يون فوسه بين «ثلاثية» و«صباح ومساء»: التذكير بمعنى الأدب ومغزاه

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتبتمنصورة عز الدين
حين زرت اسكندنافيا قبل سنوات، فاجأتنى الطبيعة: امتداد المياه من كل جانب، والتقشف الجغرافى وقلة النباتات نظرًا للطقس البارد، على جسر أوريسند؛ الرابط بين كوبنهاجن ومالمو، أحسستُ بأننى أمام طبيعة منيمالية أو صحراء مائية، لو جاز التعبير، وخلال قراءتى لأعمال فوسه، استحضرت تلك الطبيعة وذلك العالم الذى أثار فى نفسى نوعًا من الوحشة الممزوجة بالإعجاب. شعرتُ أن ما يقابل هذا العالم لغويًا هو الصمت، أو على الأقل لغة تنبع شعريتها من التقشف والتخلص من كل الزوائد والأوصاف والمجازات المجانية. كان هذا انطباعًا عابرًا، سجلته فى يومياتى وقتها، ثم وجدته متجسدًا أمامي، بينما أقرأ الكاتب النرويجى يون فوسه مؤخرًا.

عالم فوسه، كما تبدى لى فى عمليه «ثلاثية» و«صباح ومساء» (دار الكرمة.. ت: شيرين عبد الوهاب وأمل رواش)، متقشف، كأنما يقدم الكاتب العمود الفقرى للعيش وللوجود الإنساني، ويتخلص من كل ما هو فائض عن الحاجة. ومع هذا، البيئة المحلية واضحة، وكذلك المعالم الجغرافية للمكان. بعد الانتهاء من قراءة «ثلاثية» مثلًا، شعرت بأننى أعرف الأماكن التى دارت بها الأحداث، أننى على مقربة من البحر، تصلنى رائحته وأصواته، أسمع رفيف أجنحة النوارس ونعيقها، أرى زرقة الفيورد حين يكون الجو مواتيًا، وأبحر مع أسلا وأليدا صوب بيورجيفين.

اقرأ أيضاً| ما رواه مهاب نصر قبل ذهابه إلى النوم الكبير!

يحدث هذا، رغم أن فوسه مقتصد فى أوصافه، موجز فيما يكتبه كأنما يكتفى بأقل القليل، أو كأنما يطمح إلى كتابة حيوات فى حدها الأدنى، لكنه يجيد اختيار ما يخرجه من حيز الصمت، فيصبح هذا القليل كافيًا لخلق عوالم وشخصيات لا تُنسَى.

ومن نقاط تميزه أيضًا، طريقته الخاصة المازجة بين المسرح والرواية. لا أعنى بهذا فقط أنه يكتب المسرح والرواية، ولكن أنه حتى فى رواياته يستحضر جماليات المسرح وتقنياته، خاصة فى الحوارات الموجزة؛ التى قد تميل للتكرار، أو للصمت والحوار من طرف واحد. فأحيانًا لا تكاد الحوارات تقول شيئًا. يكرر فوسه مفردة «يقول» أو «تقول» قبل كل جملة حوارية، لكن ما الذى يقال حقًا؟ لا شيء تقريبًا. كأن حيوات الشخصيات تجرى داخل وعيهم، وتتأسس على ما لا يقال، على ما يُسكَت عنه.

ما يلفت النظر فى «ثلاثية» و«صباح ومساء» أن العملين يمكن المجازفة بالنظر إليهما كروايتى أجيال مكتوبتين بطريقة مبتكرة جدا ومخالفة للسائد والمألوف فى هذا النوع من الروايات. كأن المؤلف يأخذ العمود الفقرى لهذا النوع من الروايات، ويصيغ العمل وفقا لرؤيته الخاصة. نحن فى الحالتين أمام سلالة أو خط نسب، تبدو فيه الحيوات منيمالية، والخلف يكرر سيرة السلف بشكل ما، فحيوات شخصياته تبدو كما لو كانت تكرارًا لحيوات الأسلاف؛ لا شيء يكاد يتغير رغم اختلاف العصر وطبيعة المجتمع والعالم. وتبدو الوحدة عميقة ومتجذرة فى الوجود البشري، كأنها علامة الإنسان وتعريفه. ومع أن شخصيات فوسه تبدو كأنما تعيش حياة خالية من الصراعات الحقيقية، لكن الصراعات الأصعب التى تخوضها هى مع الخواء والفراغ واللاصراع. وربما لهذا يدفع هذا الكاتب قراءه إلى مواجهة أسئلة وجودية معقدة عن الحياة والموت وعن معنى الوجود الإنسانى وجدواه.

لقد استدعت قراءة فوسه سؤالًا ظل يلح على وأنا أنتقل من عمل لآخر: أهذا هو الواقع المعيش؟ وتمثلت إجابتى فى أن هذه عوالم شديدة الواقعية، ومشغولة بحيوات البسطاء، مَن تخلو حيواتهم من كل ما هو مثير أو صاخب، مَن قد نقابلهم دون أن ننظر لهم نظرة ثانية. حيوات لا يكاد يحدث فيها شيء. غير أنها أيضًا عوالم مفارقة للواقع وتحمل غرائبيتها الخاصة؛ غرائبية خافتة تكاد تكون متلاشية، يمكننا عبرها التواصل مع الأحبة المغيبين بالموت، والتحاور مع الأطياف والأشباح. هل أجازف بقول إن ما يكتبه يون فوسه هو ظل الواقع أو طيف الواقع؛ حيث يكاد يكون كل شيء مكتمل الواقعية، إلّا أنه يحمل بعدًا سحريًا صوفيًا مع هذا؟ ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الأدق منه قول إن ما يقدمه هذا الكاتب النرويجى الكبير هو الفن؛ الفن كما يجب أن يكون. فشأنه شأن الكتاب الكبار، لديه قدرة على غربلة ركام الواقع، والخروج منه بفنٍ خالص.

لكن ما الذى أعنيه بالضبط بالعيش مع الأشباح؟ هل يقتصر الأمر فقط على تواصل الأحياء مع الأموات، حيث لا حدود فاصلة بين العالمين؟ لا يقتصر الأمر على هذا، بل يمتد إلى العيش مع أشباح الماضي. إذ ثمة انجراف دائم نحوه. كما لو أن فوسه يكتب وفقًا لرؤية ويليام فوكنر الخاصة بأن الماضى دائمًا معنا، إنه حتى لا يمضي. على سبيل المثال، الجزء الأخير من ثلاثية، من المفترض أنه يدور حول الابنة أليس، لكن ما نجده أن بطلته هى الأم أليدا رغم موتها، سواء عبر طيفها القابع فى غرفة المعيشة أو عبر أحداث ماضيها التى تسد ثغرات ما فى الجزأين الأول والثاني: «سهاد» و»أحلام أولاف».

تتبدى الطيفية المهيمنة على عالم فوسه أيضا فى فعل القتل. يرتكب أسلا ثلاثة جرائم قتل، على ما يبدو، فلا شيء مؤكد هنا، لكن الأمر يبدو تلقائيًا وكأن القتل فعل عادى كالتنفس، لا نراه شاعرًا بالذنب، أو مباليًا بهذا، لكن حين يتبعه العجوز، بعد أن غيَّر هو اسمه إلى أولاف، مبتزًا إياه بشكل غير مباشر ومذكرًا إياه بجرائمه، لا يتجلى لنا بدايةً إن كان العجوز هذا شخصًا حقيقيًا أم لا، إذ قد نؤوِّل ظهوره باعتباره ضمير أسلا مثلًا، أو شبحًا يتوهمه ويمثِّل ذاته الأخرى. وحدها حقيقة أن أسلا قد شُنِق فعلًا بعد إبلاغ العجوز عنه، تخبرنا أن الأخير شخص حقيقي، ساقه القدر إلى أسلا للاقتصاص منه على جرائمه المرتكبة، رغم أن الرجل فى موضع سابق لم يكن يعنيه سوى نيل بعض المكاسب المادية وقدح من البيرة مقابل صمته.

لكن أهم ما يسم كتابة فوسه هو تلك المسحة الصوفية والروحانية المظللة لها. يتبدى البُعد الصوفى الروحانى فى «صباح ومساء» على سبيل المثال، فى أفكار أولاى عن الروح الإلهية الكائنة فى كل شيء، فكلمة الله وروحه كامنة فى كل شيء، والله موجود بالطبع «لكنه البعيد البعيد والقريب القريب، لأنه كامن داخل كل واحد من البشر...». فكرة كمون الروح الإلهية فى البشر كل الموجودات تُذكِّر بمبدأ الحلول والاتحاد عند المتصوفة المسلمين. 

الإيحاء الدينى موجود فى الرواية أيضًا من خلال أن البطل يوهانس وصديقه بيتر يعملان بالصيد، والاسمان هما النسخة النرويجية من اسمى يوحنا وبطرس، ما يستحضر تلميذَى المسيح اللذين كانا صيَّادين بدوريهما.

هذا بخلاف أن الرؤية الدينية الميتافيزيقية، حاضرة بقوة من خلال تلك الرحلة البرزخية إلى العالم الآخر، حيث يلتقى يوهانس بصديقة الراحل بيتر، ويبدو كأنما يسير على التخوم بين عالَمى الغيب والشهادة. الخوض فى عالم ما بعد الموت، والتواصل الروحى بين الأحياء والموتى حاضر بالمثل فى «ثلاثية» من خلال تواصل أليدا مع أسلا بعد موته، وكذلك رؤية أليس لأمها أليدا رغم موتها كما سبق وأشرت.

وكذلك قد يحيلنا حمل أليدا وهروبها مع أسلا بحثًا عن مأوى، من طرف خفي، إلى مريم العذراء، ورحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثمة أيضًا هيمنة للجريمة والعقاب على اقترافها المتمثل فى شنق أسلا، أو هيمنة للخطيئة والقصاص لو لجأنا إلى اللغة الدينية.

بكلمات أخرى، تزخر عوالم فوسه بالحس الصوفى والغنوصية القائمة على المعرفة الحدسية الباطنية أو العرفان، إن اخترنا تعريفًا من صميم التصوف الإسلامي. فشخصيات هذا الكاتب النرويجي، فى معظمهم، يتواصلون عبر بصيرتهم.

ختامًا، هذه كتابة تُذكِّر بمعنى الأدب ومغزاه، بمعنى أن يكون للكاتب بصمته الخاصة، إضافته التى يضيفها إلى من سبقوه، واقتراحه الجمالى الجرئ غير الخاضع للسائد، وغير اللاهث خلف مقروئية أكبر أو مواءمات ومساومات خارج رؤاه الفنية.

كتابة تُذكِّر بما سبق وكتبه ماكس فريش فى روايته «شتيلر» (دار ممدوح عدوان، ت: سمير جريس): «ليست الكتابة تواصلًا مع القراء، أو تواصلًا مع الذات، بل تواصل مع ما لا يُباح به. وكلما باح الإنسان بما فى دخيلته على نحو أدق، تجلى المسكوت عنه على نحو أنقى، أى تجلت الحقيقة التى تدفع الكاتب وتحركه».