وليم بوروز.. قصتان

صورة موضوعية
صورة موضوعية

المؤامرة نعم، يعرفون أننا سننتظر. كم ساعة، يوما، سنة، ناصية شارع، كافتيريا، غرفة مفروشة، دكة حديقة، جالسين، واقفين، سائرين؟... كلُّ مَن ينتظر يعرف أن الزمان والمكان هما الشيء نفسه. كم المدة-المسافة إلى نهاية الشارع ومنه؟ كم مباراة سوليتير تصنع ساعة؟... حينها يقفز الزمن فجأة، وينفلت قُدُمًا. يحدث هذا عادة فى نهايات الأصيل، بعد الساعة الرابعة. مِن الواحدة إلى الرابعة، تصطدم بأبطأ الأوقات.

كنت أعيد فحص المرشَّحين، أتقدَّم من خلال الاستبعاد، كى أحدد الاسم. نعم، فكَّرت، ذلك هو الإجراء الصحيح. فى الوقت نفسه، كنت أعرف أن الاسم ربما يكون حصانًا أسود، شخصًا لم أفكِّر فيه، مثل الرجل الذى يقول: «لماذا لم تأتِ إليَّ؟ كنت لأقرضك المال،» وتعرف أنه كان سيفعل ذلك. كنت أبحث عن شخصٍ كهذا، بينما يتواصل الاستبعاد المنطقى للاحتمالات:

اقرأ أيضاً

 د.لميس النقاش.. مجدى نجيب "كأنه طفل"

جاردنر؟ يا تُرى كيف سيتمكَّن من تسليمى من دون رفع سماعة التليفون والاتصال برجال القانون؟ بأن يُقبض عليه هو ذاته؟ بأن يخبر شخصًا مِن المؤكد أن يتكلم؟

مارڤن؟ على الأقل سيقول: «بيل، لا أستطيع أن أفعل ذلك. لن أخاطر. عليك أن تنصرف.»
أى أحدٍ سيفعلها من أجل المال كان مستبعدًا. سيكون هناك مال أكثر فى الجانب الآخر. شرطيان. يمكن أن يجمع ذلك 5000 دولار بين يوم وليلة. (لماذا يُعتبر قتل شرطى جريمة شنيعة هكذا فى أمريكا؟ ليست كذلك فى المكسيك أو فى أمريكا الجنوبية؟ لأن الأمريكيين يقبلون فكرة الشرطة عن نفسها، كما يقبلون أى شخص لديه وسائل السلطة.)  

«ليس رجلًا من معارفي، أنا متأكد من ذلك...»
(«هل هذا هو تقريرك النهائي؟») 
ليس رجلًا... ليس رجلًا... طيب، ماذا عن امرأة؟... امرأة؟ طيب... مارى! ذلك كان الاسم، إجابة السؤال. 
أخبرت السائق أن يتوقف. كنَّا نمرُّ بالشارع 72. نزلت، دفعت أجرة السيارة كى تعود إلى ميدان واشنطن، ولوَّحت بيدى مُودِّعًا نِك الذى ظل فى العربة.
أخذت مترو الأنفاق إلى الشارع 116، واجتزت حرم جامعة كولومبيا إلى شقة مارى. لماذا لم أفكِّر فيها أولًا؟ حرم جامعة... المخبأ المثالي. ويمكننى أن أثق بماري، أثق بها مئة فى المئة. كان المبنى براونستون من أربعة طوابق. لمعت النوافذ، نظيفة وسوداء، فى نور الصباح. صعدتُ ثلاثة طوابق وقرعت الباب. فتحته مارى، ووقفت تنظر إليَّ. 



«اُدخُل،» قالت، ووجهها يتهلَّل. «هل تريد كوبًا من القهوة؟» جلستُ معها إلى طاولة المطبخ، وشربتُ قهوة، وأكلتُ قطعة كيكة. 
"ماري، أريد أن أختبئ هنا فترة. لا أعرف كم المدة على وجه التحديد. يمكنكِ أن تقولى إن شخصًا استأجر الغرفة الإضافية كى يكتب أطروحته. لا يريد أن يخرج من الغرفة أو يرى أحدًا قبل أن تكتمل. عليكِ أن تشترى طعامه وتُحضريه له. إنه يدفع لكِ مئة دولار كى يقيم هناك ثلاثة أسابيع، أو أى مدة تستغرقها الكتابة. لقد قتلتُ مخبرين للتوِّ.»

أشعلت مارى سيجارة. «سطو مسلح؟" 
"لا. الأمر أكثر تعقيدًا من هذا بكثيرٍ. لننتقل إلى غرفة المعيشة، تحسُّبًا لقدوم أحدٍ. سأخبركِ بالأمر... دائمًا ما يعطينى غثيان الچانك الخفيف، حين أستيقظ فى احتياج إلى جرعة، شعورًا حادًّا بالنوستالجيا، مثل صفارات قطار، موسيقى بيانو فى نهاية شارع فى المدينة، أوراق شجر تحترق... ذكرت هذا لكِ من قبل، أليس كذلك؟».

هزَّت مارى رأسها. «عدة مرات.»     
«تجربة نعتبرها عابرة، لا يمكن حسابها، تأتى وتذهب كردٍّ على عوامل مجهولة. لكن الشعور يظهر من دون استثناءات، كردٍّ على بنية أيضية محددة. من الممكن اكتشاف ماهية هذه البنية وإعادة إنتاجها وقتما نريد، بافتراض وجود معرفة كافية بالعوامل المعنية. فى المقابل، من الممكن استبعاد النوستالجيا، وسد مَلَكة الترميز والحلم بأكملها.»

«تعنى أن هذا أُنجِز بالفعل؟»
«بالضبط. لقد جوَّد العلماء العَقَّار المضاد للأحلام، وهو، منطقيًّا، تنويعة تركيبية على تيمة الچانك.... والعَقَّار مكوِّن للعادة إلى درجة أن حقنًا واحدًا يمكن أن يسبِّب إدمانًا بطول العمر. إن لم يأخذ المدمن جرعته كل ثمانى ساعات، يموت فى تشنجات من الحساسية المفرطة.»

«مثل غاز الأعصاب.»
«شبيه بذلك. اختصارًا، ما إن تدمنى العَقَّار المضاد للأحلام، فليس فى استطاعتكِ العودة. أعراض الانسحاب قاتلة. تعتمد حياة المستخدمين على توافُره، وفى الوقت نفسه، ينقطع مصدر المقاومة، الاتصال بالأسطورة التى تعطى كل إنسان القدرة على العيش بمفرده، وتربطه بكل حياة أخرى. يصير آليًّا، كمًّا قابلًا للاستبدال فى المعادلة السياسية والاقتصادية.»

«هل هناك ترياق؟»
«نعم، بل أكثر من هذا، ثمة عَقَّار يُزيد من مَلَكة الترميز. إنه تنويعة تركيبية من التليباثين أو الياچين، المادة الفَعَّالة فى البانيستيريا كابي.»

«وأين تأتى أنت فى كل هذا؟» سألت مارى. 

«منذ خمسة أعوام أجريت دراسة على البانيستيريا كابى –أسماه الهنود ياچيه، آياواسكا، بيلد– فى أمريكا الجنوبية، واكتشفت شيئًا عن التنويعات التركيبية المحتملة. يمكن للمَلَكة الترميزية أو الفنية التى يولَد بها البعض – رغم أنها موجودة تقريبًا لدى الجميع بدرجاتٍ متفاوتة فى أثناء الطفولة – أن تزداد مئة ضعف. يمكننا جميعًا أن نكون فنانين أعظم، بما لا يُقارن، من شكسبير أو بيتهوفن أو مايكل أنجلو. ولأن هذا ممكن، فالعكس كذلك ممكن. يمكن حرماننا من القدرة على الترميز، بُعد كامل يُستأصل، ونُختزل إلى كائنات عقلانية تمامًا، غير منتجِة للرموز. ربما...» 

«نعم؟» 
كنت أتساءل إن... حسنًا، لنترك الأمر هنا. لدينا ما يكفى لنفكر فيه.» 
فى ذلك الأصيل، خرجت مارى وأحضرت الجرائد. لم يكن هناك أى ذكر لهاوزر وأوبراين. 

«حينما يكون فى مقدورهم أن يحتفظوا بذلك طى الكتمان، فلا بُدَّ أن لديهم صلة ما قريبة من القمة. إن كان جهاز القانون العادى ما يبحث عنى، فربما يكون لديَّ فرصة واحد فى المئة؛ أما فى هذا الحال...» 

أخبرتُ مارى أن تذهب إلى هاتفٍ عمومى فى تايمز سكوير، تتصل بمقر الشرطة، وتسأل عن هاوزر، ثم تعبر إلى الناحية الأخرى من الشارع وترى ما سيحدث. عادت بعد نصف ساعة. 

«طيب» 
هزَّت رأسها. «لقد ماطلونى، أخبرونى أن أنتظر دقيقة، وأنه فى طريقه. لهذا، عبرت الشارع. بعدها بما لا يزيد على ثلاث دقائق أتت سيارة. ليست سيارة شرطة. سدُّوا مدخلَى الصيدلية –كنت قد اتصلت من الصيدلية– دخل اثنان وفحصا كبائن التليفونات. استطعت أن أراهما يستجوبان البائع، وكان يقول بالإشارة: ’ كيف لى أن أعرف؟ آلاف يدخلون ويخرجون هنا كل يوم.»
 
"والآن هل اقتنعتِ أن هذه ليست أضغاث أحلام؟ أتمنى لو أستطيع أن أحصل على حلم. لم يحدث هذا من فترة طويلة...» 

«ماذا نفعل الآن إذًا؟»
«لا أعرف. من الأفضل أن أبدأ من البداية، وأطلعكِ على آخر المستجدات."»
ماذا كانت البداية؟ منذ بواكير الشباب، أبحث عن سرٍّ ما، مفتاحٍ يمكننى به أن أنفُذ إلى معرفة أساسية وأُجِيب عن بعض الأسئلة الجوهرية. ما الذى كنت أبحث عنه؟ ماذا عنيت بمعرفة أساسية أو أسئلة جوهرية؟ وجدت من الصعب تحديد ذلك. كنت أتبع أثرًا لقرائن. على سبيل المثال، لذة المخدر بالنسبة للمدمن هى الإعفاء من حال الاحتياج إلى المخدر. ربما كل لذة هى إعفاء، ويمكن التعبير عنها بصيغة بسيطة. لا بُدَّ أن تكون اللذة متناسبة مع المشقة أو التوتر التى تمثِّل اللذة إعفاءً منهما. ينطبق هذا على لذة الچانك. لن يعرف المرءُ أبدًا معنى اللذة قبل أن يمرَّ فعلًا بغثيان الچانك.
 
ربما يكون إدمان المخدرات هو صيغة بسيطة للذة، وللحياة ذاتها. هذا هو السبب فى أن العادة، ما أن تُكتسب، يصعب جدًّا كسرها، وهو السبب فى أنها تترك وراءها، حين تُكسَر، خواءً كبيرًا هكذا. لقد لمح المدمن الصيغة، عظام الحياة العارية، وهذه المعرفة دمَّرت بالنسبة له المصادر العادية للإشباع التى تجعل الحياة محتمَلة. أن يمضى المرء خطوة أبعد، أن يكتشف على وجه التحديد معنى التوتر، ومعنى الارتياح، أن يدرك وسائل استغلال  هذه العوامل... المفتاح النهائى راوغنى دائمًا، وقررتُ أن بحثى كان عقيمًا ومضلَّـلًا مثل بحث الخيميائيين عن حجر الفلاسفة. قرَّرتُ أنه من الخطأ التفكير بمصطلحات السر أو المفتاح أو الصيغة: السر هو أنه لا يوجد سرٌّ.

لكننى كنت مخطئًا. ثمة سرٌّ بالفعل، وهو الآن فى أيدى رجال جهلاء وأشرار، سر تُعتبر القنبلة النووية بجواره مجرد لعبة صاخبة. وسواء أعجبنى هذا أم لا، كنتُ مشاركًا. لقد وضعت حياتى رهانًا أوليًّا. لم يكن لديَّ خيار سوى أن أنتظر نهاية الجولة.

كتاب الظلال
التقط دكتور هيل قصاصة ورق، وتنحنح.
«ليس عليك أن تدور وتلفَّ معى، يا دكتور. إنه سرطان، أليس كذلك؟»
سقط ضوء شمس ما بعد الظهيرة، من خلال فتحات الستارة المعدنية، على المتحدث، مثل قضبان سجن... رجل مُسِن، نحيف فى بدلة رمادية رثَّة، عصا ثقيلة من خشب الكوچوبا بين ركبتيه النحيفتين، مواطن مُسِن مثل من تراهم يجلسون على دكك الحدائق، أو يلعبون دفع الأقراص. غير أن العينين التمعتا، وراء النظارات صلبة الحواف، بمرحٍ مربكٍ، بسعادة بعيدة، مرعبة. ابتسم الرجل.

«على أى حال، يا دكتور، نعرف أحدنا الآخر منذ مدة طويلة.» 
مدة طويلة. ربما كان دكتور هيل هو الرجل الوحيد فى مدينة بولدر الذى يعرف أن الرجل الجالس أمامه كان، فى وقتٍ ما من الماضى، أفضل رامٍ فى الغرب. لم يكن الأسرع، لكنه كان الأكثر تأكُّدًا من إصابة الهدف.

«نعم، هو سرطان. بالطبع ربما يمكن معالجته جراحيًّا... علينا أن ندخل العمليات لنتأكد، لكن...»
«تشك فى هذا.» 
«إن كانت معدتى أنا، كنت سأرفض.»
«الجراحون هؤلاء سعداء بسكاكينهم... أسوأ من المكسيكيين.»
كان الدكتور يعرف أن لى أيس Lee Ice واسع الاطلاع... فى الحقيقة، كان رجلًا متعلمًا. لكن كان يسليه أحيانًا أن يتكلم مثل أميٍّ من حُمر الرِّقاب.

«طيب، كم من الوقت فى تقديرك؟ أعني، كم من الوقت يمكننى أن أبقى على قدميَّ؟» 
جعلت نوبة من الألم جسد الرجل يتلوَّى؛ مال إلى الأمام مرتكزًا على عصاه. 


هزَّ الدكتور كتفه. «شهرًا، ربما اثنان... سأكتب لك بعض الدواء. تعرف كيف تستخدم حقنة تحت الجلد؟» 
هزَّ الرجل رأسه، وهو يتذكَّر الغرفة العلوية فى مخزن الغلال، ألواح الخشب ملتوية، متباعدة، تُظهِر السماء الزرقاء، وتوم فى بطنه طلقة 32 ملم، من مقامر. الطبيب كان صينيًّا عجوزًا، غير متسرعٍ ولا يبالى بشىء. حقن توم بجرعة من المورفين، وبكل بساطة أخذ جرعة هو الآخر. جلس القرفصاء، وهو ينظر إلى بطن توم النحيفة.

«أَمْسِكه، من فضلك.»  
مال بسرعة إلى الأمام ومعه جهاز طويل، مستدق الطرف، ودسَّه داخل الجرح. صرخ توم، وكان ذلك هو كل ما استطاع لى أن يفعله للإمساك به. رفع الدكتور الملقط بالرصاصة الدامية. بدأ تأثير المورفين فى الظهور. استرخى جسد توم، وتراخى وجهه. شرح الدكتور كيفية تغيير الضمادة، وترك علبة من حبوب المورفين وحقنة وبعض الإبر الإضافية. شرح لـ «لى» كيفية استخدام الحقنة.
 
«كم مرة؟»
«وقت الاحتياج. مئة دولار، هذا أجرى.» 
دفع له. كان يعرف أن الصينى لن يخونهما. لقد قدَّم للدكتور خطابَ تعريف كتبه صينيٌّ من سانت لويس؛ مثل هذه الخطابات لا تُعطَى باستخفافٍ. احتاج توم المورفين لأسبوعٍ، وأخذ لى جرعات معه. كان الجلوس هناك طوال اليوم مملًّا، ولم يكن فى استطاعته المخاطرة بترك المخبأ. نعم، كان يعرف كيف يستخدم حقنة.
 
منذ شهر، حين بدأ الألم، ذهب إلى دينڤر كى يشترى مورفين أو هيروينًا. لم يعد أيٌّ من القدامى المخضرمين الذين كان يعرفهم موجودين. مدمن أسود، له وجه مُخلِص، وغير جدير بالثقة، وعد لى أن يحصل على المخدر ثم يعود على الفور. 

«لا أستطيع أن آخذك إلى الرجل.» مدَّ يديه فى إيماءة مُلطِّفة بينما تندفع يده إلى الأمام، والسكين لمع فى أنوار الشارع. كان ثمة صوتٌ مثل سعالٍ معدني. تجمد الأسود، السكين فى يدٍ، وثقب أزرق صغير جدًّا فى منتصف جبهته. وضع لى أيس مسدسه الـ 22 ملم، بكاتم الصوت، فى جرابه، وسار مبتعدًا.

حينها كان قد تذكَّر دكتور هيل فى بولدر. 
«يمكنك صرف هذه من الصيدلية فوق التل. عادة ربع قمحة يكفي. ما يعادل حبَّة دواء. لكنك ستعرف ما تحتاج إليه.»

بعدها بنصف ساعة، أنزل لى كُمَّه ونظر من النافذة على الحديقة من غرفته فى الجزء الخلفى من المنزل. لقد حقن نفسه للتوِّ بنصف قمحة فى عضده. كان الألم فى معدته يتلاشى فى خفقاتٍ من ارتياحٍ دافئ. فتح درجًا، وأخرج كُرَّاسًا أسود صغيرًا. 

دفتر تعويذاتى. كتاب الظلال بتاعى. قرارات عليَّ اتخاذها، حسابات تتعيَّن تسويتها.
 
لم يسد له أحدٌ معروفًا، أو ألحق به ضررًا، إلَّا وجُوزِى بمثل ما فعل. 

ذلك كان النقش على ضريح سولا Sulla. سيناسب لى أيس هو الآخر.

القصتان من «كتاب الظلال»، مختارات قصصية تصدر قريبًا عن «المحروسة»