يسكنها شعراء وفلاسفة: الحديقة الخلفية لبيت عماد أبوصالح

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتب: حسن عبد الموجود

إن أجريتَ بحثاً بسيطاً عن «يا أعمى» لعماد أبو صالح ستلاحظ أن البعض يصنفه ديواناً والبعض الآخر يراه كتاباً حول الشعر والشعراء، وهى نفس حالة الانقسام حول كتابه «مهندس العالم»، لكن من يقرأ أبو صالح جيداً، يدرك أنه لا يميل إلى استخدام لغة عادية حتى فى المقالات، يجتهد ويجهد نفسه ليرفع من مستوى الصحافة إلى مراتب الأدب، فما بالك إن كان يعمل على كتاب حول «أخوية الشعر» يستدعى فيه كل العظماء الذين أحبَّهم وارتبط بهم، من شعراء الجاهلية إلى رواد التفعيلة إلى مغامرى قصيدة النثر؟ يتحدث عماد على ألسنتهم. يستنطقهم، ويلتقط أصواتهم من الأثير، ويعيد إرسالها عبر لغته الخاصة فى هذا العمل. 

والسؤال مرة أخرى: هل هو ديوان أم كتاب حول الشعر؟ 
إن اقتنعنا بأن عماد لديه بيت ضخم فإن كل غرفة فيه تمثل ديواناً، وكل لون فيها، كل كرسي، أو سجادة، أو إطار معلق على حائط، كل مزهرية أو خوان، كل نافذة على الشمس، كل غمامة تسبح فى فضاء البيت، كل حيوان أليف، كل قطعة تمثل قصيدة، لكن عماد لم يكتف بتوسيع البيت عن طريق إضافة غرفة جديدة كل عام أو عامين، إنما فكر مرَّتين، على الأقل، فى توسيعه بطرق مختلفة. الأولى حين كتب عمله «مهندس العالم» محولاً الحقول المترامية خلف البيت إلى حديقة مسوَّرة يعيش فيها أساتذته الأدباء والفلاسفة، وها هو يحمل بلطة بيده، يقف ملتقطاً أنفاسه بعد أن أسقط سور الحديقة وضمَّ مزيداً من أراضى الحقول إليها، لتتسع لمزيد من الأحبَّاء. 

اقرأ أيضاً| العميد.. نجم المعرض 5 نوافذ جديدة لطه حسين

لو دققت النظر قليلاً سترى عنترة. نعم، إنه يقف تحت الشمس دون أن يحاول حماية رأسه منها. وها هو عماد يقترب منه، محيياً إياه تحية الأخوة ثم يحاول أن ينعش ذاكرته بتلك الحكاية القديمة التى جرت بينهما.

يقول عماد: «تسللت- وأنا صبي- وراء عنترة، لأرى جن الشعر فى وادى عبقر. اختبأت خلف صخرة، ورأيته راكعاً على ركبتيه، ويرتجف كأرنب مذعور. انتهزت الفرصة، ولعبت به. طرحته على الرمل، وشددته من أذنيه. زأرت فى وجهه، ودسست أصابعى فى فتحتى أنفه. أبى ربطنى ثلاثة أيام فى وتد خيمتنا. قال لي: ابنى أنا يضرب فارس العرب على مؤخرته؟!».

يدافع عماد عن أخوته، ويعتبر أن وجودهم فى بيته شرعي. يرفع صوته: «يا فرنسا أنا أحذرك: اتركى رامبو لنا. الأم الحقيقية تربِّي، لا تكتفى بالحبَل، وأنت رميته فى الشوارع. ليس ابنك، إنه ابننا. إيزابيل تشهد. كان يقف أمامها على ساقه الوحيدة، فى مستشفى مارسيليا، ويحاول الهرب إلى شمسنا من قلبك البارد. يكرهك».

يمر على شيمبورسكا فى مطبخها، يطالع خطوط الزمن الكثيفة فى وجهها ويديها ومحاولاتها الطفولية لصنع فطيرتها، يتذكر: «حلمت أننى فى بولندا. تسلقت الجدران فى الليل، وغسلت الأطباق- بإخلاص عاشق ولهان- فى مطبخ شيمبورسكا. صحتْ من النوم فجأة، وتظاهرتْ بالحرج. قالت لي: عيب، لا يصح، وهى تحاول إبعادى بيدها، بينما يدها الثانية تدس- خلسة- بقية الأوانى لأغسلها». 

ينظر إلى هلدرلين فى شبَّاكه، يتذكر أيضاً: « رأيت هلدرلين فى لحظة نادرة، أفاق فيها من جنونه. كان يطلُّ من حديد الشبَّاك، هزيلاً وشاحباً، بلحية طويلة شائبة وملابس رثة. رفعت يدى وحييته: 
مساء الخير يا فريدريك، لماذا حبست نفسك ثلاثين عاماً فى بيت نجَّار؟
«أتعلم المهنة».
غريب، ألستَ شاعراً؟
أجابني: على الشاعر أن يصنع تابوته بنفسه».
يطيب لعماد أن يحكى لأخوته ما دار، كذلك، بينه وبين درويش، بينما يكتفى شاعر فلسطين الأول بالابتسام. يقول عماد: «جاءنى محمود درويش فى الحلم غاضباً وحزيناً. سألني: تكرهنى مثلهم؟. أجبته: أنا أحبك، كتبت لك قصيدة جديدة. قال بهلع: لا لا، قصيدة نثر لا، لا تُقلق راحتى فى قبري. قلت: يا أمير الغناء، لا يليق معك الكلام بدون غناء. ابتسم، وعاد للنوم، وغنيت له:
ويحلُّ الظلام
وأسوِّى سريراً من العشب حتى تنام
وأغطيك مثل صبي
وأصلى على اسم النبي
وعليك السلام».
لا يهدأ عماد مساء كل يوم إلا حين يعبر بهم فرداً فرداً ويسمع غطيط نومهم، ويرى كائنات الأحلام تنثال من شبابيكهم إلى غرفهم.