زاهي حواس ..فليحفظه خِنُومْ!

رواية خوفو وذات العيون الذهبية
رواية خوفو وذات العيون الذهبية

هل تعلم أنك ما كنت ستولد أبدًا؟ هكذا أسرَّت لي أمي «حتب-حرس»..

«منذ ولادة أخيك الأكبر قبلك بخمسة عشر عامًا لم أكن ألِد سوى إناث، وكنت أعاني أيضًا من الإجهاض المتكرر. وقبل ولادتك مباشرةً أنجبت ذلك المولود الميت الذي اقتُلِع من أحشائي وتسبب في تدفق الدماء بغزارة من رحمي حتى عجزت أي داية عن إيقافه. ظنوا أنني مُت وتركوني، ولكني بُعثت من جديد بمعجزة. ثم وُلدتْ أختك «ميريت إت إس».. مولودة ضخمة منذ المهد.

اضطرت الدايات المشرفات على الولادة إلى توسيع عنق الرحم بكماشة لتمرير رأس الرضيع. كانت ولادة عَسِرة، تألمتُ خلالها ألمًا شديدًا حتى تمنيتُ أن تكون هي آخر أبنائي، وألا ألد بعدها أبدًا. وعلاوة على ذلك كان والدك «سنفرو» قد هجر فراشي، ومع تقدمه في السن أصبح أكثر انغماسًا في ملذاته؛ فقد كان -وما زال- يقضي وقتًا كبيرًا مع محظيات الحريم، وكان هذا مصدر ارتياح بالنسبة لي، فلن أخاطر بحياتي مرة أخرى كل عام وأجلس القرفصاء على مقعد الولادة الحجري أصرخ كما الحيوان لأضع طفلًا جديدًا.

اقرأ أيضاً| بمشاركة 1200 ناشر و70 دولة.. معرض القاهرة للكتاب يفتح أبوابه للجمهور الخميس المُقبل

كان والدك قد عيَّن للتو شقيقك الأكبر وليًّا للعهد، وكان مثلك رياضيًّا وجسورًا لا يعرف الخوف. أراد أن يشارك في رحلة صيد فرس النهر مع فلاحي المنطقة الذين نظموا حملة للقضاء على تلك الثدييات الضخمة ذات الجلد السميك التي تدمر محاصيلهم كلما جاءت للرعي ليلًا على ضفاف النيل. كانوا يصطادونها أيضًا لأنهم يشتهون لحمها الطري اللذيذ، وكان البعض يستخلص جلودها السميكة لصناعة الصنادل والحقائب، والبعض الآخر يستحوذ على أسنانها من أجل العاج، وآخرون يستخدمون شحومها لصناعة المراهم والدهانات، فكل شيء جيد في فرس النهر كما تعلم أنت! أما شقيقك فكان يريد أن يختبر في اصطيادها نموذجًا جديدًا لحربة كان قد صمَّمها وأمر بتصنيعها في ترسانات ممفيس.

وفي اليوم المحدد، ذهب وكله ثقة واعتزاز بنفسه بصحبة حرسه الخاص ومجموعة من الصيادين المحترفين. انتظروا عودة الحيوان إلى النهر في الصباح الباكر بعد أن يكون قد تملَّك منه الإنهاك وامتلأ جوفه بالطعام. كان أخوك في مقدمة المركب يصوِّب حرابه نحو جانبي فرس النهر، ولكنه تمكن من إصابته فحسب على الرغم من محاولاته المتكررة.

لم تنجح رءوس الحراب في اختراق جلد فرس النهر السميك. حينئذ قفز الحيوان في مهب الريح قفزة غاضبة ومر تحت قارب أخيك البردي وقلَبَه مثلما تُطوى الصحيفة. مزَّق الوحش أخاك وفرَّ تاركًا خلفه النهر مخضبًا بدمائه وروثه».

كانت تلك القصة جزءًا من أسطورة حياة أخي القصيرة. حفظتُها عن ظهرِ قلبٍ. تركتُ أمي تقصُّها عليَّ للمرة الألف، فالحَكْي يساعدها على طرد شعور الفَقد الأليم الذي لم تتعافَ منه قَطُّ. كانت تعبث بعصبية بالأساور الفضية المرصعة بأجنحة الفراشات التي أهداها إياها والدي عندما ولِدتُ، لكن ها هي الآن وقد تورمت ذراعاها لدرجة لم تمكنها من ارتداء سوى سوارين فقط في كل رُسغ، أما باقي الأساور التي كانت تزين ذراعيها إلى المرفقين في الماضي فقد تم تخزينها بعناية في صندوق من خشب الأبنوس.

عندما كنت أراها وقد زاد وزنها -فقد كانت تعاني من مرض يجعلها شاحبة اللون وينقص وزنها ولا نعرف اسم هذا المرض- مُغلَّفة بسترة واسعة تشبه الحقيبة، حقيبة جميلة من الكتان الملكي، كنت أجد صعوبة في تخيلها عندما كانت امرأة شابة رشيقة ترتدي ثوبًا يُبرز مفاتن جسدها المتناغمة، وتستعرض على طول ذراعيها المشدودتين هذه المجموعة الفريدة المكونة من عشرين سوارًا ذات أحجام متناقصة. نَظَرتْ إليَّ فبدت نظراتها مجهدة بسبب ثقل جفونها على عينيها، ووجهها المحفور بالتجاعيد يوحي بأنها كانت امرأة متسلطة حارسة للتقاليد والآداب. تجنبتْ أمي سرد تلك الرواية المريعة عن محاولات لمِّ أشلاء جسد أخي الذي لم يتم قَطُّ العثور على بعض أجزائه، التي غالبًا ما سحقها وابتلعها ذلك الوحش.

استطردت أمي: كانت الثرثرة كثيرة في البلاط. قريبًا جدًّا لن أَصلُح للإنجاب. هل تدرك أنني كنت قد عزمت على تنصيب ابن محظية والدك على العرش على الرغم من كل مرات الحمل التي اضطررتُ إلى تحمُّلها؟ لكن الأمر استغرق محاولة واحدة فقط وكان الاختبار حاسمًا: تبولتُ على كيس قماش مملوء بالشعير فأنبتَ؛ مما كان يعني أنني حامل، وأنني سأنجب أميرًا، وكنت أنت ابن المعجزة!

عندما شعرت بآلام المخاض أسرعت إلى جناح الولادة الذي أقيم في الجزء السفلي من حديقتي الخاصة. صليت إلى «حدچت» -فرسة النهر أيضًا- الإلهة الحامية للنساء أثناء الوضع. لم تكن للولادة أسرار أخرى بالنسبة لي ولا بالنسبة للدايات اللائي جئن من أجلي، فكن على دراية تامة بجميع آلامها وجميع مضاعفاتها. ولكن من ناحية أخرى كانت الخادمات النوبيات الشابات مصابات بالذعر، حتى إنهن تعثرن في ترطيب الأجواء من حولي بمراوح ريش النعام الضخمة المثبتة على مقابض كبيرة تكاد تُطاولهن في القامة، وكن يحدقن في الفراغ بُغية تفادي هذا المشهد الرهيب. أجهشت إحداهن بالبكاء. لم أعد الزوجة الملكيَّة العظيمة «حتب-حرس» ذات الوجه البهيج، ولكني غدوت امرأة عارية تلهث. وضعتُ قدميَّ على حجارة الولادة التي قامت الدايات برصِّها من أجلي واتخذتُ وضع القرفصاء بينما وقفت القابلات خلفي لمساندتي. كان عليَّ أن أبقى في أقصى وضع مستقيم ممكن وكأني مُعلَّقة؛ لتسهيل عملية الوضع.

وتذكرت فجأة تلك المحظية الشابة التي قضت نحبها ليلة أمس أثناء الولادة في الحريم. إن هؤلاء الدايات هن اللواتي ساعدنها أيضًا وأسمعنَها نفس الكلام وقرأن عليها نفس العبارات السحرية، وعندما تيقنَّ أنها فارقت الحياة قمن بشق جدار بطنها لمحاولة استخراج الطفل الذي كان لا يزال على قيد الحياة. كانت مجزرة حقيقية! كان المولود ذكرًا وبدا أزرق اللون مختنقًا تمامًا. بدأت أشعر بالذعر.

لم أعد أستطيع التحكم في تنفسي أو احتواء آلامي. تملكني فجأة شعور بالخوف من أن ألحق بهذه الفتاة المسكينة ذات البشرة الذهبية والضحكة المشرقة. لن تعرفوا أبدًا -أنتم يا معشر الرجال- معاناة الولادة وأهوالها! لن يمكنكم حتى تخيلها!

لم أفهم لماذا تحكي لي أمي، عشية تتويجي، مراحل ولادتها الأخيرة، تلك التي أتت بي إلى الدنيا، بكل هذه التفاصيل الدقيقة والخادشة للحياء. كانت طريقة غريبة للغاية لتضخيم أسطورتي الشخصية! ربما أرادت أن تحذرني من وهن وهشاشة طبيعتي البشرية؛ كي لا أنسى أنني سأظل دائمًا من لحمها ودمها قبل أن أكون إلهًا أبديًّا متوجًا.

عندما أطللتَ برأسك -أكملتْ- فرشت الدايات قطعة قماش نظيفة لاستقبالك، وتجليتَ أمامنا صلب العود، شديد البكاء والصراخ، وكانت هذه إشارة جيدة. هلّت علينا عازفات وكاهنات حتحور بدفوفهن للاحتفال الطقسي بميلادك.