ناصر الربّاط وتقي الدين المقريزى.. وجدان التاريخ المصرى

ناصر الربّاط ..تقى الدين المقريزى..  وجدان التاريخ المصرى
ناصر الربّاط ..تقى الدين المقريزى.. وجدان التاريخ المصرى

فى مراجعة لسيرة سوزان سونتاج فى مجلة النيويوركرالأميركية بعنوان «الممارسة اللامقدسة للسيرة الذاتية»، كتبت جانيت مالكولم: «غالبًا ما يمل كتاب السيرة من مواضيع بحثهم، فهم مع الزمن يصبحون مألوفين لهم بشكل صارخ. نحن لا نعرف أحدًا فى الحياة العادية بنفس العمق ونفس الألفة التى يعرف بها كتاب السيرة مترجَميهم. إن رواية قصة حياة شخص آخر بناء على كم هائل من المعلومات العشوائية، غير الموثقة فى غالب الأحيان، هى بالضرورة عملية مجحفة.  وقد يكون من المستحيل إيفاء متطلبات الحكم المجرد والقدرة على التعاطف التى تفرضها هذه النوعية من الكتابة على الكاتب عند مواجهة موضوعه».

أنا مدرك لهذا المأزق تمام الإدراك. فقد ظل مشروع كتابة سيرة المقريزى معى لسنوات متطاولة، قررت خلالها التخلى عنه بإحباط مرات عدة.  ثم يظهر عامل جديد يعيد إذكاء اهتمامى ثانية بالرجل وبحياته وأعود إلى مشروعي. وعليه فقد أصبح العثور على مزيد من المعلومات حول المقريزى وحياته وبيئته الاجتماعية وآرائه ومعتقداته وأهداف كتابته للتاريخ شغفًا مزمنًا. وقد تطلب هذا الأمر غربلة عدة آلاف من الصفحات من أعماله التاريخية الواسعة ونصوص العديد من مؤرخى وكتّاب سيرته المعاصرين وكذلك أولئك الذين كتبوا عنه لاحقاً بمن فيهم كتاب العصر الحديث. هذا النقص فى التعاطى مع المناح الفكرية والنفسية والعاطفية فى سيرة المقريزى لم يكن مفاجئًا بالنسبة لي.  فقد كان نادراً فى التأريخ العربى فى العصور الوسطى الخوض فيما نراه اليوم من أهم مظاهر السيرة الذاتية، أى التفاصيل الحميمة لحياة المترجم له، إلا فى بعض الحالات الاستثنائية عندما استقر رأى بعض الكتاب المتميزين، مثل أسامة بن منقذ أو أبو شامة الدمشقي، على مشاركة قرائهم بعضاً من مشاعرهم وأفكارهم وحياتهم الداخلية عندما كتبوا سيرتهم الذاتية.>

اقرأ أيضاً| أيمن الحكيم.. أسرار «الفتنة الكُبرى» في حياة صبري موسى

 كان المقريزى بلا شك شخصية فريدة من نوعها. فهو قد قرر بعد اعتزاله، وربما قبله أيضاً كما يبدو لنا من النتف الشخصية المبعثرة عنه فى أعماله التاريخية، أن يترك العنان لهواه وأن يتكلم بحرية عما يشعر به أو يراه من دون رهبة أو خجل، حتى عندما كانت آراؤه مثيرة للجدل بين أقرانه كما رأينا. ومع ذلك، فهو لم يترك أى سيرة ذاتية تشرح لنا تفرده، ولم ينظم حتى مشيخة له (أى قائمة بمشايخه وكتبهم التى قرأها) كما فعل عدد من زملائه المشهورين مثل ابن حجر العسقلانى والسخاوي.

وبالتالى فإن أى محاولة حديثة لسرد سيرته الذاتية كان متوجباً عليها الاعتماد بشكل أساسى على التراجم التى صاغها العديد من أقرانه ومعاصريه، المعجبين به منهم والمنتقدين له على حد سواء. ثم جاء نشر النص الكامل لكتاب درر العقد الفريدة فى تراجم الأعيان المفيدة، ليغير المعطيات المتوافرة عن سيرة المقريزى تغييراً تاماً. فهذا الكتاب، الذى يبدو للوهلة الأولى على أنه كتاب تراجم لسير معاصرى المقريزي، يفصح فى الحقيقة عن الكثير من سيرة المقريزى نفسه كما بثها الكاتب فى سير من عرفهم وأحبهم وعاش معهم وشاركهم أفراحهم وأحزانهم.  فسير حياة الآخرين هذه قدمت له العديد من الفرص لكى يضمنها إشارات عن نفسه وظروف حياته وآرائه الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المختلفة تحت ستار الأحاديث والمناقشات التى عقدها مع المترجم لهم، والأحلام التى رآها عنهم خلال حياتهم وبعد وفاتهم، وانطباعاته عنهم وآرائه عن تصرفاتهم، وإطرائه لقراراتهم الصائبة وتحذيره لهم مما رآه خاطئاً.  



وعليه فقد أثبت الكتاب أنه كنز معلومات هائل لمشروعى فى الكتابة عن المقريزي، مما غير من مضمون وتوجه هذا المشروع تغييراً جذرياً.  فقد مكننى كتاب الدرر من رسم صورة أكثر اكتمالاً للرجل، العالم والمؤرخ والمراقب لأحداث عصره، من تلك التى كانت لدينا حتى ذلك الحين.

وهو قد سمح لى أيضًا بإسقاط مشروعه الكبير لكتابة تاريخ مصر الذى شغله فى النصف الثانى من حياته المديدة على ظروف نشأته وتعليمه ومعتقداته وعلاقاته الاجتماعية ومعاييره الأخلاقية التى لم يكن فيها أى مهادنة وإنجازاته وآماله وخيباته وكيف اختار التعبير عنها.

المشروع الثانى الذى شغله فى نفس الفترة من كهولته، والذى تمثل فى كتابة سيرة شاملة للرسول محمد (ص) غطت كل زمن النبوة من آدم إلى أنبياء العهد القديم وصولاً إلى الرسول ومن ثم عائلته ونسله، يدل على ترسخ تدينه مع تقدمه فى العمر وتعمق إخلاصه لآل البيت (الذين كان يعتقد بشغف أنه من سلالتهم عبر الفرع الفاطمى على الرغم من أنه كان يتكتم على هذا النسب طوال حياته).

على هذا وعلى الرغم من الوقت الطويل الذى أخذه منى استخلاص السيرة الذاتية للمقريزى من مجموع كتاباته، إلا أننى لم أشعر بالملل منه البتة. على العكس من ذلك، فإن الرجل نفسه، أو ما يمكن لى أن أستعيده من شخصية رجل مات منذ حوالى 600 عام، استولى على مخيلتي. بدأت أتصور مظهره وصوته ونظرته ومشيته وشخصيته اللاذعة. ازداد تقديرى لاستقامته ومثابرته واستعلائه عن الصغائر مع كل قصة جديدة اكتشفتها كشف فيها عن مشاعره وآرائه كما لو كان يكتب لنفسه. بدأت كذلك بتفهم سذاجته فى مواجهة كل ما هو خارق للطبيعة، وكآبته العميقة، وسوداويته المتزايدة، وسخطه على حكام عصره، الذى تجلى أكثر ماتجلى فى تراجمه لكبار المماليك فى عصره من أمراء وسلاطين، ورؤيتها من خلال منظور مختلف. فهو ربما كان يزداد سخطاً وتذمراً وذعراً مع تقدمه فى العمر، ولكن ظروف مدينته وبلده الحبيب كانت فعلاً تسير نحو الأسوأ فى نفس الفترة، أى فى الفترة المملوكية البرجية المبكرة التى كان المقريزى منكباً فيها على الكتابة والتدوين، مما يبرر تشاؤمه وسوداويته.  

وهكذا وجدت نفسى أتعاطف مع مشاعره، وحججه، ونقده لأولى الأمر حوله، وآرائه الدينية الصارمة التى لا هوادة فيها، على الرغم من أن معظمها ينتمى للآراء المتزمتة التى أعارضها فى حياتى الخاصة اليوم.  وصرت أتساءل عند التفكير فى اللحظات المريرة من الفشل الاجتماعى والأخلاقى والسياسى التى نمر بها فى عصرنا الحالي، «كيف كان رد فعل المقريزى سيكون لو كان حاضراً اليوم؟».

من هنا بدأت بتفهم مدلولات عنوان مقال مالكولم حول اللعنة الكامنة فى كتابة السيرة الذاتية واستحالة الوصول إلى توازن بين الحكم النقدى على الشخصية المترجمة والتعاطف معها فى الآن نفسه تحت وطأة الانغماس المديد ولكن غير المكتمل قطعاً فى حياة تلك الشخصية. فتشت عن وسيلة للخروج من هذه الورطة المعرفية ووجدتها جزئياً فى الاعتماد على ثلاثة عوامل مخففة. الأول كان رد فعل مباشر اعتمد على تحليل التحيز الناتج عن التعرض المفرط لحياة المقريزى ومقاومة تأثيره عند الكتابة عنه.

الثانى تمثل فى محاولة إعادة تقييم آراء معاصريه فيه تقييماً نقدياً، سواء كانوا أصدقاء مقربين ومعجبين بالرجل وعلمه أو حاسدين مستترين أو معارضين مؤكدين، والسعى لفهم دوافعهم ومواقفهم.

أما العامل الثالث فهو السماح لكتابات الرجل التاريخية بالكشف عن مواقفه وصفاته وخصائصه ومحاسنه ومثالبه من خلال تحليل دقيق لأساليبه فى تنظيم نصوصه واستشفاف أنماط المرجعية التى اعتمدها واستجلاء بنية نصوصه وتركيب عباراته واختياره لها حسب المقام والمقال.

هذه العوامل التحليلية الثلاثة قد دمجت معاً فى بناء حججى فى تقديم المقريزى بالصورة التى قدمته عليها فى هذا الكتاب.