حكايات| أنطوان كلوت بك.. رائد الطب الحديث في مصر

أنطوان كلوت بك
أنطوان كلوت بك

أسرار كثيرة ومشوقة تخفيها شوارع القاهرة، التي احتفظت بالعديد من الوقائع والأحداث وكانت شاهدة على تاريخ الوطن.

وتعد الشوارع كتابا مفتوحا يروي تاريخ المدينة والأحداث التي وقعت بها، وتعد اللافتات التي تحمل أسماء الشوارع هي صفحات الكتاب.

ولأسماء شوارع القاهرة تاريخ معروف، حيث إنه قبل عهد محمد علي باشا كانت الأحياء والمناطق تحمل اسم القبيلة التي عاشت فيها في البداية أو منطقة يتجمع فيها أرباب حرفة معينة بينما البعض الآخر يحمل اسم صاحب قصر بني بهذه المنطقة.

اقرأ أيضا| حكايات| شارع حسن صبري.. رجل القانون الذي اختير رئيسًا للوزراء

وقرر حينها محمد علي أول حاكم لمصر إصدار مرسوم بتحديد أسماء الشوارع وتركيب لافتات تدل عليها وأرقام لكل مبني.

وتصحبكم «بوابة أخبار اليوم» في جولة لأهم شوارع القاهرة وأشهرها وتاريخها، من بينها شارع انطوان كلوت بك بوسط القاهرة..

هو أنطوان براثيليمي كلوت، ولد في "جرينوبل" بفرنسا في 7 نوفمبر 1793 من أبوين فقيرين، وربِّي في شظف من العيش، على أن ملامح النجابة كانت تظهر على وجهه، ومواهبه الطبية تتجلى في أعماله منذ كان صبيا؛ لأنه كان على صغره ولعًا بتشريح الحشرات ودرس طبائعها.

وتوفي والده سنة 1801، بعد أن نزح إلى "برينول"، وكان له صديق اسمه الدكتور "سابيه"، فلما لاحظ مواهب الفتى كلوت جعله مساعدًا له، يرافقه في أعماله الطبية، ويتمرن في الجراحة، وكان كلوت يطالع ذلك العلم بنفسه ساعات الفراغ. ثم رأى أن برينول صغيرة لا تفي بما تجنح إليه نفسه، فنزح إلى "مرسيليا" رغم إرادة والدته التي كانت كثيرة التعلق بولدها؛ هذا لأنه كان وحيدًا لها، ولكنه أصرَّ على عزمه، وضغط على عواطفه؛ طلبًا للعُلى وسعيًا وراء العلم، على أنه لم يلاقِ في مرسيليا إلا الخيبة، واضطره العوز لتعاطي مهنة الحلاقة، فصار يختلف إلى حلاق يعالج بالفصد والجراحة الصغرى، ثم عاد إلى بلده مرغمًا، ودخل في المستشفى بعد عناء وتكرار الالتماس، وأكبَّ على الدرس والمطالعة حتى نبغ بين أقرانه، ولكن الفقر كان لا يزال ضاربًا أطنابه بين يديه.

وفي سنة 1817 أتم دراسته، وعُينَ طبيبًا صحيًّا، وكان قد درس العلوم بنفسه وأتقن اللغة اللاتينية على أحد القسوس، ونال درجة بكالوريوس في العلوم، وذلك وفقا للجهاز القومي للتنسيق الحضاري.

وفي سنة 1820 نال شهادة الدكتوراه، فعاد إلى مرسيليا وعيِّن طبيبًا ثانيًا بمستشفى الصدقة، ومستشارًا جراحيًّا بمستشفى الأيتام، فنمَّ به بعض ذوي الحسد فأُقيل من منصبه، ولكنه لم يسعَ في الانتقام، بل تضاعفت همَّته في العمل؛ أراد بذلك أن يبرهن على عدم اكتراثه بالسعاية والوشاية، وأنه إنما ينال الشهرة والسعادة بالسعي والاجتهاد، فكتب كتابًا في استعمال آلات الولادة في الأحوال الخطيرة، حتى صار دكتورًا في فن الجراحة، وذاع صيتُه في مرسيليا.

مجيئه إلى مصر:

وفي سنة 1825 قابله المسيو "تورنو"، وكان تاجرًا فرنسيًا يعمل بمصر، أرسله والي مصر "محمد علي باشا" لاختيار من يليق بمنصب طبيب لجيشه، فحبب إلى كلوت بك المجيء إلى مصر لشغل ذلك المنصب، فقدم على طيب خاطر، فرأى أمامه بابًا واسعًا للعمل؛ لما قد علم من حاجة البلاد إلى الإصلاح الطبي، فأخذ يعمل ليله ونهاره مفكرًا في الوسائل المؤدية إلى المراد.

وعهد إليه محمد علي باشا بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري، وصار رئيس أطباء الجيش. منحه محمد علي باشا لقب "بك" تقديرًا لجهوده في النهضة الطبية التي أحدثها في مصر.

أعماله الطبية في مصر:

أشهر المستشفيات التي بُنيت بناء على اقتراحه مستشفى أبي زعبل، وكانت مقر جنود الجيش المصري، وأنشأ في المستشفى بستانًا للبنات، وفي حوالي سنة 1827 أسّس كلوت المدرسة الطبية في أبي زعبل أيضًا، وكانت أول مدرسة طبية حديثة في الدول العربية، وكانت تضم 720 سريرا. 

وأراد بذلك أن لا يقتصر الطب على الجيش، بل يتعلمه أبناء البلاد؛ حتى يفيدوا أبناء جلدتهم بتطبيبهم وتعليمهم، وكان في السنين الأولى من تأسيس هذه المدرسة هو وحده الذي يلقي الدروس بواسطة المترجمين؛ تسهيلًا لفهمهما، فتُرجمت حينها عدة كتب في الطب والجراحة والعلوم الطبيعية.

ومما كان عقبة في طريق التشريح العملي أن تشريح جثث الموتى كان أمرًا منكرًا في عيون المشارقة، فبذل كلوت جهده حتى أُبيح له التشريح سرًّا، على أن ذلك لم ينجِه من غضب الأهالي عليه، حتى إن أحدهم جاءه يريد قتله خلسة بخنجر، ولكنه لم ينجح.

وفي سنة 1832 ذهب كلوت بك ومعه 12 تلميذا من تلامذة مدرسته هذه لامتحانهم في باريس، فامتحنتهم الجمعية العلمية الطبية، فحازوا استحسانها، وأظهروا كل نجابة وذكاء وبراعة؛ وقد كان نجاح هؤلاء المصريين في امتحانهم موجِبًا لسرور أستاذهم كلوت بك سرورًا زائدًا؛ لأنهم سيكونون له عونًا في نشر الفوائد الطبية والوصايا الصحية في هذه الديار.

وفي سنة 1838 نُقلت المدرسة الطبية من أبي زعبل إلى القاهرة، وهي المعروفة بمدرسة قصر العيني، ثم أنشأ فيها فرعًا لدرس فن القِبالة (الولادة)، يتعلمها النساء؛ لعلمه أَنَّ عوائد المشارقة لا تسمح بولادة النساء على يد أطباء من الرجال، وأنشأ لهن مستشفًى خاصًّا بهن، وكان لهذه الخدمة فائدةٌ عظمى؛ خصوصًا لأن النساء لا يؤذن للطبيب بمساعدتهن في الولادة، ولا الكشف عليهن في تشخيص بعض الأمراض.

ثم قام بإنشاء أماكن للاستشارة الطبية بالقاهرة والإسكندرية، وجعل في كل استشارة أجزاخانة، وأنشأ أماكن كثيرة لمعالجة المرضى؛ كالمستشفيات وغيرها في المدن الكبيرة، وأدخل تطعيم الجدري للأطفال، ولم يكن متداولًا قبل ذلك بمصر، فأوقف انتشار ذلك الوباء، وكان يموت بسببه قبل ذلك ألوف كل سنة، وقد ظهرت نتائج إجراءات الدكتور كلوت بك الصحية في ازدياد عدد سكان القطر إلى أضعاف ما كانوا عليه.

وأظهر كلوت بك سنة 1830 نشاطًا كبيرًا في مواجهة وباء الكوليرا ومعالجة المصابين ما يشهد له به التاريخ. وفي سنة 1835 ظهر الطاعون بالقاهرة، فخاف الأطباء واعتزلوا في بيوتهم خوفًا من العدوى، إلا كلوت بك وثلاثة من زملائه، فإنهم ثابروا على خدمة المرضى ومعالجتهم.

وعندا تولى "عباس باشا الأول" حكم مصر سنة 1849، استأذنه كلوت بك بالذهاب إلى مرسيليا، نظرًا لحالة الإهمال التي سادت البلاد، وبقي هناك حتى تولى "سعيد باشا" سنة 1856، فعاد كلوت بك إلى مصر وعمره 63 سنة.

وقد قرر سعيد إعادة افتتاح مدرسة الطب في احتفال ضخم، واستشار كلوت بك في من يصلح لتولي إدارة المدرسة الطبية، فاختار له خمسةً من نوابغ الأطباء؛ وهم: كلوتشي بك، وفيجري بك، وبرجير بك، وشافعي بك، ومحمد علي بك، فتبادَلوا رئاسةَ المدرسة الطبية والمستشفيات زمنًا.

مؤلفاته:

أولاً- كتبه الطبية باللغة العربية

بواكير الطب الحديث

 القول الصريح في علم التشريح

مبلغ البراح في علم الجراح

نبذه عن التشريح المرضى

ثانيًا- كتبه الطبية باللغة الفرنسية

العلاقات بين وباء الكوليرا في منطقة الحجاز، السويس ومصر

رصد لداء الطاعون في مصر

بحث عن الطاعون والمحاجر

مرض الرمد

لمحة عامة عن مصر، وهو عبارة عن وصف لمشاهداته لأحوال مصر المختلفة، وتمت ترجمته إلى اللغة العربية.

وفاته:

عاد كلوت بك إلى باريس في سنة 1851، فمنحته فرنسا رتبة (كومندور دي لاليجيون دونور)، ثم منحه بابا روما أيضًا لقب (كونت روماني)، وفي سنة 1860 سافر إلى مرسيليا، وتوفي بها في 28 أغسطس 1868.