أحمد الزناتى يكتب: سول بيللو هموم الكاتب فى عالم يسوده التشتّت

سول بيللو
سول بيللو

فى منتصف القرن الثامن عشر نعى وليام وردزورث شدّة انشغال الناس بصخب العالَم قائلًا:  «يستغرقنا العالَم أكثر مما ينبغي، وسواء علينا أأعطينا أم أخذنا، وسواء أطال علينا الأمد أم قَصر، فسوف تخور قوانا فى نهاية المطاف، إذا استسلمنا إلى صخب العالم».

بعدها جاء مواطنه الناقد الإنجليزى جون راسكين وقال: «لا يمكن لشعب أن يُقبِل على القراءة وهو فى هذه الحالة من التشتّت». ثم جاء بعدهما أديب نوبل الأمريكى / الكندى سول بيللو ليقول فى كتابه الذى سأتكلّم عليه فى السطور التالية: «إن العالم مُحيطٌ بنا من كل مكان، ولم يسبق للعالم أن كان على هذا النحو فى الماضى»، ثم يمضى أبعد فى مقالةٍ لاحقة كتبها فى السبعينيات ضمَّـها كتابنا فيقول: «بل حتى كلمة العالم محيط بنا من كل مكان هى محض هراء لا معنى له، إذ لم يعد لنا نحن بنى البشر وجود، ولم يبقَ سوى العالم». 

ترجمتُ مرة مقابلة مطوّلة مع الكاتب الكندى / الأمريكى سول بيللو بسبب عنوانها الذى يقول: «ينبغى أن تتحلى الحقيقة بقدر من الأسلوب»، ووجدت أن الرجل يتكلم على سجيته وبحرية أكثر مما هو فى سرده الروائى، بمعنى أن كلامه الحرّ أعجبنى أكثر من نثـره. وتأكّد الانطباع عندى لما وقع تحت يدى كتابه:

‏ Is Simply Too Much to Think About: Collected Nonfiction There، بتحرير بينجامين تيلور (طبعة بنجوين 2016)، ولا أعرف لِمَ تُلح على ذهنى عبارة كافكا: «العالَم الذى فى رأسى أكبر من العالم الذى رأسى فيه»، لأتلاعب بها قليلًا وأخرّج ترجمة للعنوان يقبلها ذوقى.

اقر أ أيضاً | المجلات الثقافية مرآة لمجتمعاتها

يضم الكتاب مجموعة ضخمة من الحوارات، فضلًا عن النصوص والمقالات والتأملات التى كتبها سول بيللو على مدار ما يقترب من خمسة عقود، جُمِعت ووضعت فى هذا السِفر الضخم، يضمّ كل فصل مجموعة من المقالات المؤرخة. ما الجديد فى كتاب سول بيللو؟ الكثير طبعًا.



أهمّها أن الكتاب تأريخ فكرى ونقدى لمسيرة الأدب والفكر الغربى من منظور كاتب ذى شأن جليل فى الأدب الغربى ومثقف من طراز رفيع. فرأس الرجل لم تتوقف عن التفكير والانشغال بأمور الأدب والكتابة وجدواها والعلاقة بين القديم والمعاصر، والمسألة اليهودية (وهى مسألة شائكة فى فكره فى ظني) عبر مقالات دسمة مفرطة الطول تارة، وبسيطة مختزلة لاذعة النبرة تارة أخرى.

الكتاب هائل الحجم، بدأت فيه منذ سنة ونصف تقريبًا، وأخذت أتسكع بين مقالاته كلما سنحت الفرصة، وأسرت انتباهى بعض المقالات/الفصول التى سألقى الضوء عليها عنها. فى فصل يحمل عنوان: «السرد القصصى الحديث: حملة تفتيش» لفت انتباهى إعجاب بيللو بأسلوب مونتينى، وأدركت أنه لمس عبقرية مونتينى وتفرّده إذ يقول:

«يَظهر الفرد فى صورته الحديثة المميزة فى عالم الأدب فى مقالات مونتينى. ترسم لنا المقالاتُ مونتينى بوصفه رجلًا عاديًا لا يتسم بميزة خارقة، ولكن مع ذلك يمكننا رؤية جميع المسائل ذات الأهمية الجوهرية فى شخصه ونحن نقرأ مقالاته، إنه رجل يُحب أن يراه الناس على علّاته، وبطريقته الحقيقية العادية البسيطة، دون محص ولا حِيَل، وهو ما يؤكد عليه مونتينى بقوله: أنا أرسم صورة نفسى.



إنه رجل يركزّ على الأشياء المتوسطة العادية، ومع ذلك فهو يوغل فيها عميقًا، ويحشد تركيزه على الأمور الإنسانية برمتها، فيبلور تصورًا جديدًا لنطاق الوجود الإنسانى ومعناه. يعيش الإنسان على هذه الأرض حياة هشّة وقصيرة، ومع ذلك فهو يتمتع بالعديد من القوى الفريدة، ولديه الفرصة لاكتساب حكمة حياتية عميقة تنظر إلى الأمور دائمًا نظرة التشكك. إن مقالات مونتينى وثيقة شخصية، وحلقات من دائرة اعتراف واسع، لكنها متجرّدة من الطابع الروحانى على خلاف اعترافات القديس أغسطينوس. وهكذا يستطيع مونتين الانتقال بسهولة من شؤون المطبخ إلى أعقد قضايا الميتافيزيقا، وإنّ هذا المزيج من الموضوعات الرفيعة والمبتذلة إنما هو حديث فردى، تُعلن فيه النزعة الرومانسية الفردية عن نفسها».

يمرّ بيللو على عصور الأدب الحديث، شارحًا رؤيته لها، بدءًا من مونتينى ثم روسو وهوجو وأقرانهم فى القارة الأميركية من أمثال ويتمان، ثورو، إلخ وصولًا إلى العصر الراهن (المقال منشور سنة 1963)، فيشنّ هجومًا عنيفًا على أدب مجايليه لما ينضح به من زيف وتأنّق كاذب وقوالب محفوظة (كليشيهات) وحكايات ممطوطة لا تقول شيئًا عن حقيقة ذوات مؤلفيها، وكأنما يمدح طريقة مونتينى وأسلوب كتابته مديحًا مبطنًا إذ يقول: «أما بالنسبة لمستقبل الأدب فلا أظن أنّ فى مقدوره أن يصدمنا، لأننا فعلنا كل ما فى وسعنا لنميط اللثام عن حقيقة أنفسنا، ولكن بطريقة غثّة ساذجة إلى درجة أننا سنستطيع بالكاد الاستمرار على المنوال نفسه.

ربما ستخبرنا قوة داخلية كامنة فى نفوسنا بما نحن عليه الآن حقًا بعد أن نكون قد تخلّصنا من المفاهيم الخاطئة. ومع ذلك يبقى السؤال قائمًا. ما الإنسان حقًا؟ الجواب: هو شيء ما. ولكن ماذا عساه أن يكون؟ يبدو لى أنّ الكتاب المعاصرين لم يحسنوا الردّ على هذا السؤال. فاكتفوا بنفوس ملؤها السخط بأن وصفوا الإنسان بأنه كائن عدمى أو هزلى، إلخ.. ).

بعد قراءة ذلك الفصل خرجت فى تمشية طويلة، وخطرت ببالى فكرة ترسيخ المعيار الشخصى الذى يخصّنى لترتيب درجات الكُتاب. قلت فى نفسي: «لا بديل أن يكون المعيار هو النزعة الغنائية فى عمل الكاتب، بمعنى أننى يجب أن أرى وأن أشعر بشيء قادم من ذات المؤلف، سواء أكان منبع ذلك الشىء سعادته أو آلامه أو خسارته أو صراخه المجنون أو حماقة سلوكه أو حتى قرفه من كل شيء ، والله حتى وإن كتب مثل الإلياذة والأوديسة كتابة بارعة منقطعة النظير، ولا تفرق. يجب أن تظهر انفعالات النفس فى العمل ظهورًا صادقًا؛ مربط الفرس أن تكون مُعبّرة عن روح صاحبها، أن تُـبرز «بصمة روحـه الفريدة» كما يقول هيرمان هسه، ألا تكون مفرطة الشاعرية ولا منغمسة فى موضة الدهشة والاندهاش والدهائشية والتاريخية لدرجة «تِجَزّع النفس»، ثمة روايات تتركها من يدك فتشعر أن أصابعك «مِلَـزّقـة» بعد قراءتها وكأنك واكل قرصين مشبك». 

فى فصل مهم عنوانه تشتت الانتباه عند الكاتب الروائى يتكلم فيه عما يشتّت انتباه الكاتب وما يبلبل عقلَه فى عالم اليوم؛ وكان سبب اهتمامى المقابلة التى ترجمتُها. أوْلَى بيللو عناية خاصة إلى مسألة تشتّت الانتباه والإلهاء المستمر الذى يتعرّض إليه الإنسان فى عالم اليوم، لذا سأتكلم عن مقال/فصل شغلنى لما يثيره من أسئلة مهمّة متصلة بفكرة الأدب الروائى ووجود الكاتب داخل محيط محلي/عالمى يموج بالفوضى والاضطراب.

 ولنبدأ بما قاله بيللو فى الحوار:
«إن ما نتعرض إليه هو قصف منظومة هائلة مِن التشتيت تسلمنا إلى شعور هائل بالألم والعجز ونحن نشاهد الأحداث المتلاحقة التى تحاصرنا وفى خضم هذه الحرب المتخيلة يأتى شخص ما ليجذب انتباهكَ عنوة ويقول لك: «عليك الإصغاء إلى ما سأقوله لك الآن».

وهذا اختبار حقيقى لقوة الفنان/الكاتب على حملِ أولئك المـشتّـتين والمُحَاصرين بالإعلام إلى الإنصات، الأمر أبعد من كونه مجرد جذب انتباه بشكل عادى، بل جذب الانتباه بدرجةٍ معينة، وهذه غاية الفنان.

الأمر أشبه بتوقيف شخصٍ لأقول له: « أنا أتحدث إليك..انظر إليَّ. ربما لا يكون الانتباه موجوداً اليوم. ولكننى رغم ذاك لا أستبعد وجوده مستقبلاً، لأننى حينما أنشر كتاباً تصلنى رسائل من قُراء يخبروننى أنهم قد اطلعوا على الكتاب وأثار اهتمامهم. هؤلاء القُــراء أكثر موثوقية عندى من مُراجِعى الكتب والنُقاد أصحاب الذائقة الأدبية المتواضعة».

فى هذا الفصل الحافل بالتناقض الذكى ينبه بيللو إلى أن الإلهاء/التشتّت نصل ذو رأسين حادين، وخلاصة رأيه هو أنه يتحتم على الكاتب أن يحمى نفسه من التشتّت الذى يجلبه ضجيج العالم وثرثرة الآخرين، وأن يلقى بذاته فى غمار التشتّت الذى يفرزه عالَم الخيال. لنقرأ الفقرات التالية:

« تنتمى عملية كتابة الأدب، سواء أكان مأساة أم ملهاة إلى عالم السعادة، ومع ذلك لا يشعر أغلب الكتاب بالسعادة، والحقيقة أن الكاتب يفخر بنفسه بقدر ما يتجاهل من أشياء مملكة هذا العالَم. إن الشعور بقدسية مسألة الكتابة لَهُو شعورٌ لا يُقدر بثمن، لكن هذا التوكيد ليس له قيمة تُذكر عند الآخرين. ولذلك فإن الكاتب الروائى عليه ألا يقدّم أية توكيدات للآخرين لتعزيز موقفه وشرح أهمية ما يفعله «يقصد فعل الكتابة»، بل إنه سيُسأل من قِبل الآخرين: «ولماذا لم تختر وظيفة أخرى؟ وهو أمر يمكنكَ أن تؤديه كل يوم أداءً مخلصًا ومُقدَرًا؟ لماذا تكتب الأدب الروائى؟ علاوة على ذلك ما الذى يجعلك تعتقد أنه مطلوب؟ ألا تظن أنك ربما اخترتَ مهنة غير ضرورية.

العالم برمته يموج بالحركة. وأنتَ ماذا تفعل هنا؟ فقط تجلس هنا بمفردكَ، مخلصًا على نحو لافت للأشياء التى تعلّمتَها فى سنوات صباك. مَن الذى يطلب منك أن تكتب مثل هذه الأشياء؟ ماذا تفعل هنا بحق الجحيم؟ أنت شخص أحمق وفضولى، يقول الكاتب فى نفسه: هل أضيف كتابًا جديدًا إلى قائمة الكتب؟ ولأى غرض؟ أليس هناك ما يكفى من الكتب؟ «هى المشرحة ناقصة قتلى». 

يواصل بيللو كلامه قائلًا:
«حتى الملك سليمان النبى كان يشكو من أن «لا أحد يشبع» لم أستدل على المقصود من كلامه تحديدًا، والأرجح عندى أنه يقصد آية سفر الجامعة: «كل الكلام يقصر، لا يستطيع الانسان أن يخبر بالكل. فى سنوات شبابه المبكّر شـدَّ ريلكه الرحال إلى روسيا فى رحلة حج لرؤية تولستوى. ومثلما سمعتُ القصة فقد تبع ريلكه الشيخَ المسن ثائر الأعصاب وهو يسلخ أذنيه بمشاكله المتعلقة بالكتابة، إلا أن تولستوى لم يطِقْ ذلك، فغيّر دفة الحديث من الكلام عن الشِعر والأدب إلى الدين، حيث بدا له كل ما يقوله ريلكه تافهًا، وقال له: «هل تريد الكتابة؟» Eh bien, écrivez donc! Écrivez (أو بترجمتي: اتفضّل يا أخويا اكتب!). قال له تولستوي: اكتبْ ما دمت مضطرًا أو محتاجًا إلى الكتابة، ولكن لا تجعجع حولها هكذا [والحقيقة أن كلام تولستوى كان أشد قسوة حسبما جاء على لسان لو – سالومى فى سيرتها العاطفية. 

يواصل بيللو:
«يُشتّت الفن الرديء انتباهنا بالقدر نفسه الذى تُشتّت فيه الثقافة الحقيقية انتباهنا. هذا ناهيك بالمتطلبات الداخلية للذاكرة، والرغبات والخيال ومشاعر القلق التى تعتمل فى نفس الفنان، وما إلى ذلك.

وربما تكون هذه المؤثرات هى الأشدّ استبدادًا. تدفعنا الفوضى الخارجية العظيمة إلى الانغماس فى الداخل، إلى الغوص فى ممالكنا الصغيرة، والغرق فى الانحرافات المفضلة لدينا.

تملأ آذاننا الأسماءُ التجارية للسيارات والسجائر والصابون. ومن ثم فالأخبار والمعلومات مُشتّتة للانتباه. كل ما حولك يشتّت انتباهكَ. وعليك أن تتخذ قرارك.

فى بعض الأحيان، كما هو الحال فى رواية يوليسيس لجيمس جويس، يخوض الكاتب مغامرةً عبر إلقاء نفسه فى غمار التشتّت الذى يولِّده الخيال. وأنا لا أقول إن الكاتب الروائى لا يعرف ما النظام، وإنما أقول إنَّ عليه الاهتداء بخياله فقط ليقوده نحو النظام. فى العمل الفنى يكون الخيال هو المصدر الوحيد لخلق النظام.

ثمة نقاد يفترضون أنه يجب عليك أن تبدأ بالنظام إذا أردت أن تصل فى النهاية إلى النظام. لكن الأمور لا تسير على هذا النحو. يبدأ الروائى بالفوضى والتنافر ويتجه نحو النظام من خلال عملية إبداعية غائمة الملامح. على أية حال فإن النظام [أو النسق السردي] الذى يصنعه الكاتب ليس هو النظام الذى تفرضه الأفكار المجرّدة. أعتقد أنه ينبغى تذكير النقاد بهذا الأمر. الفن هو خطاب الفنان لمواجهة الحياة».

من بين ما لفت نظرى فى كلام بيللو إشارته إلى موقف تولستوى حينما زاره ريلكه الشاب، وتأفُّف الأول من كلام ريلكه عن مشكلات الكتابة ونظرة تولستوى المزدرية للشِعر، وكأنه يقول له: انضجْ يا ولد! يجب أن يكون قلبكَ معلقًا بالأبدية، الفنان الحقيقى هو الذى قلبه معلّق بالأبدية، وإلا فهو مشغول بأورجازم ورعشة تزول نشوتها سريعًا. قرأتُ شيئًا ساحرًا قريبًا من هذا المعنى عند بيرديائيف فى الحُلم والواقع. يجب أن يكون قلب الفنان معلقًا بالأبدية.

ثانيًا: ربما يفكّر المرء الآن لِمَ اختار سول بيللو هذا العنوان لكتابه؟ لأن العالم يغص بأشياء كثيرة جدًا، يعجز عقل الكاتب أحيانًا عن الإحاطة بها والتفكير فيها. ربما يكون التشتت هو التحدى الأكبر أمام الكاتب، والتشتت المقصود عند بيللو هو إصاغة السمع إلى كل شىء والاهتمام بكل شىء وأى شىء، 

لكنه ليس التشتت الناجم عن الانخراط فى الكتابة وسلوك طرق الخيال غامضة. أشاطر بيللو الرأى فى أن التشتت أو الإلهاء قد يكون طوق نجاة وملهِمًا فى بعض الأحيان؛ أقصد ذلك النوع من التشتت الذى يؤدى إلى اليقظة.

يلفّ صمت القبور المكان بعد الرابعة عصرًا. كان جالسًا إلى مكتبه يصوغ جزءًا من التقرير. وما كان لظهورها المتقطع أن يشتّت ذهنه أبدًا. فتحت باب المكتب ودخلَت. جلسَت على الكرسى المقابل. تشّتَتَ ذهنه وارتبك. مزق التقرير لما رآها وألقى به فى سلة المهملات. بسكين تقطيع الورق الحاد أخرج بضع حبات فراولة من اللانش بوكس لزوم الدايت.

غرس السكين فى واحدة وأعطاها إياها على سبيل الترحيب. كان النصل حاميًا قاطعًا. لم تفهم الرسالة. وضع أمامها ورقة بيضاء وقلماً. طلبَ منها أن تكتب ما تعرفه، فقالت إنها لا تعرف ماذا تكتب، فعالم والأوراق والتقارير ليس عالمها. عالمها أصغر بكثير من عالمه. سألته عن عالمه وعما يكتب فقال، مستعيرًا آخر جملة من «بارتون فينك»: Don`t be silly..لا أنصحكِ بمعرفة شيء». اختفى طيفها فجأة، انحنى والتقط التقرير من سلة المهملات، كان التقرير الممزق قد التأم وعاد كما كان، وكأن الزيارة سدت الثغرات المتروكة عمدًا. 

يلاحظ فرانتس كافكا فى يومياته أن كل شيء يبدو ناقصاً حينما يجلس إلى المكتب لتدوينه، رغم أنه لم ينسَ شيئاً من مضمونه الأصلى، والسبب أنه يخترع أشياء جيدة بعيدة عن الورق فى لحظات السمو، وهى اللحظات التى نشتاق إليها، ولكننا نخاف منها، لكن الامتلاء يكون كبيرًا بحيث يجبره على الاستغناء. يُشبِّه كافكا نفسه بالأعمى الذى يملأ كفيه بماء النهر فيكتشف أن ما حصل عليه صفر، لا شيء مقارنةً بغزارة الماء، الأدب عند كافكا هو محاولة بلا هدف، فكل الأشياء تقاوم عملية كتابتها. وبالتالى فقطرات الماء العالقة بكفّيه هى كل ما نجح فى كتابته، ومن النُضج ألا يطمع فى أكثر من ذلك. 

فى الأوقات التى لا يريد استقبال ما يضايقه أو الالتفات إليه أو ملاحظته يخلع النظارة. ولأنه مصاب بقِصر نظر منذ عشرين سنة أو أكثر، صار وجود النظارة فوق أنفه مرادفًا لفهم الأشياء. أحيانًا يخلع النظارة ويضعها إلى جواره حينما يدخل فى نقاش عقيم ولايريد أن يمرّ الكلام إلى عقله، فيفكّر فى فعل مشتت للانتباه لكى يتنبه.