محمد سليم شوشة : مقامرة على شرف الليدى ميتسى حين تصبح الحياة رهانات لا نهائية

مقامرة على شرف الليدى ميتسى
مقامرة على شرف الليدى ميتسى

تمثل رواية مقامرة على شرف الليدى ميتسي» للأديب الشاب الذى ولد مخضرما أحمد المرسى قطعة أدبية فريدة، تمزج بين قدرات الفن الروائى وفن السينما بدرجة عالية من التناغم والتلاحم، لدرجة تحير القارئ فلا يدرى أيهما يمثل الأصل والقائد للآخر، هل السينما باستراتيجياتها ووضعياتها السردية وتكنيكاتها الحتمية هى ما يقود ويشكل الخطاب الروائى أم العكس من أن قدرات الخطاب الروائى اللا متناهية هى التى أخضعت معطيات السينما والسيناريو لأهدافه؟ ففى جوهر هذا العمل الأدبى تتحقق العديد من المزايا والنواتج الجمالية والقيم والرسائل والدلالات.

ربما يكون القارئ واقعاً تحت حال من الدهشة والاستمتاع والاستغراق فى العمل، لكن دون تبرير، وهذا ما يحدث فى غالبية الأحيان، لكن الحقيقة أن كل أثر يمارسه الخطاب الروائى له مبرراته ومسارات إنتاجه وكيفيات ممارسته لدوره على عقل المتلقى ووجدانه.

فأول عوامل التشويق والقيم الجمالية ومؤشرات تفوق خطاب هذه الرواية ونجاحها يتمثل فى اتساع نسيج عالمها وتنوعه، ليس على مستوى الشخصيات والحكايات التى تشكل منها هذا العالم، ولكن فيما يتمثل من التنوع بين السعادة والنجاح والإخفاق والخيبة والفرح والحزن، والضحك والبكاء والألم والمتعة والحب والكراهية والخير والشر، بما يجعل عالم الرواية نموذجاً مثالياً لمحاكاة الفن للحياة بكل ما فيها من تنويعات وتحولات وتقلب.

لقد انتظمت سباقات الخيل حبّات عالم الرواية فأحكمت بنيته وجعلت كل هذه القصص الفرعية تشكل قصة واحدة كبيرة هى فى غاية الإحكام والوحدة والانسجام فى تكامل أدوارها الوظيفية والسردية. فنجد أنفسنا برغم كل هذا التفرع والقصص الصغيرة أمام عالمٍ واحدٍ متكامل ومتلاحم، كل وحدة صغرى تؤدى فيه دوراً محدداً، ولتتشكل فى النهاية ملحمة سردية لها أبعادها الكثيرة بين الوطنى وبين الاستعمارى والإمبريالى وبين الطموح والأمل والمقامرة اللانهائية، حتى لتكاد تبدو الحياة نفسها شكلاً من المقامرات التى لا تنتهي. 

اقرأ أيضاً| أحمد الزناتى يكتب: سول بيللو هموم الكاتب فى عالم يسوده التشتّت

كل هذا العالم الصاخب بالحركة والأحداث والمواقف من الخسارات والمرض والسقوط المتكرر والنهوض مجدداً، والمشحون بالأمل والخيبة، والخيارات والمسارات النبيلة فى المقاومة والوطنية أو الخيارات الساذجة والسقوط فى فخاخ الخيبة المنصوبة للجميع أحياناً، والرغبات غير المكتملة، والمشحونة بالإباء والرفض والمقاومة للأقدار والسعى لتغييرها، والقبول والرضا والتصالح مع الحياة والنفس. كل هذا من التحول والتفاصيل والحوادث الحياتية والمواقف تبدو قد وجدت نموذجها المثالى الذى يجعلها كلها متلاحمة ومنصهرة فى جسد بنية حكاية واحدة هى حكاية سباقات الخيل والمراهنات عليها. 

بل ربما يكون الأكثر جمالاً فى تقديرنا فى هذه الرواية هو قدرة هذه الحكاية لسباق الخيل ورهاناتها على أن تخرج من إطار وحدود تلك القصص الفرعية والحالات الإنسانية الفردية إلى حدود ما يدور فى العالم من زمن ومازال مستمراً حتى الآن ليصبح سمة للعصر الحديث اكتشفها العالم مع الحرب العالمية الأولى وظلت مهيمنة عليه حتى الآن عبر أشكالٍ مختلفة، وبدلاً من أن كانت بعض الألعاب والمسابقات والمنافسات فى العصور القديمة عنواناً للترفيه والمتعة والفرجة العامة صارت ذات أبعاد سياسية واقتصادية أكبر، وأصبحت هذه المسابقات والمنافسات جزءاً من الرأسمالية والإمبريالية والنظام العالمى المهيمن من الحرب العالمية الأولى وأصبح أكثر توحشاً فى وقتنا الراهن.

لقد كشف خطاب هذه الرواية بشكل ناعم وغير مباشر عن قدرة الخطاب الروائى فى أن يكون من وراء بنيته هامساً بدلالاتٍ فكرية ويملك قدراتٍ بحثية ضخمة، فهذا البحث فى عالم سباقات الخيل، أو ما يمكن تسميته بالمقاربة السردية لهذا العالم بكل تفاصيله وأركانه وجوانبه يصبح كاشفاً عن ملمحٍ مهم من التحول فى تاريخ البشرية وكيف يمكن اقتياد أنشطتها فى مسارات معينة. ليست مقاربتنا هنا تأتى وفق المنطق اليسارى أو الشيوعى المقاوم للرأسمالية، بل تأتى من منطلق ثقافى باحث فى حركية الطبقات الحياتية والثقافية وقدر التداخل بين جوانب الحياة وقدر التداخل بين مظاهرها وبخاصة فى عملية الاستقبال والاستهلاك سواء للخطابات والنصوص الأدبية أو لمباريات كرة القدم أو الفيديوجيم ووسائل التواصل الاجتماعي.

لقد قارب خطاب الرواية عالم الخيل بكل ظلاله وأبعاده وسياقاته من إعلام واقتصاد ومؤامراتٍ وطبقية وعبودية أو استعباد له مظاهر كثيرة، حتى يمكن القول إنها رواية ليست عن رهانات سباق الخيل ولكنها رواية عن العبودية بأشكالها المختلفة وأنماطها اللا نهائية.

إنها رواية عن الخط الفاصل بين البراءة وانتفائها فى سمات العصر الحديث أو المرحلة الراهنة والممتدة منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اللحظة التى نعيشها الآن، حين اكتشفت البشرية أن كل شيء له قيمته وضرورته بما فى ذلك الحروب والصراعات التى يجب تأجيجها وإنتاجها بشكل مستمر. ربما تكون مصر قد استأصلت من جسدها سباقات الخيل بالمنطق الاستعمارى أو الصورة التى رسخه بها الاستعمار البريطانى فى مصر، لكنه لم ينتهِ من العالم ونشأت مجالات جديدة للمراهنات فى كرة القدم أو فى غيرها.

لهذا فإن الرواية عن معانٍ عامة وقضايا إنسانية متجددة وقيمة مستمرة، وهذا ما يمنحها قيمة خارج حدودها الثقافية الإقليمية أو المحصورة فى سياقاتٍ معينة لأمة أو مرحلة تاريخية أو لغة بعينها أو قبيلة أو ثقافة مدينة أو كل هذه السياقات المُحجِمة لدلالات هذا العالم الروائى وإسقاطاته أو ما يُطرح من الأفكار والأسئلة والقضايا سواء المباشرة أو تلك التى أنتجها عبر التلميح وأثارها من وراء المشاهد والأحداث دون لغة أو مفردات مكشوفة.

إن الفاصل بين صراع الديكة وسباق الخيول هو نفسه ما يفصل بين العصور الوسطى بما يمكن أن يكون فيها من البراءة النسبية والسذاجة حتى فى شرورها، وبين العصر الحديث بما استطاع البشر فيه أن يعمقوا إبداعهم فى الشر ويجعلوها أكثر انسيابية وتغلغلاً فى الحياة بما لا يشعرنا به. إننا هنا لا نقارب الأمور بمنطق التقييم الأخلاقى بقدر ما نحاول أن نتأمل فى ضوء تلميحات الرواية وإشاراتها الخفية مظاهر الحياة البسيطة. فالمضاربات والرهانات مسألة مستمرة وجزء من الطابع البشرى الراهن وجزء من المنظومة السائدة فى كثيرٍ من جوانب الحياة سواء الاقتصادية أو الثقافية أو الإعلامية.

وهكذا فإن الرواية برغم كل ما حملت من معانى الشر ومظاهر الإمبريالية والهيمنة الرأسمالية وتلميحاتها حول الاستغلال والاحتلال كانت منتبهة كذلك للقيم الإيجابية المتمثلة فى الصداقة والنبل الإنسانى والطفولة والحب والرومانسية.

لقد شكلت شخصيات الرباعى سليم حقى ومرعى المصرى وفوزان الطحاوى والليدى ميتسى نسيجاً إنسانياً ثرياً فى الدلالة وله كثير من المعاني، وملك هذا الرباعى المتجمع تحت حتمية اللحظة التاريخية التى فرضها سباق الخيل قدراتٍ استثنائية فى شمولية التعبير عن الحياة بتنوعها وتقلباتها، ومحاكاتها محاكاة وافية ودالة، يجعل الرواية اختزالاً واختصاراً لكل معانى الحياة وهذا هو النموذج المثالي، أن تكتب رواية واحدة فتكون أشبه باختزالٍ شاملٍ للحياة كلها، أو تصبح دالة على كل ما فى الحياة من الحب والإخلاص والأنانية والغباء والذكاء والبراءة والطفولة والنقاء والفروسية والدناءة وغيرها الكثير والكثير من القضايا حتى يشعر كل متلقٍ مهما كانت حياته مختلفة أن فى عالم هذه الرواية وأحداثها وتفاصيلها شيئا يخصه أو يرتبط به ويمثله.

هنا تتسع وتتغول القدرات التمثيلية للخطاب الروائى وقدراته على المحاكاة فى عمل مشوق وذى بنية سردية لها طابع سينمائى يتغلغل فى كل التفاصيل من التقطيع والاتصال والربط والمونتاج والانتقالات ورسم حدود المشهد والحركة والمقدمة والخلفية أو توزع الكادرات والرصد للصورة بين التركيز على الشخصية والحركة والشعور والعاطفة وبين عناصر الخلفية أو حدود هذا العالم الواسع الذى تنتمى له الحكاية ورصد السياقات التاريخية والثقافية أو السائل الذى يشكل مادة حافظة لعالم الحكاية وتفاصيلها، أو ما يمكن تشبيهه بخلفية اللوحة، فنجد مثلاً أشياء تخص ماركات السيارات والملابس وحالات الموضة وتطور الحياة وتغيرها فى ذلك الزمن على نحو ما نرى ذلك متحققاً بشكل مثالى فى مشهد تدريب فوزان الطحاوى على السباق وفق التقاليد فى هليوبوليس بالقرب من المطار ورؤيته أو دهشته برؤية هذه الكائنات الشراعية الغريبة عليه وهى تلحق فى السماء، وغيرها الكثير من مشاهد الدهشة التى جعلتنا أمام نموذج لكائن بدائى يستكشف عالماً سحرياً كما لو أنه انتقل إلى الفضاء أو يطالع بلورة مسحورة. ومشاهد تشكيل الخلفية تمثل ثراء معرفياً وبصرياً وإدراكياً كبيراً لخطاب الرواية ولكن الأهم هو الكيفية التى تتشكل بها بشكلٍ ناعم دون تشويش أو تشتيت عن الأحداث الرئيسة أو الخط الدرامى الأساسي، فتأتى هذه التفاصيل السياقية الكثيرة والمتنوعة بمساحاتٍ وإشاراتٍ محسوبة ودقيقة على نحو ما يكون من متخصص الديكور الذكى فى عالم السينما بما يجعله قادراً على أن يدل على العصر ويرسم حياة كاملة دون أن يشغل المشاهد بقطعة أساس لذاتها أو بقطعة ملابس لذاتها بلمعانها أو قوة حضورها بصرياً فى المشهد.

على المستوى المعرفى طرحت الرواية بحثاً ضمنياً شاملاً عن سباقات الخيل وأنواعها وتمركز هذا السباق فى قلب القاهرة المحتلة التى ترمز لذروة الظلم والاستغلال، ولهذا فهى تشكل إضافة معرفية مهمة فى هذا الجانب عن تاريخ المكان وتاريخ منطقة مصر الجديدة التى تبدو كما لو أنها همست للكاتب بأسرارها، فنجد تاريخاً لشوارعها ومعالمها وتحولات الحياة فيها بشكلٍ مكثف، وبحث حول تفاصيل السباقات وحيلها وأسرارها وروابطها أو دوائر العمل فيها بداية من المربين للخيول والعارفين بأنسابها والرأسمالى المالك وبين الإعلام والصحفيين والجوكى والخدم أو العبيد مثل: ونيس الخادم العجوز، وبين الموظفين من أمثال: مرعى الذين يعملون فى كل هذه الدوائر مثل السندباد المتجول العارف بكل الأسرار. فى عالم ثرى ومشوق وحافل بالتفاصيل والتقاطعات وتبادل الأدوار بما يجعله عالماً متكاملاً يطرحه الخطاب الروائى كاملاً دون ضياع فى التفاصيل وعبر تكنيك المشهد السينمائى المركز المتتبع للأحداث والخطوط الدرامية الأساسية فيما يبدو متطابقاً مع بنية الفيلم حتى فى البدايات والنهايات وصوت الراوى العليم المعلق على الأحداث العامة أو يمارس التوضيح لبعض الخفايا فيما وراء المشاهد.

كما تحمل الرواية كذلك طاقاتٍ بحثية ومعرفية كبيرة فيما يتصل باللغة، وبرغم أن هذه الحقبة حاضرة بقوة فى خطاب الرواية المصرية لكن اللغة هنا تأخذ منحى مغايراً ويميل المؤلف إلى استكشاف العامية المصرية فى تلك الفترة وربما لأول مرة يمكن أن يحس المتلقى بجمال خاص بالعامية المصرية وثرائها وصلاتها بالفصحى، وكذلك مجازات اللغة وأمثالها وكيف يمكن لترميم متحف العامية فى أن يكون مفيداً وخادماً بقوة فى تشكيل ملامح هذا العالم الروائى وجعله أكثر إقناعاً واستقراراً فى دلالته على سياقاته التاريخية والثقافية، فبعض العبارات والأمثال وأحياناً المفردات تسهم بذاتها فى نقل المتلقى ليصبح داخل حدود هذا الزمن ويسكنه أو يعايشه بقوة، وبعض نواتج هذه اللغة كذلك أنها شكلت ذهناً كاملاً للبشر فى ذلك العصر، ونقلت مشاعرهم وتوتراتهم وانفعالاتهم بشكل كامل عبر هذه المنعطفات التى أخذها الخطاب الروائى فى بحثه وركضه وراء العامية المصرية الخاصة بذلك الزمن. ولهذا فإنا نتصور أنه إضافة إلى جماليات الرواية ومنجزها البحثى والمعرفى بما يشبه ويمثل ترميماً لمتحف العامية المصرية وهذا جزء من دور الفن فى البحث فى التاريخ والذاكرة والتراث الإنسانى غير المادي.

وفى المجمل فإن الرواية حافلة بالجمال الأدبى ثرية بالدلالات، ذات لغة فارقة سواء على مستوى لغة الحوار والبحث فى الأمثال والتراث اللهجي، أو لغة السرد بمجازاتها وتشبيهاتها التى تأتى جزءاً من الاستراتيجية الشاملة للخطاب وضمن قدراته البلاغية الإجمالية بما يسهم فى إبراز شعور نفسى أو حالة داخلية أو التعليق المبطن بلغة روحية وإنسانية تنحى نحو التطهر واللغة الشعرية فى بعض الأحيان وبخاصة فى نهايات المشاهد، فيما يجعلنا أمام نسيج لغوى بديع وليس مجرد عالمٍ ثرىٍ وحافل بالحركة والتشويق والتقلبات والأحداث المتنوعة.

ومن أبرز ملامح خطاب هذه الرواية كذلك ما غلب عليها من الثراء الدرامى وتعارض المصالح والأدوار الوظيفية، فنكون أمام حالة مثالية من الصراع والصدام والتقلبات بين التوافق والاتحاد أو نقيض ذلك من التنازع والخصام والعداء، ووفر ذلك حالات كثيرة من الخطر والقتال أو (الأكشن) بالتعبير الغربى الدارج والدال على الحركة البالغة فى تشويقها والقادرة على الاستحواذ على المتلقى من بداية خطاب الرواية حتى نهايتها، ومع هذا الثراء الدرامى نجدنا أما مميزة فى غاية الأهمية وهى أن الشخصيات فى رحلة بحث دائمة، حتى بما فى ذلك الشخصيات الفرعية أو الهامشية، فنجد أن الروائى أجاد فى أن يجعل من غالب الطحاوى فى بحثه عن لغز موت أبيه وعلاقة الأب بابن الأخ فوزان حكاية إطارية فيها بحث عن اللغز أو السر أو التحقيق فى قضية، برغم من أن هذا الأمر يكاد يكون عاماً وشاملاً لكل الشخصيات التى تعيش الحالة نفسها من البحث عن سر أو لغز، حتى ونيس الخادم الذى تم اختطافه من دنقلة واستعباده كان ذا أثرٍ وفعلٍ درامى فيما يمثل بحثاً عن حريته وبحثاً عن جدوى لحياته أو بحثه عن قيمة، فالجميع فى هذه الرواية يعيشون الحالة نفسها من البحث ويطاردون شبحاً أو أملاً أو رغبة غير مكتملة أو غير مُتحققة حتى ولو كانت غيبية مثل الليدى التى تحاول استرداد ابنها من وراء حجب الموت وأستاره، فتشكل هذه السمة خطاً ونسقاً بنائياً ثابتاً ينتظم عالم الرواية وقصصها الفرعية ويشكل سمةً عامة للحياة التى مهما اكتملت فى لحظة تبقى مهددة بالنقص وتبقى الشخصية مدفوعة فى اتجاه البحث عن الكمال المستحيل. 

وهو إجمالاً ما يجعلنا كما ذكرت أمام عمل أدبى متفرد ويمثل نموذجاً مثالياً فى بنائه ودلالاته وطاقاته الجمالية والدلالية ويحتاج إلى بحث من جوانب عديدة وأبعاد أخرى وينبئ بانطلاقة كبرى لروائىٍ يُنتظر منه الكثير.