شهاب طارق ..شطب مع سبق الإصرار هدم قبة أثرية نادرة بعد أيام من التوصية بترميمها!

قطاع رآسى للقبة من الداخل يوضح
قطاع رآسى للقبة من الداخل يوضح

وقعت قبة «الشيخ عبدالله» الأثرية بمنطقة عرب آل يسار ضحية لمسلسل شطب الآثار الذى لا يريد أن يتوقف. حيث قررت اللجنة الدائمة ل الآثار الإسلامية مؤخرًا شطب القبة الأثرية التى سجلتها لجنة حفظ الآثار العربية، رغم أنه كان مقررًا ترميمها من جانب وزارة الآثار بعد أن تم إعداد خطة كاملة وصدور قرار من اللجنة الدائمة نفسها بالموافقة على ترميمها. لكن بعدها بأسبوعين تغير موقف الوزارة، وتجاهلت قرارها السابق وكذلك التقارير الرسمية التى وصلّت إليها، وقررت اللجنة الدائمة فى النهاية شطبها من تعداد الآثار، ثم هدمها بعد ذلك!

بداية القصة تعود لشهر أغسطس الماضي، عندما تقدم مدير مشروعات شركة المقاولون العرب بخطاب لترميم ودرء الخطورة عن قبة الشيخ «عبدالله» الواقعة ضمن مشروع «تطوير» منطقة عرب آل يسار المجاورة للقلعة.

ووضعت إدارة الصيانة والقصور والآثار فى الشركة 3 مقترحات، الأول صلب حوائطها وحقنها، والثانى فك الحوائط وإعادة بناءها مرة أخرى، والثالث فكها ونقلها لمكان آخر طبقًا للتخطيط العام. لكنهم توصلوا إلى أن الحل الأول هو الأنسب؛ أى عمل ستارة للقبة وصلب حوائطها، ومن ثم ترميمها.

اقرأ أيضاً | الفائزون بـ«العويس» يستعرضون تجاربهم ويوقعون كتبهم |صور

لكن بعدها بشهرين وتحديدًا فى أكتوبر توصلّت شركة المقاولون العرب إلى أن هناك صعوبة لتنفيذ المشروع بهذه الطريقة نظرًا لتكلفته العالية بجانب حدوث «مستجدات» داخل الموقع، ومنها اكتشاف مقابر أسفل منزل جرى هدمه يقع بالقرب من القبة الأثرية، واكتشاف وجود فراغات ومقابر غير معلوم مدى حجمها ومدى امتدادها، لذلك كان الرأى الفنى الأمثل من جانبهم اعتماد أحد المقترحين الثانى أو الثالث، وبناء عليه تم عمل زيارة من جانب وزارة الآثار واستشارى قطاع المشروعات فى أواخر نوفمبر لمراجعة مقترح تطوير المنطقة المحيطة بالأثر، وفى النهاية تم الاتفاق على تنفيذ المقترح الثاني؛ أى فك القبة وحوائطها الحاملة، وعمل إحلال للتربة ورفعها لتتناسب مع مناسيب المنطقة المحيطة. وبناء عليه رفعت أمانى توفيق مدير عام منطقة آثار القلعة المقترح لاعتماد خطة الترميم، ووافقت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية على مشروع ترميم القبة فى 12 ديسمبر من عام 2023.



من الترميم للشطب
المفاجأة جاءت بعد صدور قرار الترميم بـ15 يومًا فقط وتحديدًا فى ٢٧ ديسمبر، إذ تقدمت مدير عام منطقة آثار القلعة نفسها بطلب جديد للجنة الدائمة تطلب من خلاله شطب القبة من تعداد الآثار وبررت طلبها بأن الحالة الإنشائية للقبة سيئة! رغم صدور تقارير رسمية تفيد بإمكانية ترميمها، بجانب تجاهلها لقرار اللجنة الدائمة نفسها بالترميم. كما ذكرت فى طلبها الجديد أن القبة لا تحتوى على أية أشكال زخرفية أو عناصر جمالية أو أثرية، وأضافت أنه لا يمكن الاستفادة منها دراسيًا ولا عمليًا ولا تصلح لاستخدامها كمزار سياحي. 

الغريب هو سرعة تشكيل لجنة لمعاينة الموقع مجددا، واتخذت اللجنة قرارها فى اليوم التالى من الطلب بالموافقة على شطب القبة وعرض الموضوع على اللجنة الدائمة، وخلال انعقاد جلستها بتاريخ 9 يناير 2024 تجاهلت اللجنة الدائمة قرارها السابق بالترميم ووافقت على شطب القبة الأثرية!



الأغرب هو ما جرى بعد ذلك. فبعد أيام قليلة من قرار اللجنة الدائمة بالشطب تم هدم القبة بالكامل وتسويتها بالأرض! رغم أن قانون حماية الآثار يشترط مرور قرارات الشطب باللجنة الدائمة للآثار، ثم مجلس الإدارة، ثم الوزير المختص، ومن بعده نشر القرار فى الوقائع الرسمية. كما أن شطب الأثر لا يعنى هدمه بالضرورة.

قبة نادرة
الدكتور محمد حمزة الحداد أستاذ الآثار الإسلامية والعميد الأسبق لكلية الآثار بجامعة القاهرة وعضو مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار سابقًا قال إن التقرير الذى جاء فى حيثيات قرار شطب القبة والذى أكد أنها «لا تحوى على أية خصائص زخرفية أو عناصر معمارية» تقرير «غير صحيح» ويبتعد عن الواقع والحقائق العلمية. يشرح الحداد أسباب تفرد القبة فيقول إنها من نماذج القباب ذات مناطق الانتقال «النادرة والمتفردة» فى العمارة الإسلامية والتى لا تزال باقية داخل القاهرة العثمانية، فمناطق الانتقال داخلها على هيئة أربعة سراويل مقرنصة، بواقع سروال فى كل ركن من الأركان، وقد شغل داخل كل سروال منها بخمس جصات مقرنصة وهذا النوع من مناطق الانتقال لا يوجد له مثيل إلا فى ثلاثة نماذج نادرة فقط باقية فى القاهرة، «لذلك أتساءل كيف يزعم التقرير أن القبة لا خصائص لها وليس بها ما يمكن تدريسه!».



يرى الحداد أن هناك اعتراف رسمى ورد فى المستندات بوجود مقابر بالقرب من القبة وأسفلها «هذا معناه أن المنطقة بالكامل أثرية، والدليل على ذلك أيضًا اعترافهم بوجود مستويات فى الأرض لم يتمكنوا من الوصول إليها، فقد لجأوا للحل الثانى فى الترميم عندما أدركوا أن هذا الموقع تحته مستويات كثيرة من الآثار والطبقات الأرضية، لذلك ما حدث جريمة، ويجب إصدار قرار فورى بعمل مسح كامل للمنطقة واكتشاف ما فى باطنها، فاكتشاف هذه المقابر يدل على أهمية المنطقة منذ أنشأ صلاح الدين قلعته، واتخاذ قبيلة عرب آل يسار المنطقة لتكون تجمعًا سكانيًا لهم، وهو دليل أيضًا أن الموقع كان يحوى على مقابرهم.

يتساءل مرة أخرى «كيف تجرؤ مسئولة فى الآثار على كتابة تقرير يفيد أن القبة غير جديرة بالدراسة؟ وكيف يسمح رئيس القطاع بتمرير الأمر؟ وكيف للجنة الدائمة أن تسمح أصلًا بتمرير هذه التقارير العبثية؟ فالقبة لها أهمية كبرى، وقد سجلتها لجنة حفظ الآثار العربية سنة 1932، وذكرها عليّ باشا مبارك فى خططه، وجددها ديوان الأوقاف وأقام شعائرها، ودرسها الدكتور حمزة عبد العزيز بدر فى رسالته للدكتوراه سنة 1989، كما قمت بدراستها سنة 2000، من خلال بحث نشرته حمل اسم «العمائر الجنائزية فى مصر خلال العصر العثماني»، ودرسها أيضًا الدكتور عبد الرحمن زكى فى كتابه «قلعة صلاح الدين وما حولها من آثار».



ورغم أن القبة تعود للعصر العثمانى لكنها تؤكد على استمرارية الطراز القومى المصرى المحلى الذى توارث واستمر رغم وجود الاحتلال العثماني، وهذه المفردات المصرية تتمثل مثلًا فى قطاع القبة «الخوذة»، وهو دليل على استمرار العناصر التى كانت سائدة داخل مصر قبل دخول العثمانين، فغالبية القباب التى تعود للعصر العثمانى «ملساء»؛ أى قليلة الزخرفة، ومنها قبة «الشيخ». 

لهذا كله يرى حمزة ضرورة إقالة المتسببين فى هذه الواقعة بشكل فورى نظرًا لـ«جهلهم» بالقيمة التاريخية والأثرية للقبة، ومحاسبتهم وفقًا للقانون للتسبب فى هدم مبنى أثرى مسجل.