ضرورية، مهارات قد لا تحتاجينها حتى وقتٍ لاحق، حين تصطدمى بقوىً لا يمكن تصورها. لا تعرفى أبدًا متى ستأتى تلك اللحظة «اللاحقة». كونى جاهزة. كونى مُسلحة. نفس الأدوات التى كانت مُجدية فى البداية لا تنفع فى الوسط أو عند مواجهة نقطة النهاية.

يأتى العمل المتأخر فى أى عُمر. كتب جون كيتس عمله المتأخر الرائع وهو فى الرابعة والعشرين من عمره. لكنه كان مُسلحًا، وتدرب بحماس، ليصير جاهزًا لذلك. إذا وصلتِ لتلك النقطة، فهذا مذهل. كيف تكتشفين بابًا آخر يُفتح أمامك، حجابًا يُرفع، سؤالًا لم يخطر ببالك قط؟ إلا أنها موجودة دومًا. تدهشنى أدواتي، وأشعر بالامتنان لمن دفعونى إلى الجنون وأصروا على أن أتعلم مهارات لم أعتقد حينها أنى سأحتاجها، كمعلمى الأول العظيم، دونالد جستس. أيضًا فى مرحلة معينة، تبدو لك جميع أسئلتك حول أداتك الأدبية على مر السنين – والتى بدا كل منها متجدد فى حينه- كأنها تتلاقى لينبثق منها سؤال مختلف، يصعُب وصفه.


وما هذا السؤال برأيك؟
ندخل فى منطقة خطرة هنا. ربما شيء على غرار، ما هو الخلق - أعنى هنا العالم من حولنا - وما هى علاقتنا الحقيقية به؟ كيف نتسبب فى كل هذا الضرر فى خضم هذه النِعَم مما كنا نعتبره ذات يوم «خلقًا» حقيقيًا؟ وكيف نواصِل هذا الإيذاء بينما نعرف أكثر من أى وقت مضى مدى وعمق ضرره؟ لذلك، أرى، كحال الكثيرين، أن السؤال ينتهى إلى التفكير فى مأساة أفعالنا كنوع على الكوكب الذى نتشاركه مع الأنواع الأخرى وأشكال الحياة المختلفة. هذا أمرٌ مرعب ومحير.

علاوة على ذلك، يصبح السؤال: كيف لنا أن نعيش حياتنا بالكامل فى مواجهة كل هذا، مع الاحتفاظ بالدهشة، والاستغراب، والسرور، والمتعة؟
أداتك لمواجهة هذه الإشكالية هى الشعر؟
الفن عدسة هائلة يمكن تناول الأمر من خلالها. لأن الدمار الذى أحدثناه، والذى سنحدثه حتمًا على نطاق أوسع بكثير، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما فعلناه من خير كنوع أيضًا. إنها تفرعات متشابكة لنفس الدافع أو المحرك. لنُسمِه القلب البشري، أو ما يترجمه الملك جيمس من الكتاب المقدس على أنه «تَصوُر قلب الإنسان». والشعر أداة مناسبة لتأمل السؤال الذى يطاردنا: ماذا فعلنا ولماذا؟

ومع ذلك، بالنظر إلى كتبك الأربعة عشرة، هل ما بقى من مواضيع أشعارك أكثر مما تغير؟
لا أعرف أكثر من كونها تغيرت. لدى اهتمامات آنية، وبما أنها تتأثر دومًا بالعالم من حولي، فإنها، بحكم التعريف، تتغير بتغير العالم. أصبحت هذه التغيُرات مؤخرًا مجموعة متشابكة من التسارعات الكارثية، لأستخدم مثلًا عنوان كتابٍ حديث لي، «جموح». حاولتُ فى قصائدى الاشتباك مع هذه الدعوات الخارجية التى استحوذت على انتباهنا، كحالة الكوكب التى تزداد هشاشة، والضعف المتزايد لأنظمتنا الديمقراطية، والشعور بدمار قد نعجز عن إصلاحه فى مجتمعاتنا.

أجل، الاحتباس الحرارى الجامح، والفيروسات الجامحة أيضًا، والتكنولوجيا الجامحة، والدولة السرطانية الجامحة، والعنصرية، والبَون الجامح والفقر، والتضليل الجامح عبر المنصات الإعلامية التى تسبب الإدمان بحكم التصميم - كل هذه تُمثِل «مجال القوى» الذى نشأت منه القصيدة التى يحمل الكتاب عنوانها. إنها ليست «موضوع» القصائد، بل تُمَثِل المنطقة الأحيائية التى تنمو فى ظلها حاجة المرء إلى إخضاع الواقع عبر القصيدة.

هل تغير صوتك الأدبي؟
يتطور صوتى بتطوري، لكن قد يكون تطوره هو الجزء الأكثر انتظامًا فى العملية. تتطور أذنى ولكن صوتى هو شيء اكتشفته فى وقت مبكر.

للتوضيح، الصوت والمتكلم هما قوتان مختلفتان، قوى دافعة مختلفة فى القصيدة. عادةً ما تداخل المتكلم والصوت فى قصائدي. لكن مع تقدمى فى العمر، واشتباكى المتزايد مع مفاهيم أبسط عن الذاتية، والسياق، والقوى البشرية - من يتحدث، كم عددهم، من أى خلفية، الأرضية التى يقفون عليها، وبأى سلطة تحطم هذا المتكلم. صار إحساسى بالذات الفريدة للقصيدة مُربكًا، كموضوع دائم التأثر بالسياقات المتغيرة ومتعددة الطبقات والطارئة وكوسيط يحاول تحمل المسئولية. لكن من أجل ماذا؟ وإذا كنتُ مسئولة، فما حدود لا نهائية هذه المسئولية؟

هل تطور إحساسك بدور المتكلم الفرد فى القصيدة؟ بعض الأصوات فى شعرك كقصيدة سيري، وقصيدة قاع البحر، ليست بشرية، وهو أمر غريب على القصيدة كما نعرفها!

نعم. أنتج انكسار الذاتية هذا تجارب عبر أصوات ذكاء اصطناعي، وروبوتات، ووسائط، وآخرين يتحدثون من مواقع غير بشرية. أبي، بعد وفاته مباشرة، يتحدث من الجانب الآخر؛ التبريد الذى يخضع له المرضى؛ حيوانات تحاول التواصل معنا؛ عوالم تويتر. عندما بدأت محاولات تخيُل التحدث من وجهات نظر غير بشرية أكثر راديكالية، كجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، أو قاع المحيط، أدركتُ تحولها لديَ إلى ممارسة مُلِحَة - بالمعنى الإيكولوجى والثيولوجي. كأنها إيعازات.

من الواضح أنه مجرد وهم. لا أستطيع التحدث من وجهة نظر المحيط، أو قاع البحر. لكنه وهم عميق التأثير. المحاولة تغير المرء، جِذريا. تغير حجمه، وشعوره بمركزيته كمتكلم، وتفرض تصورًا أصيلًا للاختلاف. تحاولين أن تشعرى بفرادتك الشخصية. هذا مفيد على مستوى الشعر والروح، وقد انتقلت أيضًا، بالنسبة لي، إلى حِسى السياسي. «من الذى يتكلم؟» سؤالًا طرحته من نواحٍ مختلفة فى كتبٍ عِدة. بدا مهمًا عدم معرفة الإجابة على هذا السؤال، كما بدا مُربكًا بطريقة مثمرة، لمواصلة وضع المرء نفسه فى مواقف تدفعه لطرح السؤال.

لدى فضول أيضًا حول كيفية تفكيرك فى الوَحدة أو التعددية وتقديمها فى شعرك. غالبًا ما يحمل عملك فكرة الكَثرة فى الفرد، هل تفعلين ذلك بوعي؟

جميلٌ وصفك. ربما تكونين أجبتِ على سؤالِك! أثناء عملى لتوسيع مدى المتكلم، الصوت الشعرى التقليدي، تلك الذاتية الفردية، شعرتُ أحيانًا كأنى أصِلُ إلى ذاتية جماعية تتدفق لتنتج القصيدة. قد أسمى هذا «الجوقة». قد تتشكل الجوقة فى بعض الأحيان من الأسلاف، أو بشر المستقبل، الذين لم يولدوا بعد، يراقبوننا. أشعر بهم يضغطون بإلحاح مُدهِش. كأنى أحدق بهم مباشرة، دون أن ترمش أعينهم.

لذا، نعم، أصبح صوت المتكلم فى القصيدة أكثر تعددًا، لكنه ربما صار أكثر حزنًا أيضًا، وإن صار أكثر انضباطًا. كلما كان الأمر مخيفًا أكثر، صارت قصائدى أكثر انضباطًا. تقول إميلى ديكنسون: «بعد الأسى، يأتى شعور محايد». إنها حركة الروح التى أواجهها على الصفحة الآن، مخبوصة بالحزن وملفوفة بمحاولة التمسك بالشجاعة. والشعور بعدم وجود مجال للأسئلة الخاطئة الآن، لا وقت لهفوات الخيال. من الصعب وصف ذلك، لأنى ما زلت فى خضم هذا الاستكشاف.

كم نحن متعددون؟ لست مقتنعة بمفاهيم كعقل خلية النحل أو الفردية. أنا مهتمة بالمسئولية - وبهذه الطرق المضنية أرى نفسى مسئولةً أمام جميع القوى فى المجال الذى نسميه الزمن والتاريخ والوعى والقلب.

ما مسؤوليتك بصفتك شاعرة فى رأيك؟
آه، السؤال الأبدي! فى لحظتها التاريخية، فإن مسئولية أى شاعرة حية هى التحدث بصوت الإنسان فى تلك اللحظة القصيرة. الحفاظ على بشريتنا. الحفاظ على قدرة اللغة على نقل الحقيقة، وصدق القلب، وإجبار الأعين مُشتتة النظر على مشاهدة ما يجرى باسمنا، وتأمل الفظاعة كتأمل الغموض، وإجبار الوعى على الاحتكاك بأصعب واقع يواجهه وتحمل المسئولية، حتى لو كان ذلك يعنى مجرد اليقظة كشاهدة. كما أنها مسئولة أيضًا عن الاستمتاع وتسجيل الدهشة، الداخلية والخارجية، والجمال، كل قطرة منه. هل سيتلاشى كل هذا؟ ربما. ثم تشهد تجاوزه.

حين يحفرون عميقًا فى قصائدنا، نريدهم أن يعرفوا من نحن، وما نَعِيه، وكيف كانت الحياة مذهلة وغامضة بشكلٍ لا يمكن تصوره. على أى حال، فإن الشعر لديه مهمة إضافية تتمثل فى ترجمة الماضى لمن يعيشون الحاضر، مع تخيل المستقبل، لضمان استمرار هذا التيار. وهكذا، فالشعر هو أن «يظل الخبرُ خبرًا». أعتبر نقل خبر الماضى إلى المستقبل مسئولية أخلاقية أساسية للفن.

كيف ترين اختلاف ذلك فى هذه اللحظة من التاريخ؟
إن القيام بذلك الآن أمر صعب بالفعل لكنه مُلِح أيضًا. كيف تجدين صوتًا، أو أصواتًا، من شأنها أن تمُد مهمة الشعر المستمرة فى مثل هذه النقطة الفاصلة الحرِجة فى تطورنا، مع فترات انتباه متقطعة، ونَزر من المعتقدات أو الحقائق المشتركة، وقليل من الصبر، والعجز عن مواصلة الاهتمام أو توسيع منظور الرؤية أو التعقيد، وتراجُع ابتغاء الدهشة، ناهيكِ عن الاستكشاف المتعمق. بلايين الأشخاص يلعبون أثناء حديثنا إليهم، أو مدمنون على المواد الإباحية من مختلف الأنواع - بما فى ذلك تلك التى تُنقل كأخبار. كيف نعيد كل هؤلاء البشر إلى وَحدة الواقع المشترك، وفوق ذلك المسئوليات المشتركة؟ قد يساعد منحهم بعض الفرص الاقتصادية المشتركة الحقيقية.

لكن الرأسمالية الحديثة الجامحة تزدهر بسبب زيادة عدم المساواة، بما فى ذلك تفاوت حق الوصول إلى الحقائق الموثوقة، والحق فى التجربة. أجل، نعلم جميعًا عطايا التكنولوجيا لنا - ولكن ما مدى سُميَّة هذه العطايا؟ الوظيفة الأساسية لكثير منها هى إلهاء الروح عن الحياة الفعلية. هذا هو نموذج عملها. إنها تجارة بإلهائنا ودمارنا. والأصعب من ذلك، أن معظم المؤسسات التى يجب أن نثق بها تستثمر بقوة فى هذه العملية.

ما الذى يُمثل «الإلهاء» برأيك حين تستخدمين هذا المصطلح؟
يتزايد ظهور الإلهاء فى أشكال جذابة: الحقائق الوهمية، ونظريات المؤامرة، وسرديات نهاية العالم، وعوالم الواقع الافتراضي، والرغبة المُطلقة (وإن كانت قديمة) فى أن تصبح شخصًا آخر، فنتازيا الهروب الكامل من الذات. نرى هذا جليًا فى الفتيات الصغيرات المدمنات على تطبيقات تغير وجوههن وأجسادهن، حد الابتلاء بكراهية الذات القاتلة والارتباك وشعور الخِزي. نعلم أننا فى دوامة الموت المحتملة حين تتضمن العديد من الحلول شكلاً من أشكال الهروب الكامل - من الجسد، والروح، والكوكب، والعالم الحقيقى للعمل والحب، من الوقت الذى يستغرقه التعلم، من المعرفة المتجسدة، والصداقة، والطبيعة، من الشعور الغريب الذى تمنحه الطبيعة لنوعٍ واحد فقط من بين الأنواع الأخرى. يجب أن يثيرنا هذا الشعور كحاله دومًا.

أو يفتنّا. أو يُرعبنا. ما لا نعرفه من الحياة ما زال مجاهلٌ عملاقة يمكن لكل روح أن تحج إليها. المجهول لا يرادفه «غير معروف» – إنها أُحجية، لا دالة للمعلومات. إن عدم المعرفة المتضمَن فى السؤال الذى اقترح تولستوى علينا أن نسأله عن الحياة: ماذا سنفعل؟ لا يمكنك أن تطلب من تطبيق سيرى إجابته. لا يمكنك أن تسلك طريقًا مختصرًا إليه، بقدر ما تريد أنظمتنا، وقواها الجديدة، قَصْر رحلتنا.

هل يمكننا الحديث أكثر عما يبدو عليه هذا القَصْر؟
بقدر ما نعتقد أننا نحن من نضغط الزِر ونشغل الآلة - الاحتفاظ بالسلطة - يبدو أن الآلة هى التى تُشَغِلنا، وتُضعِف قدرتنا على الخضوع للحياة كما يجب أن تُعاش على نحو متزايد. الربط بين الصِغَر واللانهائى وغير البشرى عادةً ما يكون شعورًا مقدسًا. نادرًا ما تجد مَن يستمتعون بهذا الشعور الغامر بالضخامة، لا ضخامتنا، ولا ضخامة ما نصنعه، ولا ما نعرفه ولا ما نُدركه بالحدس، ويشعرون بالحيوية لهذا العَجَب أو الرعب. ملاك محطَم، جليل، روح المكان. لدينا تسميات عديدة بتعدد ما لدينا من ثقافات. فى نموذجنا الحالي، سيتكلف نظامنا الاقتصادى الكثير إذا تمسكنا بأن «نحيا». إذا أصررنا جميعًا على الحق فى الوجود الحقيقي، لأن هذا سيجعلنا أحرارًا بما يكفى للمطالبة بحقنا فى التجربة. إن مطلبنا البسيط بمنح أطفالنا تجربة معيشية غير افتراضية من شأنه أن يدمر قدرًا كبيرًا من التدفق النقدى للرأسمالية. نحن المادة الخام. يتم حصادنا، وحصاد انتباهنا وتصفيته منا - وانضمامنا إلى اللُعبة، ببرمجتها الجامعة للبيانات، هو المنتَج الذى يتحقق الدخل المالى من خلاله. 

لكن من الصعب استيعاب هذا لو سُلِبتَ خياراتك الحياتية، وافتقرتَ للعمل الحقيقي، إذا صِرتَ مجبرًا على القيام بمهام متعددة بشكل محموم، ومُجبر على الإسراع إلى النقطة التى لا يكون عندها كل الطرق المختصرة مجرد هبة من السماء بل الطرق الوحيدة المتاحة لك بالكاد فى حياتك. وهذا إن كنتَ من بين المحظوظين، ممن يتمتعون بامتيازات كافية ليكونوا فى هذا المأزق بالأساس.

هل ساعدك الشعر فى الإفلات من هذا؟
لن أدعى أننى معافاة من أى من هذه الإدمانات. أنا عالقة فى بعضها كالآخرين تمامًا. مثل كثيرين، أحارب من أجل البقاء متيقظة. أحاول مساعدة آخرين على فعل الشيء نفسه، بالشعر والتدريس. نحن نتشارك جميعًا فى هذه الديستوبيا. نحن من خلقناها. لقد تولَّدت من الخيال البشرى والابتكار، من فضول الإنسان ورغباته. لا يمكنك فصل الكارثة عن النجم الذى تسبب فيها. لهذا نحن متورطون فى هذا الواقع، ويصعُب علينا حتى النظر فى مرآة. إذ لا يوجد من نتطلع إليه غيرنا، لأن هذا ما نحن عليه، هذه أفعالنا، سيرنا فى أحد الطرق الممكنة المتاحة لنا، أحد جوانب العقل، أحد الخيارات العديدة التى يمنحها لنا الخيال. لعِب الجشع دوره الضخم بالطبع، والغطرسة، والرغبة فى الاختصار. ولكن أيضًا الفضول، حب الإنسان الذى لا ينضب للابتكار، توقَه لـ «الجديد». لقد أمضيتُ سنوات عديدة، أثناء عملي، فى محاولة لفك هذا التشابك الذى هو رغبة بشرية بحد ذاته.

هل يمكنك توضيح ما تقصدينه بكلمة «اختصار»؟
الوجودُ مُنهِك، وحيود المرء عن الطريق لتجنب عيشه لحياته أمرًا مُغريًا. على المرء أن يعمل بجِد للتأكد من أنه يعيش عمق وُجودِه، لا يدور من حوله. إنها حقيقة مرعبة قد ينتهى بك الأمر كأنك لم تعِش حياتك. فى أقسى الحالات وأكثرها وحشية، قد تُسلَب منك جسديًا بطريقة مروعة، بالعنصرية الممنهجة، وجرائم الجُور التى لا نهاية لها، عن طريق سرقة فرصتك فى الحياة. ولكن قد تُسلَب منك أيضًا دقيقة بدقيقة بالاختصارات التى يدعوك كل ما تصادفه إلى اتباعها؛ للمواكبة، وتحقيق المزيد فى وقتٍ أقل، والإتجار بالحكمة، أو حتى بالمعرفة، بغرض تحصيل المعلومات. إن فترات يقظتنا التى تتناقص باستمرار، والتوق إلى الإرضاء السريع - والذى يؤثر على أى عملٍ إبداعى قد تحاول تنفيذه، وتقليصه قبل حتى أن يصل إلى المياه العميقة - هو أقوى أدوات الدولة الرأسمالية المتجسِسة، أو أيًا كان الاسم الذى تطلقه على التحام المصالح القوية باستخدام رغباتنا لتحقيق إثرائها الفوري.

تكتبين كثيرًا عن مسالك العقل، وعقلك تحديدًا. لدى فضول بشأن هذا العقل الشعري. هل هو نفس العقل الذى يصحبك إلى مائدة الإفطار أو الحديقة؟
العقل تيارٌ كالنهر. لا يحمل كل ما يلتقطه مما يمر به عَرَضًا فحسب، كمائدة الإفطار أو الحديقة، بل يتغير مساره أيضًا لما يمر به. يتغير وزنه وسرعته واتجاه سريانه. إحدى التجارب الأساسية لأى شاعر يكتب قصيدة أن تأخذه الدهشة. تعرفين أنك فى قبضة قصيدة حين يعاد توجيهك بواسطة الموضوع، والتضاريس التى تطئينها، والاجتياز، وتضعك كلها أمام سؤال لم تعرفى بوجوده بالأساس. حينها تكونين قد تغيرتِ بصورةٍ لا رجعة فيها. نكتب كى نتغير.

الصمت الذى تكسرينه للبدء فى قصيدة لا يكون أبدًا نفس الصمت الذى تعودين إليه مرة أخرى حين تنتهين منها وترجعين للصمت. القصيدة عمل قمتِ به وتجربة خضتِها. لن تصيرين نفس الشخص الذى كنتِ عليه قبل تلك القصيدة. هذا الإحساس بالتحول هو إدمان - روحيًا وشعوريًا. وإلا فلماذا يحاول أحدهم فعل هذا الأمر العسير يومًا بعد يوم، ومدى الحياة؟ يُقدِم المرء على ذلك سعيًا وراء تجارب التحوُل.

لكتابة قصيدة، هل عليك توجيه عقلك بطريقة ما؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف؟
بالنسبة لي، لا يستلزم الأمر توجيهه مطلقًا. ساعدنى الله، إنها مسألةَ طلب تنفيس لجوعه المستمر للتجربة، والشعور، والطريقة المذهلة التى يبقيكِ بها العالم متيقظة، إذا رغبتِ فى البقاء متيقظة. يتمثل التحدى فى إبقاء القارئ معك فى قلب التيار، لتوجيهه بالشكل والانتباه الصافي، مع استشعار ما وراء المرء، وما اكتشفه أسلافه وأسلاف الأسلاف، وما هو مازال مجهولًا حتى الآن، ما هو مؤثر، ولامع، وخطير. حين أبدأ قصيدة، أُذَكرُ عقلى بالحضور الراسخ فى حواسي، والارتقاء منها. وهكذا يتكون الموتيف، لا للفكرة والاستعارات فحسب، بل للموسيقى والشكل أيضًا.