الشّعر العربي وجزر البحر المتوسّط: مرايا متناظرة

فرانكو باتياتو ونورى الجراح
فرانكو باتياتو ونورى الجراح

من نعيم جزيرة صقلية فى التراث العربى إلى جحيم زنزانة فى الفترة الفاشية عند شاعر ليبيّ، من جزيرة لبسوس الإغريقية التى ازدهرت فيها عدة أنواع الشعر، إلى لبسوس اليونانية، مكان سقوط اللاجئين،التى قد تتحول إلى مسقط رأسهم. نقدم قصائد تتغنى بالغربة و فنون إعادة اكتشاف التراث المتوسطي.

منذ أكثر من ألفى سنة صار البحر المتوسط ملتقى الحضارات و مسرح حروب دامية بين شعوب الضفتين الشمالية و الجنوبية. خصوصًا فى جزره الكبيرة و الصغيرة لأنها دائماً تشكل فريسة سهلة للفتوحات و الغزوات. كانت جزيرة صقلية، فى القرن التاسع ميلاديا، جزءا من العالم العربى الإسلامى. و استمر هذا  الوجود فيها لما يزيد عن قرنين، أقام المسلمون فى صقلية حضارة مثمرة، على عدة أصعدة، من الصعيد الاقتصادى و العمرانى إلى الصعيد الثقافي.

اقرأ أيضاً |طيور مهاجرة: لماذا أصبح حُلم الشباب هو الهجرة؟

لقد شهد القرن العشرين ظاهرة استعادة التراث الثقافيّ العربيّ الصقلى عن طريق الفنون والأغاني. تلك النّظرة التى لا تخلو من سخرية، اذا قارناها مع رواسب مآسى الهجرة السّرّية الى أوروبا و تجلياتها فى مخيّلة الشّعراء.فالجزر القريبة من شمال أفريقيا، والتى كانت قد انضمت إلى سيادة الفاتحين المسلمين صارت بعد عشر قرون، قبلة للجيش السلمى للمهاجرين السريين الذين يحاولون الهروب من أوضاع معيشية صعبة فى بلدانهم.

الحنين إلى صقلية

«تاريخ مسلمى صقلية» و»المكتبة الصقلية العربية» هما من أهمّ مؤلّفات ميكيلى أماري. وهو أوّل مستشرق صقليّ عاش فى القرن التاسع عشر، والذى لا يزال يعتبر حتى اليوم مرجعًا مهمًا فى الدّراسات التاريخية والأدبية حول الوجود العربى فى صقلية، فقد مهّد الطريق أمام بحوث أومبرتو ريتزيتانو، وفرانشيسكو غابرييلى وأدالجيسا دى سيموني، وفرانشيسكا كوراو على سبيل المثال وليس الحصر.  درس بعضهم دواوين شعراء صقليّة.

منذ التسعينيات من ق 20، شهدت صقلية إعادة تقييم لأهمّ شعرائها العرب: ابن حمديس (1056-1133)، وبشكل عامّ للثّقافة العربيّة فى صقلية، وذلك حتّى خارج نطاق الدّراسات العربية المحدود. لقد ألهم هؤلاء الشّعراء موسيقيين وشعراء إيطاليين، فخصّص الشّاعر الصقليّ سيباستيانو بورجاريتا قصائده باللّغة الصقلية لابن حمديس. وعندما فتح النورمانديّون صقلية غادر الشاعر الجزيرة متّجها إلى الأندلس وفى إحدى قصائده تغنى بوطنه المفقود:

ذكرت صقلية والأسى  

يهيج للنفس تذكارها

ومنزلة للتّصابى خلت  

 وكان بنو الظرف عمارها

فإن كنت أخرجت من جنّة  

فإنى أحدث أخبارها

ولولا ملوحة ماء البكاء 

حسبت دموعى أنهارها

ضحكت ابن عشرين من صبوة  

بكيت ابن ستين أوزارها

فلا تعظمنّ عليك الذنوب  

إذا كان ربك غفّارها

فرانكو باتياتو

وإعادة اكتشاف التّراث العربيّ الصقليّ

كانت أعمال ابن حمديس من بين محاور المشروع الفنيّ للموسيقار الصقلى فرانكو باتياتو (1945-2021). خلال نحو نصف قرن جمع بين أنواع عديدة، من البوب حتى التصوّف الإسلامي، فاستمدّ نصوص أغانيه من الفلسفة الروحانيّة والتراث الشرقيّ والأوروبى على حد سواء. وُصف باتياتو بأنّه « العربى الميتيل أوروبي» (mitteleuropean) متفرّد ومتعدّد المواهب، يميل إلى التّجريب والتّجديد الدّائم. وفى أواخر السبعينيات بدأ باتياتو بتعلّم اللّغة العربية الفصحى فى سياق اهتمامه بالتصوّف. وقد غنّى لاحقا بعض الأغانى باللّغة العربية.  ومنها على سبيل المثال افتتاحه حفلة شهيرة أقامها فى بغداد عام 1992 تحت عنوان «ظل النور». وغنّى فيها أيضا أغنية فلكلوريّة عراقية شهيرة هى «فوق النخل»، واشتركت فى عزفها فرقته السّمفونية و الفرقة السمفونية العراقية حينها. كان الفنّان الإيطالى الوحيد الذى تحدّى الحصار ضدّ العراق للتعبير عن تضامنه مع الشّعب العراقيّ.

فى أغنية «جاء الخريف» استعمل نصّا بالعربية والدّارجة الصّقلية. فى ألبومه الشهير «أصداء رقصة الدراويش» وأول أوبراته «تكوين» عام 1987 استلهم الموروث الصوفيّ الخاصّ بالطريقة الصوفية «الخلوتية الجراحية» التى انضمّ إليها فعلا فى حياته.

فى أوبرا «جلجامش» عام 1992 مازج بين التصوّف والميثولوجيا السومرية والبابليّة القديمة فى بلاد ما بين النهرين. كما يقول ناقد عراقي: «الفصل الثانى للأوبرا يشهد انتقالة تاريخية كبيرة، فيتصور باتياتو مجموعة من الصوفيين فى صقلية وعند الفترة التى شهدت حضوراً عربياً على أرضها، وهم يناقشون تجاربهم فى الحياة ضمن فكرة الموت والخلود والبعث، ومن عيون ذلك الموروث الروحى الصوفى جلوسه وسط المسرح على دكة خفيضة غطيت بسجادة زادت من ملامح الزهد التى حاول الانسجام معها نصاً ونغماً وأداء».

وللتّعبير عن قربه الرّوحى من شعوب الوطن العربى المجاور لصقلية، أقام باتياتو حفلات غنائيّة فى العديد من البلدان العربية. وفى متابعة لمشروعه الفنيّ الثقافى المتميّز خصّصت الفرقة الموسيقية Milagro Acustico   ثلاثة أسطوانات للشّعراء العرب فى صقلية، وخاصّة لابن حمديس.

الجحيم الصقلى فى الأدب الليبى الحديث

بعد ما يقارب عشرة قرون، فى ظل الغزو الإيطالى على ليبيا نجد ملامح مقاومة من طرف قبائلها تسجلّها قصائد كثيرة لشعراء شاركوا فى المعارك. فوصفوا الأحداث المؤلمة بسبب الغزو الاستعمارى ّ، وكرموا بقصائدهم الشّهداء فى ذلك الجهاد، منذ عام 1911. مثلما سجّلوا ما تمّ من ترحيل للعديد من اللّيبيين إلى مختلف السّجون الإيطالية، وخاصة إلى الجزر المحيطة بصقلية، إمّا لاتّهامهم بالقتال ضدّ إيطاليا أو بدعم المقاومة، ومن بين أولئك المنفيين كان الشاعر الليّبى فاضل الشلماني، وفى قصائده الغنيّة بعناصر وثائقيّة صورٌ تسجّل لحظات صعبة من سنوات سجنه فى جزيرة فافينيانا الواقعة فى شمال غربيّ صقليّة. فقد سّجل أسماء رفاقه وقبائلهم وأماكنهم، ممّا يعطى قيمة مضافة لقصائده كشهادات ثمينة من تراث الشّعر الشّفويّ اللّيبى باللّهجة المحليّة. فى إحدى قصائده يعترف الشلمانى بأنّه لا يستطيع أن ينام، فذهنه مرتبك، وقلبه يرتجف، وسلسلة حديدية تشدّ يديه، ولا يتوقّف عن البكاء. بسبب ما كان يتعرّض له من أنواع التّعذيب وألوان الإذلال الذى عانى منه الرّجال الذين كانوا ذات يوم من زعماء القبائل الأبطال فى المعارك.




صار الشاعر الشلمانى بطلًا فى رواية الكاتب اللّيبى صالح السنوسى تحت عنوان « الهروب من  جزيرة  أوستيكا» (2018) و الجدير بالذكر أنّ الكاتب يحوّل معظم أحداث روايته من جزيرة فافينيانا إلى جزيرة أوستيكا. وفى قصيدة رقيقة أخرى، يلمح الشاعر طيرًا محلقًا فوق زنزانته فيرجوه أن يبلغ رسالة الى أهله وأحبابه، وينعى عددًا من رفاقه فى المعتقل. وينهى رسالته بالتّضرّع إلى الله أن يطلق سراحه ويرجع إلى الوطن.
الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم فى روايتها الأخيرة «صندوق الرمل «(2022) اقتبست هذه القصيدة بالذات، بواسطة شخصية روائية من بنغازي. فى قصيدة أخرى يتمنّى الشلمانى أن يموت فى مكان يمكن فيه سماع الأذان. هنا ندوّن عددًا من الأبيات لقصيدة لعن فيها جزيرة فافينيانا، طالبًا من الله أن يصبّ كل ثأره عليها، وأن يمحوها من على وجه الأرض:

خرب قرارك يا دوم يا فينيانا/ بلاد الكدر والمرمدة والهانة

الله يخربها/ من حدها م المشرق لا مغربها

هدى بلاد ما تعرف الله عربها/ ولا عندهم ع المسلمين حنانة

نصرانى يدنى فياشكا يشربها/ وفى يده دفاتر والقلم فى ذانه

يطلب على حاجة عطيب سببها / وكيف ننكروه الحجر ما نجانا

علينا اللى مى صادقة يصلبها / ويخلى كبير الشان صاغر شانه

مونتك لهم كسرة تقول حجارة/ ومغيرف شريبة ما تجى مليانة

حبات مكرونة ما يطقن حارة/ ويجن قفار ما فيهن غيار دهانه.

كان واثقًا من أن الخلاص سيأتى عاجلاً أم آجلاً، وفعلا بعد سبع سنوات قضاها فى سجن فافينيانا، أعلن ملك إيطاليا عفواً عاماً.

فى هذه الحالة تكتسب القصائد وظيفة توحيد الصّفوف وتقوية الرّوابط الأخويّة بين بعض الأصدقاء الموصوفين بالكرم والشجاعة والفروسية. هناك قصائد عن الملحمة والمحنة الليبية كتبها شعراء غير ليبيين كالعراقى معروف الرصافى أو المصريّ أحمد شوقي، لكنّى اخترت قصائد الشلمانى لأنها نقلت شفويًا من جيل إلى جيل حتّى لحظة نشرها فى كتاب.

الأساطير الإغريقيّة والحاضر السّوري

خلال العقد الأخير ما زالت أوروبا،التى وصفته نزار قبانى ب» أرض الثقافات و الحضارات»، ترفض السّوريين الذين يصلون إلى شواطئها، وبسبب رفضها هى لا تنكر الآخر فحسب، بل تنكر نفسها أيضًا وماضيها. هنا تتضح الإشارةً إلى عاصمة سوريا ورمزيتها الكونية، يعتقد نورى الجرّاح وهو واحد من أهمّ أصوات الشّعر السوريّ والعربيّ، بأنّ: «هذه المدينة لا تزال تطاردنى أينما ذهبت، بتاريخها وماضيها (...) لكن دمشق ليست مدينتى فقط أو مدينة السوريين، إنها مدينتنا التى تحرمنا من العيش فى المكان الذى ولدنا فيه وتجبرها على إنكار أصولنا ولكننا ننتمى إليها حتماً».

يصف فى مرثيته «قارب إلى لسبوس» (2016) بلاده بأنها مدينة طروادة المحترقة. لسبوس هى مسقط رأس الشاعرة الإغريقية سافو، التى تنادي: «تعالوا فى عتمة لسبوس، أيها السّوريون الخارجون من لوح الأبجدية المكسور».  فى قصائد الجراح تخاطب سافو أولئك السوريين الذين قديمًا كانوا يأتون من نفس الأرض.

صار البحر الأبيض المتوسط مصدرًا للشاعر الجراح ​​لكى يرثى السّوريين الهاربين من الحرب، «بين القبور غير المرئية للغرقى، بين الكوابيس ومشاعر الذنب «. تروى قصائده الدراما السّورية بنبرة ملحمية عالية، لكنّها تشير أيضا إلى إمكانية بعث وولادة جديدين («أنتم لا تصلون بالقوارب، ولكنكم تولدون على الشواطئ مع الزبد») يساعدان على تجاوز رعب الحاضر. فى المرثيّة يستنجد الشّاعر بالأساطير الشّعرية الإغريقيّة، ويحاول تليماخوس، ابن عوليس، استعادة مصيره. إنّه يمثّل الشّباب الذين يتمرّدون على الأنظمة الأبويّة، الشّباب الذين أُجبروا على الهجرة لأنّهم لا يقبلون القواعد التى تفرضها السّلطة. لسبوس هى اللاّمكان، هى المكان غير المناسب لمسافرين منسيّين يبحثون عن النجاة منذ سنوات عديدة.

يقول الشّاعر إنه ليس ثمة أكبر تراجيديا من الموت غرقًا فى بحر بلا قرار، بينما أنت تحاول النّجاة من الموت على اليابسة، وقد أفلتّ للتوّ من يد القاتل، وإنّ مأساة أولئك الذين تركوا أحباءهم فى طروادة المحترقة، وغرقى السفن والمهاجرين إلى الأراضى الجليدية من الوحشة الأوروبية، تحولت إلى رؤية جديدة للدراما الإنسانيّة وفرصة لاسترجاع قيمة كرامة الحياة.

على سبيل الخاتمة

يرى أدونيس أنّ الشّاعر «منفى أبدًا، حتى داخل جسده ذاته. هكذا يظل الشاعر «داخل» ذاته و»خارجها». فى حديثنا عن الشعر الذى قد يمثّل «بوصلة العربى المصاب بمرض الهوية والمنفى والاغتراب الوجودى واللّغوي»، كما كتب المستعرب سيبيليو، انطلقنا  من ابن حمديس الذى، على إثر نفيه من صقلية، صار يخاف من البحر، لأنّه أخذ جاريته جوهرة، و يمقته لأنه يفصل بينه وبين وطنه. مررنا بنظرة  الشاعر الليبى الشلماني، المنسى فى إحدى الجزر المحيطة بصقلية للتوصل إلى جزيرة لسبوس التى قد تتحول فى رؤيا نورى الجراح من مكان سقوط اللاّجئين السوريين إلى مسقط رأسهم الجديد. فى عصر تسوده العولمة المتثملة بالأمركة والفبركة نصفق لمحاولات الفنانين الصقليين الرامية إلى إبراز التراث الثقافى المتوسطي.

أود أن أختتم هذا المقال ببعض أبيات محمود درويش المرتبطة بثيمة البحر للتعبير عن الضياع والمعاناة لدى الفلسطينى و الإنسان بشكل عام:

لا أحب البحر.. لا أريد البحر , لأننى لا أرى سلاحاً و لا حمامة

لا أرى فى البحر غير البحر , لا أرى سلاحاً , لا أرى يمامة ..