محمد عبدالنبي.. جلسة تنويم

اللوحات للفنان: حلمى التونى
اللوحات للفنان: حلمى التونى

أغمِض عينيك، دع صوتى يقودك ويأخذكَ بعيدًا. 
أنتَ حى وموجودٌ وواعٍ بهذه الحقيقة. مع كل عَدَد مِن عشرة إلى واحد يسترخى جسدكَ ويثقل جفناك، تدفأ أطرافك وتطول أنفاسكَ.

عَشْرة. أنتَ الآن هادئ تمامًا، تتنفس من بطنك ببطء وعمق وارتياح. نبضُ قلبك منتظِم وعلى وجهك ابتسامة خفيفة. لا تسمع إلّا صوتى أنا، لا تركّز إلّا مع كلامى أنا. الحياة تقدّم لك كل ما تحتاج إليه مِن قبل أن تعرف أنك بحاجةٍ إليه، أنتَ أميرُ الوجود المُدلل، ملكُ الملوك. الكون موسيقى وأنتَ أذنٌ مُرهَفة، وفى العتمة الدافئة حتَّى أنتَ تصير نغمةً بين النغمات، وإن كانت من لحم ودم.

تِسْعة. تسير فى نفقٍ معتم، لا ترى شيئًا مما يحيط بك، لكنك مع هذا غير خائف، تشعر بالأمان، وتسمع أصواتًا بعيدة حلوة، لا تستطيع أن تتبينها بوضوح، لكنها أصوات مألوفة ومُطَمْئِنة، كأنها أصوات أهلكَ يتسامرون آخر الليل وأنت تنعس على حِجر أمك. تسير فى النفق خفيفًا، وكأنَّ قدميك لا تلمسان الأرض، كأنك تطفو فوق الأرض. لا تزالُ الابتسامة مفروشة على وجهك، وأنت لا تزال صافيًا وهادئًا تمامًا. إلى جانب الأصوات، ثمة روائح أيضًا، روائح ليست زكية ولا منفّرة، لكنها حميمة ودافئة، كأنها روائح بيت طفولتك، هبَّة هواء باردة من شبّاك المنور، نفحة عطن خفيفة من الحمّام، ومهرجان روائح شهية قبيلَ وجبة الغداء الأساسية آخِر النهار. ثُم ملمس ثياب الموسِم الوشيك تخرج من مخازنها وتُفرَد لتهويتها على الأرائك، كتب العام الدراسى الجديد، وممحاة أكل أحد أطفال البيت قطعةً منها. كل ذلك يلفّك ويهدهدك ويحملك بيسرٍ على أجنحته لتصير فجأة خارج النفق.

اقرأ أيضاً | سيرخـيو بيتول ..وذكريات كاتب رحّالة

ثمانية. لا تزال هادئًا، لا يؤلم النورُ عينيك، تستطلعُ ما حولك شغوفًا بعينين جائعتين. أنتَ الآن فى حديقة ويبدو أنَّ اليومَ عيد، خَلقٌ كثيرون وأنتَ جائع ويُخيّلُ إليك أنَّ بنتًا حُلوة تبتسم لك أو تسخر منك. لكنك تسيرُ منشرحَ الصدر، تشترى طعامًا فَتأكل وتشرب، ثم تتكلّم مع الغرباء وتصاحب بعضهم. تتبادل النظرات مع بنتٍ مُلفتة وتسير خلفها حتَّى تلين وتتجاوب مع حديثك.

بعد قليلٍ تمضيان معًا ويدها فى يدك وتبتعدان عن الزحام، تختبئان فى ركن ظليل معتم وتتهامسان حتَّى تفوز بقبلتك الأولى. أنتَ فى الجنة، هكذا تشعر، لكنَّ العيد ينقضى إذ تُظلم صفحة السماء فجأة قبل وقت المغيب ويهطل مطرٌ على غير موعد، وما إن تفرد سترتك مظلة حتَّى تختفى فتاتك كأن لم تكن. تفتش عن مخبأ فى حسرةٍ على ما ضاع منك، تلوذ بمدخل بناية مهجورة حتَّى تنقشع العاصفة.

يُشعلُ لكَ أحدهم سيجارتك، يبدو وجهه مخيفًا ولكنه جذَّاب على نحو غريب، يتحدّث إليك بطلاقة وإقناع، فتقرر الانضمام إليه فى حفلٍ غير بعيد. الموسيقى عالية ترجّ الأجساد رجًّا فتندمج تمامًا فى الرقص والمرح، وقد نسيتَ تلك الفتاة وحديقةَ العيد وترقص مع نساء ورجال لا تعرف عنهم شيئًا، حتَّى تغيب عن الوعى بعد جرعة كبيرة من مُخدّر قوى.

سَبْعة. أنت مستريح تمامًا على فراش وثير، تشمّ روائح مطهرات، وتسمع عبارات متوترة بأصوات خفيضة. كأنها مستشفى وكأنك مريض، أيدٍ غريبة تعتنى بك لأيام، حتى تخرج من المكان وقد تعلّمت الحذر، لم تعد تسمح لغرباء أن يشعلوا لك سيجارة فى الظلام. تسير بجدية ساعيًا من مبنى إلى آخَر وفى كلٍ منها تَتمّ معاملات وتُعقَد صفقات. تلتفت نحو ساعة يدك بلا انقطاع كأنك تخشى مرور الوقت حينًا وتستعجله حينًا آخَر.

حولك رفقة طيبة آمنة، تساعدهم ويساعدونك، لكنَّ فى الجو شيئًا كأنه ضَجَر أو تَعب. تتوقف لالتقاط أنفاسك بين حين وآخر، تخلع ساعتك وتضعها فى حقيبة أوراقك، ترخى ربطة عنقك، تأكل لقمة سريعة وتخلع حذاءك، وتشعر بشوقٍ لشىء لا تعرفه، ويداهمك إحساسٌ غريب كأنك ممثل فى فيلم، لكنه سرعان ما يتبدد فتستعيد الساعة والحذاء وتواصل السعى الدؤوب.
 
سِتّة. أنفاسك هادئة تمامًا، جسدك ثقيل ودافئ، أنت فى غاية الاسترخاء. تعتنى بِصغارٍ وجدتهم حولك أنت والمرأة التى تشاركها الفراش والطعام والأحلام. تتعلّم الحنان فى البيت، والقسوة خارج البيت. تتسامح مع الأغلاط الصغيرة ويضايقك ظُلم الدنيا لأبنائها بقدر ما يزعجك حجود أبنائها بنِعمها، وحين يصفو مزاجك تُغنى أو تتحدَّث بالحِكمة فيعجبك قولك. تشرد ببصرك قليلًا، فتطول قامات الصِّغار على غفلة منك، والمرأة غاضَ ماؤها، فتشعر أنَّ الزمن يتسرب مِن بين يديك، وتحلم أحيانًا بنفق معتم أحاطت به أصوات مطمئنة وروائح أليفة. حين يحاصرك الخواء والضِيق تبكى بين يدى الله، وتشكو إليه ما يعلمه هو وتجهله أنت. تدخّر نقودًا، ثم تنفقها، وتردد الشائعات، وتحفظ النكات، وتتذمّر بصحبة الآخرين بينما تصطف إلى جانبهم فى الأعراس أو المآتم.

خَمسة. كأنَّ السلام حلَّ فى نفسك وفى العالَم أجمع. أنت فى صحبة امرأة شابة على فراشٍ غريب، فرغتما للتو. أنت سعيد، لا ريب فى هذا، لكنك منهَك، ولا ريب فى هذا أيضًا. تُشعِرك المغامَرة بحماس وإثارة أوشكتَ أن تنسى طعمهما، وتستعيد ذكرى قُبلة غامضة فى نهار عيد، فتغنى مطلعَ أغنية قديمة حلوة، لكنَّ نوبة سُعال حاد تستولى عليك فجأةً، فتضحك منك ذاتُ النمش أمامَ مرآتها.

أربعة. اختفى الآخرون، مات مَن مات وسافر مَن سافر، لكن الصور على الجدران وفى الأدراج والذكريات أكثر ممَّا تعتقد أنك عشته فِعلًا. لا يزعجك سوى أنَّ العالَم يستمرّ بمعزل عنك، تنمو الأشجار بعيدًا عن أصابعك، ولا يسعك إلَّا أن تتفرَّج عليه من بعيد، فى شاشات تصغرُ بانتظام، وأنت مستريح على الآرائك والسُرر. تشعر أنك أدّيت رسالتك، لكنك لا تدرى ما هى تلك الرسالة، وحين تشك هل أديتَ صلاتك أم لا تقوم وتصلّى على أى حال، كأنك تسترضى الوقت لا الله.
 
ثلاثة. صرت تحمل جسدك بعد أن كان يحملك، تتحرك بمشقّة وتأكل بصعوبة، وكلّما نمت صحوت كأنَّ عندك موعدًا تخشى التأخُّر عليه. لا تسمع ما يقوله مَن يخدمونك، لكنك تشعر بتأففهم. تتجاهل المرآة وتتجنبها لئلّا يخضّك المُسن الغريب فى داخلها. فى كل شىء تجد خطأً ما وفى كل موقف تجد سببًا وجيهًا للعَصَبية وارتفاع الصوت. لم يعد هذا العالم مكانًا مُريحًا لكنك لا تعرف له بديلًا، فتنتظر وتصبر، غير مكترثٍ لتأفف الآخرين ولا لنوبات انفعالك المتواترة مثل حركة المد والجزر.

اثنان. كل شىء بسيط. الصفحة بيضاء. فى النوم وفى اليقظة تزورك وجوهٌ بلا أسماء كأنها حكايات لم تُكتَب بعد، تميلُ إلى بعضها وتنفر من بعضها. تبكى فجأة بلا مبرر، ثم تعود للضحك بعد قليل. عدتَ للتبوّل فى الفراش كما كنت طفلًا فثبتوا لك شيئًا يأخذ البول ويجمعه فى كيس، لم تزل قادرًا على التحكم فى البراز. إذا أكلتَ شيئًا سهلًا بلا ألم وتغوطت ببساطة تشعر أنك ملك الملوك. وإذا نمتَ بعد الاستحمام ساعة كاملة استيقظت رائقًا كأنك مولود جديد. سمعتَ قديمًا عن معنى الحياة وعن عالَمٍ آخَر تقعُ فيه أمورٌ جليلة بعد أن نذهب إليه، لكنك لم تعد تفهم شيئًا من هذا كله، كأنه لغة أجنبية، ومع ذلك فما أسهل أن تفهم عصافير الشجرة أمام النافذة وتضحك لصراخها كل صبح.

واحد. أنتَ الآن ميّت، لم يعد هناك شىء، تستطيع أن تفتح عينيك، وتستيقظ.