شتيفان تسفايغ كشاعر

 شتيفان تسفايغ
شتيفان تسفايغ

التهمت النيران كتبه فى محرقة الكتب الشهيرة يوم 10 مايو 1933 فى ألمانيا، ومَنعت النازية الألمانية، بعد ذلك، منشوراته من التداول، كما عرّضته مراراً للمضايقة والتفتيش.. أمام كل هذا القمع وجد شتيفان تسفايغ نفسه مضطراً للهجرة، فاتجه إلى إنجلترا أولاً، حيث حصل على الجنسية الإنجليزية، لكنّه، مع ذلك، سرعان ما غادر لندن باتجاه البرازيل، خائفاً من أن يعتبره الإنجليز ألمانيّاً وبالتالى «أجنبياً معادياً».

حط رحاله فى مدينة بتروبوليس، قرب ريو دى جانيرو، ووجد أخيراً متسعاً للتنفس والكتابة، ومعه زوجته الثانية الشابة التى تصغره بنصف عمره تقريباً، وكانت تعمل سكرتيرته الخاصة قبل زواجهما. 

فى آخر صورة لهما، يبدوان بكامل أناقتهما؛ يرتدى تسفايغ قميصاً داكناً ورابطة عنق سوداء، بينما ترتدى زوجته فستاناً أبيض مزركشاً. مستلقيين على السرير؛ هو على ظهره، فمه مفتوح قليلاً، وهى مستلقية على جانبها الأيمن، تضع وجهها على كتفه اليسرى، تحتضنه بجسدها، «يداً فى يد»، ما يذكرنا بقصيدة كتبها الشاعر وهو فى التاسع عشر، ونشرها ضمن ديوانه الأول الموسوم بـ «أوتار فضية» عام 1901: يدا فى يد: «دع يدك بين يدى» هناك تستريح ناعمة وليّنة ولطيفة وبهدوء تنزلق هبة العطاء من جمرتى إلى جمرتك إلى حد، لا يمكن لأى منهما معرفة لهيبها فجأة، تحترقُ فكرة واحدة فى التحامهما».

اقرأ أيضاً | د.لميس النقاش.. مجدى نجيب "كأنه طفل"

الانصهار أسمى درجات الحب. هكذا التحم تسفايغ مع زوجته لُوتُه ألتمان، بعد يومين من احتفالهما بالكرنفال فى مدينة ريو دى جانيرو، فقد عُثر عليهما فى السرير من طرف خادمة منزلهما، بالضبط فى 23 فبراير عام 1942. ما لم تعرفه هذه الخادمة أنّهما أخذا جرعة زائدة من الباربتيورات، وهى أدوية مهدئة للجهاز العصبى المركزى، تقلل من ضربات القلب.

على طاولة السرير الجانبية، وجدت الخادمة رسالة وداعهما الأبدي، ونُشرت فى اليوم نفسه فى العديد من الصحف اليومية العالمية الكبرى: «قبل أن أغادر الحياة بمحض إرادتى وبكامل وعيي، أشعر أننى مضطر للوفاء بواجب أخير: أن أشكر هذا البلد الرائع البرازيل على حسن الضيافة، لقد منحنى راحة فائقة.

تعلمتُ كل يوم أن أحبّ هذا البلد أكثر، وليس هناك أفضل من هذا المكان لإعادة بناء حياتى من البداية، بعد أن أُهلِك عالم لغتى ودُمِّر موطنى الروحى أوروبا. أنا متيقن أن المرء سيحتاج بعد ستينيات هذا القرن، إلى قوة خارقة للبداية من جديد.

أما أنا فإننى مُنهك بسبب سنوات طويلة من التشرد. لذلك أعتقد أنّه من الأفضل إنهاء الحياة فى الوقت المناسب وباستقامة. على هذه الأرض كان العمل الفكرى فرحتى العارمة، والحرية الشخصية أغلى ما أملك. تحياتى لجميع أصدقائى! آمل أن يظلوا يرون الفجر بعد الليل الطويل! أما أنا، فبفارغ الصبر، أسبقهم إلى هناك.» إلى جانب كلمة وداعه هذه، كتب تسفايغ كذلك وصية تخص كلبه الوفى.

قبل مغادرته، احتفل تسفايغ فى السنة نفسها بعيد ميلاده الستين، وأهدى نفسه قصيدة سماها «آخر قصيدة»، تحوّل فيها الشاعر إلى كاهن، يتخمن مستقبله. ألم يخبرنا الشاعر، الكاتب والفيلسوف الألمانى نوڤاليس (1801-1772) أن «الشاعر والكاهن فى البداية كانا واحداً، فقط مع مرور الزمن افترقا.

الشاعر الحقيقى يبقى دائماً كاهناً، كما الكاهن الحقيقى يبقى شاعراً». نجد تسفايغ فى «آخر قصيدة» يتأمل العالم بتقشف: لا يخاف الموت (الليل القادم)، فقط عند المنعطف (الضوء الفاصل) يكون النظر واضحاً، من يغضب يعيش فى الماضى، ومن يخاف ينتمى إلى المستقبل.

فى هذه القصيدة يُلقننا الشاعر درساً: الاستغناء أجمل من الاستحواذ. ها هو ذا تسفايغ، رجل فى الستين يقول وداعاً:
آخر قصيدة
بنعومة تطفو رقصة الساعات
فوق الشَعر الرمادى منذ زمن طويل
فقط عند نهاية الكأس
يتضح قعره الذهبى.
الإحساس المُسبّق بالليل القادم
لا يزعج - بل يُخفِّف!
من لا يشتهى غير ذلك 
يتذوق المتعة الخالصة 
فى تأمل العالم
من لا يسأل عما حققه
من لا يشكو ما يفتقد
ومن يدرك أن تقدم العمر
فقط بداية، وداعه السهل.
أبداً، لا تكون النظرة أكثر وضوحاً
كما عند الضوء الفاصل فى زجاج.
أبداً، لا يحبُّ المرء الحياة بوفاء أكثر
كما فى ظل الاستغناء.

كان تأثير ريلكه على تسفايغ واضحاً فى قصائده، ولا سيما فى أسلوب وطريقة كتابة ما يُسمى بـ«قصائد-الأشياء» التى اشتهر بها ريلكه، ويمكن اعتبار تسفايغ آخر شعراء الألمانية الّذين كتبوا «قصيدة الأشياء» الكلاسيكية كما يتضح فى هذا المقطع: الأيام نزلت منذ مدة من السلم الذهبى للصيف إشراق متأخر يدفئ الأرض الظلال تنمو مبكراً وتسقط على مساحة أوسع من كل الأشجار فى يد المساء.

تتمحور قصائد تسفايغ حول الكثير من المواضيع، من بينها الحبّ، الأحلام، الموت، الطبيعة، كما يتجلى هنا فى هذه الأبيات من ديوانه الأول «أوتار فضية»: أود أن أدخل عبر البوابة المفتوحة وفى دُجَى ليل الحبيبة تهمس الكلمات حتى تحمر وجنتاها هناك، وراء القضبان المتلألئة بالذهب ترتجف الورود الحمراء فى الأمل قبل حلول الخريف الذى سيقتلها بين ذراعيه.

لقد لعبت الأحلام دوراً مهما فى أعمال تسفايغ، خصوصاً فى شعره، إنّها محرك حياته، ودافعه إلى الكتابة، وبالتالى محاولته للاستمرار، لذا عندما توقف عن الحلم توقفت حياته. كان تسفايغ يحلم بالسلام إلى حد الهوس، يحلم بعالم واحد للجميع على هذه الأرض، لم يكن الوطن بالنسبة له مكاناً، بل أفكاراً وفكرة السلام إحداها، وبالتالى؛ لا وجود للحدود فى عالمه. غير أن ظنه خاب بالإنسان، عندما عاين كيف يمكن للحلم أن يصبح فريسة فى يد مجنون نازى مثل هتلر. فيما يلى قصيدته «أحلام» من مجموعته «أغانى المساء» (1917):

أحلام
عليك أن تثق بأحلامك تماماً 
وأن تحيط بجوهرها الخفى
قد تضيع فى الأعلى
مثل النجوم العابرة
فى سماء زرقاء غارقة.
عندما تلمع طوال لياليك
عندما تربط بفرح
الرغبة والإرادة، العطاء والمغامرة
إلى أكاليل زهور عابرة
آنذاك، استقبلها كما لو كانت زهورًا خفيفة فى شَعرك.
وأهدِ نفسك لألعابها المضيئة:
فى جوهرها حقيقة الوهم الأبدى
ظلال جميلة لكل أهدافك
تتدفق ذات مرة فى وحدة مع أفعالك.

تُظهر قصائد تسفايغ بوضوح حساسيته وقدرته على الغوص فى النفس البشرية. أما استخدامه للغة فيبقى من مميزات هذا الشاعر والكاتب الاستثنائى، اللغة التى تنشغل عنده على تأثيث الفكرة والرسالة بأرقى الكلمات والمعانى الممكنة. فى قصيدة «أحلام» تتضح جلياً الصور المزاجية: الأحلام تشبه ظلالا جميلة، الحقيقة والوهم لا يفترقان، لتصبح الحياة حقيقة الوهم الأبدى.

إلى جانب الأحلام، كانت الصداقة تعنى له الكثير، فقد ظل يكتب ويتراسل مع أصدقائه المقربين، خصوصاً زوجته الأولى على الرغم من طلاقهما عام 1938.

من خلال هذه المراسلات التى نُشرت بعد وفاته، نستطيع أن نتعرّف إلى إنسان مضطرب، كئيب، أنهكه الماضى، الحاضر والمستقبل: «عدم الصبر: خوف»، ما زال يبحث عن نفسه: «بمجرد أن يجد المرء نفسه، لا يمكنه أن يخسر أى شىء فى هذا العالم».