خواطر الإمام الشعراوي .. المحافظة على حركة الحياة

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يواصل الشيخ الشعراوى تفسيره للآية 220 من سورة البقرة: «فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

بقوله: ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملاً، وإنما أرسل لهم رسُلاً يبينون لهم منهج الله، فكان الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الأهواء فى نفوسهم، ومع ذلك رحمهم الله فلم يسلمهم إلى الأهواء، بل استمر موكب الرسالات فى البشر، وكلما غلبتهم الأهواء وطم الفساد، أرسل الحق برحمته رسولا لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذى ميزه الله بخلود منهجه، وجعل القيم فى أمته. وصارت الأمة المحمدية هى حاملة أمانة حراسة المنهج الذى يصون حركة الحياة فى الأرض؛ لأن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. ثم نبهنا الله من بعد ذلك إلى أن نهاية الإنسان إلى نعيم الله فى الجنة لن يأتى سهلاً ميسوراً، بل هو طريق محفوف بالمكارة، فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها وتدربوها على تحمل هذه المكاره، وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق.

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات». ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للإنسان الخليفة فى الأرض عقلاً يفكر به، وطاقة تنفذ تخطيط العقل، وكوناً مادياً أمامه يتفاعل معه فى الحركة: فالعقل يخطط، والطاقة تنفذ فى المادة المخلوقة المسخرة لله.

اقرأ أيضاً | خواطر الإمام الشعراوي .. الجزاء ليس فى الآخرة فقط

إذن فكل أدوات الحركة موجودة لله، وليس لك أيها الإنسان أن تخلق شيئاً فيها إلا أن تُوجه طاقات مخلوقة للعمل فى مادة مخلوقة، فأنت لا توجد شيئا. وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة، بأن تقدر للعاجز عن هذه الحركة نصيباً من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك فى الحياة حركة تسعك، وتسع من تعول، وتسع العاجز عن الحركة. وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة المتحركين من إخوانه المؤمنين، وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وأَمَّنْتَ العاجز، فهو جل وعلا يؤمنك حين يطرأ عليك العجز. لقد جعل الله سبحانه حالة الحياة دولاً بين الناس، فلا يوجد قوم قادرون دائماً ولا قوم عاجزين دائماً، بل يجعل الحق من القادرين بالأمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين بالأمس قادرين اليوم؛ حتى تتوزع الحركة فى الوجود.

وحتى يعلم كل منا أن الله يطلب منك حين تقدر؛ ليعطيك حين تعجز. لذلك طلب منا أن ننفق، والنفقة على الغير لا تتأتى إلا بعد استيفاء الإنسان ضروريات حياته، فكأن الحق يقول لك: إن عليك أن تتحرك فى الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من تعول، وإلا لو تحركت حركة على قدرك فقد لا تجد ما تنفقه. وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية الإنفاق على الدائرة القريبة منه؛ ليتحمل كل موجود فى الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا نَسَبِيّاً؛ كالوالدين والأقربين. وأن نجعل الضعفاء من الأيتام مشاعاً على المجتمع مطلوبين من الجميع. سواءٌ كانت تربطهم بنا قرابة أو لا تربطنا بهم قرابة فهم جميعاً أقاربنا؛ لأن الله كلفنا بأن نرعاهم. ولكن هل يمكن أن يستقر منهج الله دون أن يعاديه أحد؟ طبعاً لا؛ لذلك ينبهنا الحق إلى أننا سنجد أقواماً لا يسعدهم أن يطبق منهج الله فى الوجود؛ لأنهم لا يعيشون إلا على مظالم الناس، هؤلاء قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج الله، فلتنتبهوا لهؤلاء؛ ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع الفتنة بالكفر من الأرض؛ لأن الكفر يعدد الآلهة فى الكون وسيتبع كل إنسان الهوى، ويصبح إلهه هواه وستتعدد الآلهة بتعدد الأهواء، ولذلك كتب الله على المؤمنين القتال وقال: «وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ»، كل ذلك ليضمن لنا الغاية التى يريدها، وهى الدخول فى السلم والسلام والإسلام كافة. وبعد ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت إلى ذلك الحركة الإيمانية فقال: «إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ الله أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ» .

ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطى فى الإنسان ليحميه ويجعله جهازاً سليماً قادراً على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة، وهو العقل، ويلفتنا بضرورة أن نمنع عن العقل كل ما يخمره أى يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما يريده الله أداة الاختيار بين البدائل. وما دام العقل هو الذى يخطط للطاقة الموجودة فى الإنسان لتعمل فى المادة الموجودة فى الكون فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليماً، فلا يحاول الإنسان أن يستره، ولا يقل أحد: (إنى أستره من فرط زيادة المشكلات)، لا: لأن المشكلات لا تريد عقلاً واحداً منك فقط، ولكنها تريد عقلين، فلا تأتى للعقل الواحد لتطمسه بالخمر.