«الطَوّاب» قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني 

 قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني 
قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني 

جلسّة القرفصاء رفيقة دربه الوفية والتي هي أهم شيء في حياته، حين يصاحبها ليس من قبيل الحب وإنما ذلك وليد القهر، فهي كالأصفاد الحديدية الغليظة لحياته أو كالقفص وهو بداخله لا يعدو كونه عصفور مهيض الجناح مبحوح الصوت ليست لديه القدرة أو – للحق- الرغبة في الفرار من جحيمها ولسعات نيرانها التي تضرم كل خلايا جسده المتداع.

 

مؤلمة تلك الجلسة ولكنها بالنسبة له مثل الألم الذي يصاحب لحظات الميلاد لدي المرأة، لكن ما يؤلم أكثر هو أنه لا يجلس تلك الجلسة فقط إنما لا بد أن يكون في حركة دائمة ، ساعات طوال يمكثها منذ شروق أول شعاع من حضن السماء إلى عودته إليها مرة أخرى ، ينقل في بطء موضع قدميه إلى الموضع الذي يليه في استمرارية دائبة وفي خط مستقيم  ثابت الخطي قد يتبارى إلى الاذهان حين تصافح النظرات حركته هذه واقتناعه الكامل بها أن ذلك هو نبضات فؤاده الكسيح وأنه لا يستطيع التوقف عن ذلك لأن في هذا فناءه ومحو ذكراه من صفحات الحياة ، لكن كل ما يجول بالخواطر عاري من منبت الصدق وطريد منزل الحقيقة، نعم هو – طواعية - يسلم لها دفة قاربه في وسط اضطراب أمواج الحياة العاتية ولكن ربما لأنه تجسد فيها أو ربما هي قد تجسدت فيه ، كل ما يعيه هو انتقال جسده الذي ينزف الدمع من بقعة إلى التي تليها صار كالدين علىه أن يؤديه دائما طالما هناك في حافظته الشهقات حبيسة.

 

ما بينهما علاقة فريدة في ذاتها امتزج التمرد فيها بالإذعان وتشابكت راحة المقت بالعشق، رفيق تلك العلاقة قالب الطوب الخشبي والشاهد الأول والأخير علىها ، إن لم يكن هو باعث هبة الحياة في رحمها، عبارة عن مستطيل بيد يقبض علىه بها، يلقي فيه بقطعة الطمي ثم يساويها براحة يده ويزيل آية زوائد ليصبح وجه اللبنة الطينية ملساء ثم ينتزع القالب الخشبي ويعاود الكرة مرة تلو الأخرى فتولد من بين يديه لبنة ، فأخرى ويكتمل الصف والصف الذي يليه ولا تكف يده عن ملء الصفوف باللبنات الوليدة الهشة التي لم تشب عن الطوق بعد، ولا زال كما هو في جلسة القرفصاء يلاحقها كما تلاحق آلام بنيها

.

حين تنتهي كتل الطمي من أمامه يتحايل على ساقيه اللتان اعتادتا جلسة القرفصاء على أن يقوما ويحاولا المشي وكأنهما لطفل لا زال يتهجى أبجدية المشي، تستقر بين يديه قطعة من البلاستك السميك تخفي ظهرها في قماشة سميكة هذه هي (البرش) وعلىها ينقل ما يحتاجه من كتل طينية ليصغيها لبنات صغيرة، ذات يوم تقوم على كتفيها دور عريقة وبنيان مشيد.

 لا زال العرق المتفصد من جبهته يتزايد فيمتزج بالكتل الطينية في الحفرة التي ما ينتهي نهاره حتي يلقي بنفسه بداخلها كالسباح الماهر حين يعارك الموج العفي ولا يتركه إلا وقد نال وسام التفوق في النزال الذي ترك على جسده لباس الوحل من اسفل جيده إلى اخمص قدميه.

وما أن تميل الشمس إلى الغروب حتي يهب متحاملا على نفسه ليقوم بنقل الثري الجاف ويلقي به في الحفرة ثم يطلق المياه علىه من صنبور أصفر نحاسي عبر خرطوم بلاستيكي ثم يكمل طبخته الشهية ببعض القش العجوز، ويقوم بمزج كل ذلك في سلاسة وليونة وكأنه خباز ماهر حين يقوم بتجهيز عجينة الخبز، فلا يبخل علىها بكل ما تحتاجه من مواد وجهد ونية مخلصة حتي يتركها مهيأة للإنجاب، ساعات قليلة تكون قد اختمرت وأصبحت طوع يديه صالحة لركوب القالب الخشبي. 

ينسي بين دهاليز اللبنات النائمة في دعة جزء كبير من حياته يتوه ويضل ما بين درب وآخر، قد لا يعي أسماء الأيام أو الساعات، لا فرق لديه بين السبت أو الثلاثاء فجميعها لديه أيام الله، ولا يعرف من أوقات اليوم الا الفجر حين يستيقظ وحين يتناول طعامه ظهرا وحين يؤذن المؤذن للمغرب ثم يغط في نومه – ربما لا يعرف أن هناك صلاة للعشاء- والليل لم يره ولو حتى لمرة واحدة منذ فارقه شبابه، قد يسمع عنه حكايات من أصحابه وجيرانه حين تجمعهم جلسة، حياته تبدأ من الفجر.

ثم تغلق ابوابها قبيل آذان رحيل النهار.

لا يأبه لمن يسخر منه أو يتخذه وسيلة للتندر، أو من يطلب منه هجر ذلك العمل الجاف الذي نضب مورده ولم يعد يكفي لجلب أرغفة الخبز التي بلا ملح حتى، اما الثريد وما شابه فقلما يذقه إلا ربما على أعتاب الأعياد أو على موائد الافراح التي نادرا ما يدعي إليها، فمن يدعي لفرحه فقير إلا أن كان على شاكلته، وكلاهما ينتظرا رضاء الدنيا علىهما كي يريا شكلا آخر للطعام.

 أما ذوي الثراء فلهم ذويهم وحواشيهم.

أما هو وامثاله ليسوا ممن يتم ذكرهم على طاولة المعرفة.

 من يذكر نكرة.

 أشهر من يعرفه هو القالب الخشبي الذي بدأ ينسل من بعضه البعض ليهوي على المسمار الذي يحاول خفية الهرب جراء ما عانه ولا زال في نهر الوحل الذي لم يجف يوما.

هو الوحيد بين ربوع القرية المترامية الاطراف الذي لا زال يحترف هذا العمل المضنى، والذي قد انقرض منذ ان صارت المصانع العملاقة كفيلة بتوفير اية كميات من الطوب، وليس لأهل القرية فقط بل لجل القري الملقاة بلا اكتراث على خريطة النسيان، والاخيرة تقذف بالطوب اللبن مثل من يقذف بصاقه على قارعة درب التيه.

ما يناله من هذا العمل ربما ان يثبت لنفسه الحائرة انها لا تزال ترفرف بين جنبات قريته البائسة، غير ذلك لا يجني منها شيء.

احيانا يشعر بانه مثل الذي حرث صفحة ماء ترعته ثم ألقى بكل ما لديه من حبوب بداخلها وبالطبع ليس بحاجة إلى الماء، عليه فقط ان ينتظر ظهور الثمار، وهو لا زال ينتظر.

معظم ايامه يقضيها بين القالب الخشبي والبرش الذي يستخدمه كثيرا كوسادة تحتوي راسه الصغيرة وكأنها عروس تحتضن فرحتها المنتظرة، احيانا أخرى يصبح كأنه لحاف يلتحف به للهروب من طعنات البرد والزمهرير في الشتاء وربما مرتبة تحاول ان تريح ظهره من أوجاع القهر والحرمان.

لا يزال في جلسة القرفصاء حين اقترب منه شاب في مقتبل العمر يرتدي بذة تنم على الرفاهية وبهدوء خاطبه قائلا

: للحق لقد تعبت كثيرا كي اصل إليك، وللحق أيضا الأمر يستحق.

رمقه بنظرة غريبة ثم عاد لينقل القالب الخشبي إلى مكان اخر دون ان يتفوه بكلمة ثم بعدما أيقن بنجاح عملية الولادة نظر إليه مبتسما ثم قال

: لما كل أهل القرية يعرفوا من أنا، أنا جزء من هذا الطمي الذي تراه أمامك.

الدهشة اصابت الشاب من هذا الرد، وتلك الفلسفة البسيطة ولكنها هي الحقيقة فقال له وهو يرتقب رده

:   مهنتك تلك انقرضت أصبحت في خبر كان ، مكانها الآن في سجلات الكتب البحثية والمتاحف العلمية.

اقترب كثيرا من نهاية عمله، وأن يراه كالأب الذي ينتظر ابنته عروس يشار إليها بالبنان، ربما على نهاية الأسبوع المقبل يكون الوقت قد حان للقالب الخشبي أن يستريح وأن تكون بداية التقاء اللبنات الطينية على يد صانع القَمائِنُ لتصبح  آجُرًّ حينما تكتمل قمينة الطوب اللبن وبداخلها تصرخ النيران المسعورة لعدة أيام قبل ان تخمد وتتلاشي أمام ميلاد جديد  وحياة جديدة.

حينما أجدب عن الرد عليه عاود الشاب قوله

 : أعرف أنني اثقلت عليكم ، لكن سؤال واحد واحتاج إجابة واحدة ، ما هي مهنتك الأساسية؟

انتفض من مكانه وكانه قد تلقي إناءا من جمر متقد على أم راسه ثم قال في ثبات كثبات الموتى حين السؤال

:طواب يا سعادة البك