أغنيات للطريق!

محمود عوض
محمود عوض

بقلم: محمود عوض

لو تعرفين يا حبيبتى أننى كثيراً ما تمنيت، ليت قلبى كان أكبر، أو حبى لكى كان أصغر لكى يسع أحدهما الآخر، حتى حينما بعثرتنا الرياح بعيداً عنكِ، كان هذا هو شعورى، لأن الحب الحقيقى لا يموت، إنه يستريح فقط حينما تنهكه حمولة الأخطاء.

إن اللقاء بيننا تعثر أحياناً، وتقطع أحياناً، لأننا لم ندرك تماماً أهمية أن نجلس مع بعضنا لكى نتحدث، لو تعرفين أن الشوق إلى هذا الحديث، كان أحد الدوافع الكبرى التى جعلتنا نقطع الرحلة إليكِ بتصميم وسرعة.

لقد قذفت بنا الرياح إلى خنادق الفراق والغربة، ومن هنا بدأنا الرحلة إليكِ من جديد تحت المطر ليلاً والشمس المحرقة نهاراً.

إننى فى البداية بحثت عن كتابٍ يعلمنى فن الضحك، نعم، تمنيت فى قلقى عليكِ أن أضحك وأضحك، حتى لا أجد وقتاً للانتحار.

وفى النهاية علمتنى الحياة أن الضحك ليس بديلاً عن الجدية، والذراع ليست بديلاً عن العقل، وألم الحب ليس بديلاً عن الأمل فيه.

لو تعرفين أننى بدأت رحلتى إليكِ مع كثيرين غيرى، وفى الطريق رأيت الكثيرين من هؤلاء، الكثيرين حقاً والصغار سناً والأعمق شعوراً، رأيت اليأس فى عيونهم يمضغهم والحياة تدوسهم بلا رحمةٍ أو شفقة، إننى تركتهم وأسرعت الخطى لكى تحمينى المسافة من اليأس والمرارة. تركتهم لأن هذه المدينة تبتلعنى، مدينة أصبحت المصالح الصغيرة هى الأسمنت الذى يربط سكانها معاً، مدينة لا تكون دافئة إلا على من ينفصلون عن حبكِ، ولا تكون متوحشة إلا حينما ينجو الإنسان من فخاخها.
لقد تركت لهم المدينة ذاهباً الى بعيد، حيث الشمس ما زالت تشرق، والطقس يمكن أن يناسب ملابسى، ولكننى فى النهاية أدركت أن الشمس ليست فوق رءوسنا، وإنما هى فى داخلنا والشروق كله والغروب كله يبدأ من نفوسنا نحن.

لو تعرفين كم من قطاع الطرق رأيتهم فى رحلتى إليكِ، بعضهم شرير خرج لتوه من فيلم بوليسى، بعضهم ناعم أملس كثعبان ادمى، بعضهم يهدد رقبتى بالسكين بعضهم يعرض رشوة كلهم يطلبون منا شيئاً واحداً: أن نتخلى عنكِ لكى تدفعى لهم الثمنَ، من شرفكِ ومستقبلكِ !

إنهم يريدون ذلك الآن قبل الغد، والدفع نقداً بغير شيكاتٍ، والحساب كاملاً بلا دفعاتٍ، ولأننا بشر، والله خلق فينا الضعف كما خلق القوة، فقد ضُعفت نفوس بيننا، بعضهم أراد أن يشترى ماضيه من مستقبلكِ، وبعضهم أراد أن يبنى حياته على جثتكِ، ولكن فى النهاية اكتشف الجميع أنهم خاسرون، لأن الشرف لا يتجزأ، والعظمة لا تتجزأ.

كانت الرحلة امتحاناً لنا، امتحاناً، أدركت بعده أن من الصعب أن نعيش معك، ولكن من المستحيل أن أعيش بدونكِ.

لقد أدرك الجميع معى، وعلى وجه الدقة، كم من الأطماع يريد بكِ عدوكِ، امتحاناً قررت بعده أن أكمل مقاومتى لعدوكِ حتى النهاية، ومقاومتى أيضاً لهؤلاء الذين يغريهم بوضع مستقبلكِ فى أقرب بنك للرهونات.

نعم يا حبيبتى، كانت الرحلة إليكِ فاصلة، التقت خلالها علامات الاستفهام حولكِ وحولنا كحبل المشنقة، علامات سوف نزيلها واحدةً بعد الأخرى.
«أخبار اليوم» - 6 مايو 1978