بدون أقنعة

مشعلو الحرائق

مؤمن خليفة
مؤمن خليفة

يستطيع الأدب الإنسانى أن يقرا المستقبل ويتنبأ بما يحدث للبشرية من دمار وهلاك.. على سبيل المثال هناك مسرحية عالمية هى «مشعلو الحرائق» للكاتب الألمانى ماكس فريش يحكى فيها عن ظهور أناس مجهولين يقومون بإشعال الحرائق فى البيوت والمتاجر وكافة أنحاء المدينة.


كان هذا فى أعقاب الثورة الصناعية فى أوروبا.. يقرر ثلاثة من مشعلى الحرائق الاختفاء فى بيت أحد النبلاء الألمان وأمام عينيه يضعون براميل البنزين والقنابل الحارقة ويقومون بإخفائها فى بيته.. بل ويعترفون له ذات مرة بهدفهم ومهمتهم الغريبة فى إشعال الحرائق فى كل مكان. فقد راهنوا على أن أفضل طريقة لخداع الرجل الطيب هى إظهار الحقيقة بوضوح أمامه ومصارحته بأنهم جاءوا ليحرقوه ويحرقوا بيته ومدينته وسوف يتولى عقله الطيب التمويه لهذه الحقيقة بنفسه. الرجل بطيبة قلبه لم يصدقهم، فعقله لا يستوعب أن يصل الجحود بهم وبأى إنسان أن يقابل الإحسان بالإساءة.. وهكذا تنتهى المسرحية وقد نجح مشعلو الحرائق فى مهمتهم فأحرقوا الرجل وبيته وسائر أنحاء المدينة.


وهكذا تشعل إسرائيل المنطقة بأسرها وعقولنا لا تستوعب أنها تفعل ذلك بناء على خطة واضحة لتهجير الفلسطينيين من ديارهم فى غزة والتخلص منهم بترحيلهم إلى بلدان أخرى وتصفية القضية إلى الأبد والقضاء على حلم الفلسطينيين والعرب فى إقامة دولة على حدود 1967 وعاصمتها القدس.. هذا الحلم الذى يعيش فى العقل والوجدان العربى منذ نكبة 1948.. فعلها اليهود بمساعدة الغرب قبل 76 عاما واستولوا على أراضى الفلسطينيين فى ذلك الوقت إبان خطة التقسيم التى رفضها العرب وقبلتها إسرائيل التى كانت تعرف أنها سوف تستكمل خطتها عقب حرب يونيو 1967 فاستكملت الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية ولم يبق منها سوى نحو 20% الآن.. وحتى هذه تطمع فى ضمها لها وتستغل كل الظروف لاستكمال المخطط الدنىء. هكذا تفعل دولة الاحتلال بمساندة الغرب والولايات المتحدة الذين يرون فى مقاومة الاحتلال إرهابا يجب القضاء عليه. استغلت إسرائيل هجوم حماس فى السابع من أكتوبر 2023 ذريعة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، ولولا صمود الموقف المصرى من عملية التهجير والرفض التام  له لقضى الأمر الذى فيه تستفتيان.


مسرحية «مشعلو الحرائق» من المسرحيات الصعبة المعقدة التى تقيم حوارا مع مرحلة تاريخية معينة فى الفترة التى بدأت فيها الفاشية تهدد العالم بالدمار والهلاك والاجتياح وهى تستمد موضوعها من المسرح العبثى أو مسرح اللامعقول.. فبطلها «بيدرمان» هو رمز للإنسان العادى الذى يكشف بخوفه وغبائه خوف شعوب أوروبا من صعود النازية وموقفها كان بمثابة المتفرج على الكارثة فى بدايتها وتورطها الجماعى فى المأساة التى حدثت بعد احتلال هتلر لمعظم دولها.. هو نفس الموقف الغربى من الاجتياح الإسرائيلى لقطاع غزة ورضاها عن موقفها السلبى منه وهو تعبير عن «موقف المتفرج» .


«بيدرمان» بتساهله مع مشعلى الحرائق عجَّل بوقوع الكارثة ومن ثم قدَّم لهم علبة الثقاب التى أشعلت منزله وأحرقت المدينة، فى إشارة غير مباشرة إلى مسئوليته الشخصية عمَّا حدث.