أربع ساعات في شاتيلا

جان جينيه مع المقاومة الفلسطينية
جان جينيه مع المقاومة الفلسطينية

هذه ترجمة نادرة، ومجهولة لنص الأديب الفرنسى الشهير جان جينيه «أربع ساعات فى شاتيلا»، الترجمة مشتركة بين المبدعتين أمينة رشيد، ورضوى عاشور ونشرت فى عام 1983 فى العدد الأول من مجلة «المواجهة» التى صدرت عن لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية.

لا أحد، لا شىء، ولا أية طريقة للسرد تستطيع أن تقول ما الذى كانته تلك الشهور الستة التى قضاها الفدائيون فى جبال جرش وعجلون بالأردن وخصوصا فى الأسابيع الأولى. رواية ما حدث، متابعته فى تسلسله، رصد إنجازات منظمة التحرير وأخطائها، ذلك ما قام به آخرون. سمة الزمان، لون السماء، الأرض والشجر، يمكن قول ذلك. ولكن أبدا لن يمكن نقل ذلك الانتشاء، والخطو على التراب، وبريق العيون وشفافية العلاقات ليس فقط فيما بين الفدائيين ولكن أيضا بينهم وبين رؤسائهم.

اقرأ أيضاً| عدنية شبلي: محو فلسطين من الخريطة مستمر حتى اليوم

كان كل شىء وكانوا كلهم تحت الشجر تسرى فيهم رعشة، ضاحكين مسحورين بتلك الحياة الجديدة عليهم جميعاً. وكان فى تلك الرعشات شىء ما يتسم بثبات غريب، متربص، متحفظ، ومحمى، كشخص يصلى دون أن يقول شيئا. كانت الأشياء كلها للكل، وكان كل فى داخله وحيداً، وربما ليس كذلك، باختصار كانوا مبتسمين مبعثرى النظرات وكانت المنطقة الأردنية التى تمركزوا فيها باختيار سياسى تمتد من الحدود السورية إلى السلط وبشكل نهر الأردن وطريق جرش أربد حدودا لها وهى مسافة يصل طولها إلى أكثر من ستين كيلو مترا وعمقها عشرين، وهى منطقة جبلية وعرة يغطيها شجر البلوط الأخضر والقرى الأردنية الصغيرة وزرع قليل.

وكان لدى الفدائيين وسط الغابات والخيام المموهة وحدات من المقاتلين وأسلحة خفيفة ونصف ثقيلة. وما إن كان الجنود الشبان ينصبون المدفعية الموجهة أساسا ضد العمليات الأردنية المحتملة حتى يتفرغوا للعناية بالأسلحة، يفكونها لتنظيفها ويزيتونها ويعيدون تركيبها بسرعة، وكان بعضهم ينجح فى فك وتركيب الأسلحة وهم معصوبو العينين حتى يتمكنوا من القيام بذلك فى الليل واستتبت بين كل جندى وسلاحه علاقة عشق وافتتان، ولما لم تكن المسافة التى تفصل الفدائيين عن مراهقتهم بالمسافة الكبيرة فقد صارت البندقية كسلاح رمزاً للرجولة الظافرة، تحمل لهم الثقة فى الوجود، تختفى العدوانية وتكشف الابتسامة عن الأسنان.

أما بالنسبة لى فإن كلمة «فلسطينيون» سواء وردت فى عنوان لمثال أو فى صلبة أو فى منشور تستحضر فى الحال الفدائيين فى مكان بالذات - الأردن - وفى فترة زمنية من السهل تحديدها: أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1970 ويناير ، فبراير، مارس، إبريل 1971 فى تلك الفترة وهناك عرفت الثورة الفلسطينية. إن الوضوح الفائق لما كان يحدث وقوة ذلك الفرح بالوجود يسميان أيضا بالجمال. ومرت عشر سنوات لم أعرف شيئا عنهم سوى أن الفدائيين صاروا فى لبنان، وكانت الصحافة الأوروبية تتحدث عن الشعب الفلسطينى باستخفاف بل وحتى بازدراء، وفجأة بيروت الغربية.

للصورة الفوتوغرافية بعدان، وكذلك لشاشة التليفزيون ولكن لا يمكن عبور هذه أو تلك.

من حائط لآخر مواجه فى الشارع، مقوسين أو منثنين، تدفع القدمان جدارا أو يستند الرأس لآخر، كانت كل الجثث السوداء المنتفخة التى كان علىَّ أن أتخطاها جثثا لفلسطينيين ولبنانيين.

وكان المرور فى صبرا وشاتيلا بالنسبة لى كما للمتبقى من السكان قد أصبح كلعبة قفز. ويمكن أحيانا أن يسد طفل ميت الشوارع فهى ضيقة للغاية تكاد تكون نحيلة والقتلى عديدون. ولاشك أن رائحتهم كانت مألوفة. للمسنين: لم تكن تزعجنى. ولكن ما أكثر الذباب. إذا رفعت المنديل أو الجريدة العربية من على أحد الرءوس ينزعج، يغضب مما أفعل ويتكاثر على ظهر يدى محاولات أن يقتات منها.

كان أول ما رأيت من الجثث جثة لرجل فى الخمسين أو الستين ولولا شق فى جمجمته «بفأس على ما يبدو» لكان له تاج من الشعر الأبيض. كان جزء من المخ على الأرض بجوار الرأس. الجسد كله يرقد فى بركة من الدم الأسود المتخثر. لم يكن الحزام مربوطا وكان البنطلون مثبتا بزر واحد. وكانت قدما وساقا الميت عارية سوداء وبنفسجية، بنفسجى باهت وداكن، ربما فاجآوه.. فى الليل أم فى الفجر؟ هل كان يحاول الهرب؟ كان راقدا فى زقاق ضيق إلى اليمين مباشرة من مدخل مخيم شاتيلا المواجه للسفارة الكويتية. فهل تمت مجزرة شاتيلا همسا أم فى سكون تام، ما دام الإسرائيليون، عساكر وضباط، يدعون أنهم لم يسمعوا شيئا ولم يشكوا فى شىء رغم أنهم كانوا يحتلون ذلك المبنى منذ ظهر الأربعاء؟

الصورة الفوتوغرافية لا تلتقط الذباب ورائحة الموت البيضاء الغليظة ولا تقول شيئا عن القفز الضرورى من جثة إلى أخرى.

يحدث شىء غريب حين يحدق المرء فى جثة ميت؛ إن غياب الحياة من الجسد تساوى غيابا تاما للجسد أو تراجعا متصلا له. وحتى إذا اقترب منه، هكذا نعتقد فلن يلمسه أبدا. هذا إذا ما تأمل المرء جثة. ولكنه إذا قام بحركة فى اتجاهه، إذا انحنى بجواره، حرك ذراعا، أصبعا فإن الميت فجأة يصبح شديد الحضور بل ويكاد يكون وديا.

العشق والموت. يرتبط هذان المصطلحان بسرعة شديدة حين يكتب أى منهما. وكان يجب أن أذهب إلى شاتيلا لكى أدرك فجور العشق وفجور الموت. فى الحالتين لا يعود لدى الأجساد ما تخفيه الأوضاع، التشنجات، الحكات، الإشارات، وحتى الصمت تنتمى إلى عالم هذا أو ذاك، كان جسد رجل بين الثلاثين والخامسة والثلاثين راقداً على بطنه وكأن الجسد كله مثانة على شكل رجل، كان قد انتفخ بفعل الشمس وكيمياء التحلل وأصبح بنطلونه مشدوداً عليه حتى كاد ينفجر من عند الردفين والفخذين. وكان الجزء الوحيد الذى استطعت رؤيته بنفسجياً وأسود. أعلى الركبة قليلاً كان الفخذ المثنى يكشف عن جرح تحت القماش الممزق. ما أصل الجرح؛ ضربة حربة أم سكين أم خنجر؟ وعلى الجرح ومن حوله ذباب. والرأس أكبر من بطيخة، بطيخة سوداء. سألت عن اسمه كان مسلما.

من هو؟

جاوبنى بالفرنسية رجل فى حدود الأربعين

فلسطينى.. أترى ما الذى فعلوه؟

جذب الغطاء الذى كان يحجب القدمين وجزءًا من الساقين وكانت سمانة الساقين عارية سوداء ومنتفخة والقدمان تنتعلان حذاء أسود غير مربوط والعرقوبان مقيدان بقوة بحبل متين كانت متانته واضحة - طوله حوالى ثلاثة أمتار. أزحته حتى تستطيع السيدة (س) - أمريكية - أن تلتقط صورة دقيقة. سألت الرجل الذى كان فى الأربعين إن كان من الممكن أن أرى الوجه؟

إن أردت، ولكن افعل ذلك بنفسك.

هل يمكن أن تساعدنى فى إدارة رأسه.

لا.

هل سحلوه عبر الشوارع بهذا الحبل؟

لا أعرف يا سيدى.

من قيده؟

لا أعرف يا سيدى.

رجال الرائد حداد؟

لا أعرف.

الإسرائيليون؟

لا أعرف.

الكتائب؟

لا أعرف.

هل كنت تعرفه؟

نعم.

من قتله؟

لا أعرف.

ثم ابتعد عن الميت وعنى بشىء من سرعة نظر إلى من بعيد ثم اختفى فى زقاق جانبى.

أى الأزقة أسلك الآن؟ كان يتجاذبنى رجال فى الخمسين وفتية فى العشرين وعجوزان عربيتان وبدا لى أننى فى مركز دورات للرياح تحمل أشعتها مئات الموتى.

أسجل هذا الآن دون أن أعرف لماذا بالضبط أذكره عند هذه النقطة من حديثى. «من عادة الفرنسيين أن يستخدموا ذلك التعبير الباهت «شغلة وسخة». إذن كما أمر الجيش الإسرائيلى الكتائب أو رجال حداد بأن ينفذوا هذه «الشغلة الوسخة» فقد أوكل حرب العمل إلى الليكود وبيجين وشارون وشامير مهمة القيام «بالشغلة الوسخة». وأنا استشهد بكلام «ر» الصحفى الفلسطينى الذى كان لايزال فى بيروت يوم الأحد التاسع عشر من سبتمبر.

لا يستطيع عقلى وأنا بين الضحايا الذين لاقوا التعذيب وبالقرب منهم أن ينفصل عن هذه «الرؤية غير المرئية»؛ الجلاد، كيف كان؟ من هو؟ أراه ولا أراه. أنه يفقأ عينى ولن يكون له أبدا سوى ذلك الشكل الذى ترسمه مناظر الموتى وأوضاعهم وحركاتهم الفجة تحت الشمس تشغل مجموعات الذباب.

إن كان رجال البحرية الأمريكيون ورجال المظلات الفرنسيون والإيطاليون الذين تشكلت منهم قوات الفصل فى لبنان قد رحلوا بتلك السرعة «هرب الإيطاليون الذى وصلوا بالبواخر بعد يومين من التأخير وطائرات هركيوليز» قبل يوم أو ستة وثلاثين ساعة من موعد رحيلهم الرسمى، كأنهم ينفدون بجلدهم عشية اغتيال بشير الجميل - فهل يخطىئ الفلسطينيون حقا حين يتساءلون إن لم يكن قد تم تنبيه الأمريكيين والفرنسيين والإيطاليين إلى ضرورة الفرار بسرعة حتى لا تبدو أن لهم أية علاقة بالانفجار فى بيت الكتائب؟

ذلك أنهم رحلوا مبكرين وعلى عجل. وتتباهى اسرائيل بنفسها وبكفاءتها وإعدادها للاشتباكات ومهارتها فى الاستفادة من الظروف بل وفى خلق هذه الظروف. لننظر إلى ما حدث؛ تغادر منظمة التحرير الفلسطينية بيروت مرفوعة الرأس على متن سفينة يونانية وحراسة بحرية ويزور بشير متخفيا بقدر ما يستطيع بيجين فى إسرائيل. وينتهى تدخل الأسلحة الثلاثة «الأمريكى والفرنسى والإيطالي»  يوم الاثنين.. يوم الثلاثاء يتم اغتيال بشير. ويدخل الجيش الإسرائيلى بيروت الغربية صباح الأربعاء.

كان الجنود الإسرائيليون يصعدون باتجاه بيروت كأنهم آتون من الميناء، صباح دفن بشير، رأيتهم بمنظار مكبر من الطابق الثامن لمنزلى قادمين فى صف، صف واحد. واندهشت أن لا شئ آخر يجرى فقد كان بالإمكان القضاء عليهم جميعا ببندقية ذات منظار. كانت وحشيتهم تسبقهم. تتبعهم الدبابات ثم سيارات الجيب.

ولما كانوا مجهدين بفعل المسيرة المبكرة الطويلة فلقد توقفوا أمام سفارة فرنسا وتركوا الدبابات تتقدمهم وهم يدخلون «الحمراء» وجلس الجنود على الرصيف تفصل كل عن الاخر عشرة أمتار وبيدهم بنادقهم المصوبة أمامهم وظهورهم مسندة على جدار مبنى بالسفارة. وبسبب ضخامة جذوعهم فقد بدوا لى كثعابين ضخمة لها ساقان ممددتان أمامها.

لقد التزمت اسرائيل أمام المبعوث الإمريكى حبيب ألا تدخل بيروت الغربية وأن تحترم على الأخص السكان المدنيين فى المخيمات الفلسطينية، ولازال عرفات محتفظا بالرسالة التى وعد فيها ريجين بنفس الشىء. ولابد أن حبيب وعد عرفات بإطلاق سراح تسعة آلاف سجين فى إسرائيل. يوم الخميس بدأت مذابح صبرا وشاتيلا.. «حمام الدم الذى أدعت اسرائيل أنها تحول دون وقوعه بفرض النظام فى المخيمات» هذا ما قاله لى كاتب لبنانى. «سيكون من السهل جداً على اسرائيل أن تتنصل من كل الاتهامات ولقد بدأ فعلا صحفيون فى كل الجرائد الأوروبية فى العمل على تبرئتها. ولن يذكر أحد أنه من الخميس ليلاً إلى الجمعة ومن الجمعة إلى السبت كان الحديث يدور باللغة العبرية فى شاتيلا» هذا ما قاله لى لبنانى آخر.

المرأة الفلسطينية - لأنه لم يكن باستطاعتى الخروج من شاتيلا دون المرور من جثة إلى أخرى فقد أوصلنى ذلك القفز الذى يشبه لعبة الأوزة إلى معجزة؛ صبرا وشاتيلا تسويان بالأرض بمعارك عقارية تهدف إلى اعادة البناء على هذه المقبرة المسطحة تماما - كانت المرأة الفلسطينية متقدمة فى السن على الأرجح لأن شعرها كان قد خطه الشيب. وكانت ممددة على ظهرها وقد وضعت أو تركت هنا على حجارة وطوب وقضبان ملتوية من الحديد، وبلا راحة.

وقد أدهشنى فى الأول أن أرى قيداً مجدولاً من الحبل والقماش يمتد من معصم إلى آخر بما يجعل الذراعين مفرودين أفقياً كأنهما مصلوبان. ويكشف الوجه الأسود المنتفخ المتوجه إلى السماء عن فم مفتوح أسود من كثرة الذباب، وأسنان بدت لى ناصعة البياض، ووجه يبدو دون أن تتحرك عضلة فيه كأنه مقطب أو مبتسم أو صارخ صرخة صامتة ومتصلة. وكان جورباها من الصوف الأسود والثوب منقوش بزهور وردية ورمادية منحسر بعض الشىء أو قصير جدا، لا أدرى، يكشف عن سمانتى الساقين سوداوين منتفختين بهما تلك البقع البنفسجية الباهتة والتى يجاوبها بنفسجى باهت وداكن على الوجنتين.

هل ضربوها بكعوب البنادق؟

انظر يا سيدى، انظر إلى يديها.

ولم أكن قد لاحظت كانت أصابع اليدين مفرودة كالمروحة، الأصابع العشرة مقطوعة كما لو أن ذلك تم بمقص بستانى، والمرجح أن جنودا قد اكتشفوا ذلك المقص واستخدموه وهم يضحكون كالأطفال ويغنون مبتهجين.

انظر يا سيدى.

كانت أطراف الأصابع والأنامل بالأظافر فى التراب. وأعاد الشاب الذى كان يرينى بشكل عادى وبلا أى مغالاة عذاب الموتى الغطاء على رأس ويدى المرأة الفلسطينية وكارتونة خشنة على ساقيها ولم يعد بإمكانى أن أمير. سوى كومة من القماش الوردى والرمادى يحلق فوقها الذباب.

كان ثلاثة شباب يقودوننى فى الزقاق

إدخل يا سيدى، سينتظرك فى الخارج.

كانت الحجرة الأولى هى كل ما تبقى من بيت من طابقين. حجرة هادئة بل ومرحبة، محاولة للسعادة وربما سعادة ناجحة صبغت من بقايا، من المتبقى من طحلب فى شق جدار متهدم، مما ظننته فى أول الأمر ثلاثة مقاعد واتضح زنها مقاعد سيارة «ربما سيارة مرسيدس مهملة»، أريكة مساندها مصنوعة من قماش منقوش بزهور صارخة اللون ورسوم منمقة، مذياع صغير صامت، شمعدانان مطفأن، حجرة هادئة حتى بساطها المصنوع من أظرف الطلقات الفارغة، رقع باب وكأن هناك تيار هوائى، تقدمت على أظرف الرصاص الفارغة ودفعت الباب الذى يفتح على الحجرة الأخرى. ولكننى اضطررت أن أفعل ذلك بقوة؛ كان كعب حذاء يحول دون فتحه بما يسمح لى بالمرور، كعب جثة راقدة على ظهرها بالقرب من جثتين أخريين منكفئتين على بطنهما وثالثتهما تستريح على بساط آخر من أظرف الطلقات النحاسية كدت أتعثر بسببها أكثر من مرة.

وفى تلك الحجرة كان يوجد باب آخر مفتوح بلا قفل ولا مزلاج. تخطيت الموتى كمن يتخطى هاوية ثم أخرى. وكان بالحجرة أربع جثث لرجال مكومين على نفس السرير الواحد فوق الآخر، كأن كلا منهم قد حرض على حماية الذى تحته، وكأنما استولت عليهم نزوة شبقة فى لحظة تحلل. كان لهذه الكومة من الأجساد رائحة نفاذة ولكن ليست كريهة وبدا لى أن الرائحة والذباب قد اعتادوا على. ولم أعد أربك شيئا من هذه الخرائب والسكون.

فى الليلة بين الخميس والجمعة ومن الجمعة إلى السبت ومن السبت إلى الأحد لم يسهر أحد بجوارهم.

فكرت

ومع ذلك شعرت أن أحداً سبقنى إلى هؤلاء الموتى بعد موتهم. وكان الشبان الثلاثة فى انتظارى وقد وقفوا بعيداً عن البيت ووضعوا منديلاً على أنوفهم. ساعتها انتأبتنى وأنا أخرج من المنزل نوبة من جنون خفيف ومباغت كادت تجعلنى ابتسم وقلت لنفسى أنه لن يتوفر أبدا ما يكفى من ألواح خشب ونجارين لصنع النعوش. ولماذا النعوش؟ كان الموتى جميعا، رجالاً ونساءً، من المسلمين، يوضعون فى الأكفان. كم من الأمتار ضرورى لدفن كل أولئك الموتى؟ وكم من الصلوات؟ وأدركت أن ما ينقص المكان هو ترتيل الصلوات.

تعالى يا سيدى، تعالى بسرعة.

حان الوقت لكى أكتب أن ذلك الجنون المباغت والعابر جدا الذى دفعنى إلى عد أمتار القماش الأبيض أعطى خطوتى حيوية تكاد تتسم بالفرح، وأن السبب فيه كان ملحوظة كنت قد سمعتها فى الليلة السابقة من صديقة فلسطينية.

كنت بنتظار مفاتيحى (أية مفاتيح، مفاتيح سيارتها، بيتها، لم أعد أذكر إلا كلمة مفاتيح، مر شيخ. يركض - إلى أين؟ - أبحث عن مساعدة، أنا حفار القبور، لقد قصفوا المقبرة، كل عظام الموتى فى العراء، ينبغى مساعدتى فى لم العظام.

قالت أيضا هذه الصديقة التى أعتقد أنها مسيحية: «عندما تسببت القنبلة الفراغية فى قتل مائتين وخمسين شخصا لم نكن نملك سوى صندوق واحد. فحفر الرجال حفرة مشتركة فى مقبرة الكنيسة الأرثوذوكسية، وكنا نملأ الصندوق ونذهب لتفريغه؛ كنا نروح ونجيء تحت القصف ونحن نخرج الجثث والأعضاء بقدر ما نستطيع».

منذ ثلاثة شهور صار للأيدى وظيفتان: فى النهار تمسك وتلتقط وفى الليل ترى؛ ولقد فرض انقطاع الكهرباء هذا النوع من تربية المكفوفين كما فرض تسلق مرتقى المرمر الأبيض لطوابق البيت الثمانية مرتين أو ثلاث يومياً، وكان علينا أن نملأ بالماء كل ما فى البيت من أوعية، وانقطع الإتصال التليفونى عندما دخل الجنود الإسرائيليون بيروت الغربية ومعهم الكتابات العبرية. كذلك قطعت الطرق المحيطة ببيروت.

وكانت دبابات «مركبة» فى حالة تحرك دائم بما يشير أنها تراقب المدينة كلها وفى نفس الوقت كان من الممكن تخمين ما يشعر به طواقمها الجنود خوفاً من أن تصبح دباباتهم هدفاً ثابتاً . ومن المؤكد أنهم كانوا يخشون نشاط المرابطين والفدائيين الذين ربما ظلوا فى بيروت الغربية.

وفى اليوم التالى لدخول الجيش الإسرائيلى أصبحنا سجناء. ومع ذلك فقد بدا لى أن الناس تحتقر الغزاة أكثر مما ترهبهم، وأنهم كانوا يثيرون فى نفوسهم الاحتقار أكثر من الذعر. ولم يكن أى جندى يضحك أو يبتسم. ومن المؤكد أن ذلك لم يكن وقتاً لنثر الأرز والزهور.

ومنذ قطعت الطريق وصمت التليفون وحرمت من كل اتصال مع باقى العالم شعرت ولأول مرة فى حياتى أننى أصبحت فلسطينياً أكره إسرائيل.

وفى المدينة الرياضية ذلك الملعب الذى دمر تماما بفعل القصف الجوى والذى يقع بالقرب من طريق بيروت - دمشق قام اللبنانيون بتسليم أكوام من السلاح إلى الضباط الإسرائيليين، خربت عن قصد.

لكل فى الشقة التى أقيم فيها مذياعة. كنا نستمع إلى إذاعة الكتائب وإذاعة المرابطين وإذاعة عمان وإذاعة أورشليم - القدس (باللغة الفرنسية) وإذاعة لبنان. ولابد أن نفس الشىء كان يحدث فى كل شقة.

«نحن موصولون بإسرائيل عبر قنوات تحمل لنا القنابل والدبابات والجنود والفواكه والخضراوات، وهم يأخذون إلى فلسطين جنودنا وأطفالنا، حركة ذهاب وإياب متصلة لن تتوقف تربطنا بهم، هكذا يقولون، منذ أيام إبراهيم، تربطنا بذريته، بلغته وبالأصل المشترك..» (فدائى فلسطينى) ويضيف «باختصار أنهم يغزوننا ويخنقوننا ويريدون احتضاننا ويقولون أنهم أولاد عمنا وهم محزونين جدا أن يروا أننا ندير ظهرنا لهم. لابد أنهم غاضبون جدا منا ومن أنفسهم».

إن تأكيد أن للثوار جمالا خاصا بهم أمر لا يخلو من الصعوبات. نعرف أو نفترض أن الصبية أو الفتية المراهقين الذين نشأوا فى أوساط عتيقة ومتشددة يتسمون بجمال فى الوجه والجسد والحركات والنظرات قريب من جمال الفدائيين. ولعل تفسير ذلك هو التالى: حرية جديدة تحطم الأنظمة البالية وهى تشق طريقها عبر الجلود الميتة ويصعب على الآباء والأجداد إطفاء بريق العيون، وتوهج الصدوغ، ومرح الدم فى العروق.

فى القواعد الفلسطينية فى ربيع عام 1971 كان الجمال قد انتشر فى غاية تملؤها حرية الفدائيين حركة وحياة. أما الجمال فى المخيمات فلقد كان مختلفاً بعض الشىء. مكتوماً أكثر قليلاً، تضفيه هيمنة النساء والأطفال على المكان. وكانت المخيمات تستقبل نوعاً من الضوء الآتى من قواعد القتال أما النساء فقد كان تأثير تألقهن بحاجة إلى نقاش طويل ومعقد. وكان يبدو أن للنساء الفلسطينيات قوة تمكنهن، أكثر من الرجال ومن الفدائيين فى القتال، من تحمل المقاومة وتقبل ما تأتى به الثورة من جديد. كن قد عصيين التقاليد؛ نظرة مباشرة تتحمل نظرة الرجال، رفض للحجاب شر بعضه ظاهر وأحيانا مكشوف تماما، صوت بلا شرخ وكانت أكثر خطواتهن صغرا وعادية جزءا من حركة واثقة تماما نحو نظام جديد، لم يعرفنه من قبل بالتالى ولكنهن يستشعرن ما يحمله لهن من حرية كالاستحمام وما يحمله للرجال من عزة مضيئة. وكن مستعدات أن يصحبن فى ذات الوقت، زوجات الأبطال وأمهاتهن تماما كما كن زوجات وأمهات للرجال.

هنا فى خرائب شاتيلا لم يعد هناك شىء. بعض عجائز صامتات أغلقن على أنفسهن بابا ثبتن عليه خرقة بيضاء. فتية فدائيون سألتقى بالبعض منهم فى دمشق.

إن اختيار المرء لجماعة مفضلة ينتمى إليها وإن لم يولد فيها «بينما الانتساب لشعب هو انتساب بالولادة دائما» إنما هو اختيار يرجع إلى انحياز غير معقلن. وذلك لا يعنى أن العدالة لا تلعب دوراً فى الأمر. ولكن مرجع هذه العدالة وكل الدفاع من تلك الجماعة إنما هو انجذاب عاطفى بل وربما حتى حسى وشهوانى، أننى فرنسى ولكننى أدافع عن الفلسطينيين بشكل كامل وبلا توقف للحكم. وما دمت أحبهم فإن الحق معهم ولكن هل كنت أحبهم لو لمن يجعل الظلم منهم شعباً مشرداً؟

لقد أصيبت كل عمارات بيروت تقريباً التى تسمى إلى الآن بيروت الغربية، هبطت بأشكال مختلفة كأنها قطعة من الحلوى متعددة الرقائق مضغوطة بين يدى غوريللا عملاقة لامبالية ومفترسة. وفى أحيان أخرى كانت الطوابق الثلاثة أو الأربعة الأخيرة تنحنى بلطف كثنيات أنيقة، كسرات لبنانية مميزة للعمارة. ولو رأيت وجهه لم تصب فدر حول المبنى تجد الواجهات الأخرى قد هوت. ولو أن الواجهات الأربع ظلت بلا شقوق فذلك لأن القذيفة التى ألقت بها الطائرة سقطت فى الوسط وأحدثت بئرا فيما كان مهبط الدرج والمصعد.

وفى بيروت الغربية، بعد وصول الإسرائيليين قال لى س : «كان الليل قد هبط لعلها كانت السابعة مساء. وفجأة دوى لحدائد، حدائد. نركض جميعاً، أختى وزوج أختى وأنا، إلى الشرفة ليل شديد الظلام. ومن حين لآخر شىء كالبرق أقرب من مائة متر. وكما تعرف يقع فى مواجهتنا مركز إسرائيلى. أربع دبابات. بيت يحتله جنود وضباط وحراس الليل، ودوى الحدائد الذى يقترب البرق؛ بعض المشاعل المضيئة. وأربعون أو خمسون صبياً فى حدود الثانية عشرة أو الثالثة عشرة يدقون بانتظام على صفائح صغيرة بحجارة، بمطارق ، أو بأى شىء آخر. كانوا يصرخون بإيقاع عال جدا: «لا إله إلا الله، لا كتائب ولا يهود».

وقال لى «ه» - عندما أتيت إلى بيروت ودمشق عام 1928 كانت دمشق مدمرة. كان الجنرال جورو وجيوشه من القناصة المغاربة والتوانسة قد هجموا على دمشق ونظفوها فمن أتهم السكان السوريون؟

أنا - أتهم السوريون فرنسا بالمذابح وتدمير دمشق.

ونحن نتهم اسرائيل بمذابح شاتيلا وصبرا، دعنا لا نحمل مساعديهم - الكتائيبيين وحدهم مسئولية هذه الجرائم.

أننا ندين إسرائيل لأنها أدخلت فرقتين من الكتائب إلى المخيمات، وأعطتهم أوامر وشجعتهم على مدى ثلاثة أيام وثلاث ليال وزودتهم بالأكل والشرب وأضاءت لهم المخيمات فى الليل.

مرة أخرى ه . مدرس التاريخ، يقول لى: فى سنة 1917 أعيدت قصة إبراهيم أو لو أردت فإن الله كان قد سبق وجسد لورد بلفور. كان الله كما قال اليهود ويقولون إلى الآن، قد وعد إبراهيم وذريته من بعده بأرض من عسل ولبن ولكن هذه الأرض لم تكن ملك إله اليهود «كانت هذه الأراضى مليئة بالآلهة» بل كان يسكنها الكنعانيون الذين كان لهمهم أيضا آلهتهم والذين  حاربوا جيوش يسوع حتى سرقوا منها تابوت العهد الذى بدونه لم يكن لينتصر اليهود. وحتى 1917 لم تكن انجلترا تمتلك فلسطين «أرض العسل واللبن هذه» إذ أن المعاهدة التى أعطتها حق الانتداب لم تكن قد وقعت بعد.

يدعى بيجين أنه أتى إلى البلد....

- أنه عنوان فيلم «غياب طويل جدا» هذا البولندى هل تراه فى ثوب وريث الملك سليمان؟

فى المخيمات بعد عشرين عاما من المنفى كان اللاجئون يحلمون بفلسطينهم، ولم يكن أحد منهم ليجرؤ على إدراك أو قول أن إسرائيل كانت قد دمرتها وأن البنك قد حل محل حقل الشعير والسنترال الكهربائى مكان الكرمة الزاحفة.

هل تغير سياج الحقل؟

لابد من إصلاح جزء من الحائط المجاور لشجرة التين.

لابد أن أوانى الطعام النحاسية قد علاها الصدأ، يجب شراء سلك تنظيف.

لم لا ندخل الكهرباء أيضا إلى الاسطبل؟

آه لا، الثياب المطرزة هذا أمر قد انتهى، ستعطينى آلة حياكة وآلة تطريز.

كان المسنون من سكان المخيمات بؤساء، وربما كانوا كذلك أيضا فى فلسطين. ولكن للحنين أثره السحرى وهو يكاد يتهددهم أن يبقوا أسرى لذلك السحر التعيس فى المخيمات، ومن غير المؤكد أن هذا الجزء من الفلسطينيين سيترك المخيمات آسفاً، ومن هنا فإن الفاقة مشدودة للماضى والإنسان الذى عرفها وعرف المرارة المصاحبة يكون أيضاً قد عرف فرحاً بالغاً ومنفرداً غير قابل للتوصيل، إن مخيمات الأردن المعلقة على السفوح الحجرية تقف عارية وسط عرى أكثر إقفارا؛ أكواخ خشبية وخيام مثقوبة تسكنها أسر كبرياؤها مضىء، أنه الجهل تام بقلب الإنسان أن ننكر على البشر قدرتهم على الارتباط والاعتزاز بتعاسات ظاهرة وهو الاعتزاز الذى يصبح ممكنا لأن البؤس الظاهر يقابله مجد مستتر.

كانت عزلة الموتى فى مخيم شاتيلا محسوسة أكثر بسبب تلك الحركات والأوضاع التى لم يعتنوا بها. موتى بأى شكل موتى مهجورين. بينما كانت تسبح فى المخيم من حولنا كل مشاعر المودة والحنان والحب باحثة عن فلسطينيين لن - يجيبوا عليها أبدا.

- كيف يبلغ الخبر لأهلهم الذين رحلوا مع عرفات بعد أن صدقوا وعود ريجين وميتران وبرتينى الذين أكدوا لهم أن لا أحد سيلمس السكان المدنيين فى المخيمات؟ كيف يقال أنهم قد تركوا الأطفال والشيوخ والنساء يذبحون وأن جثتهم قد تركت دون أن يصلى أحد عليها؟ كيف يمكن إخبارهم بأن لا أحد يعرف أين دفنوا؟

لم تحدث المذابح فى الصمت وفى الظلام فمنذ ليلة الخميس والآذان الإسرائيلية تصغى إلى شاتيلا فى الوقت الذى كانت تبدد ظلمتها القذائف المضيئة. أى أعياد وأية مآدب أقيمت هنا حيث بدا الموت مشاركا فى مباهج الجنود المخمورين بفعل النبيذ، والمخمورين بفعل الكراهية، والمخمورين بلاشك، بفعل الفرح بأن يحوزوا على إعجاب الجيش الإسرائيلى الذى كان يستمتع ويرقب ويشجع ويوبخ.... ولم أر هذا الجيش الإسرائيلى ينصت ويراقب ولكننى رأيت ما فعل.

اجابة على الدعوى القائلة: «ما الذى كسبته إسرائيل بإغتيال بشير؟ بدخول بيروت وإعادة النظام وتجنب حمامات الدم».

ما الذى كسبته إسرائيل بذبح شاتيلا؟

الإجابة: ما الذى كسبته بدخول لبنان؟ ما الذى كسبته بقصف السكان المدنيين طوال شهرين، طرد وتدمير الفلسطينيين.

ما الذى أرادت كسبه فى شاتيلا: تدمير الفلسطينيين.

انها تقتل رجالاً، أنها تقتل أمواتاً، أنها تمشط شاتيلا. لم تكن غائبة عن المضاربة على العقار فى الأرض المهيأة. المتر المربع المدمر بخمسة ملايين من العملة القديمة أما «نظيفاً» فيكون....

أكتب هذا فى بيروت حيث كل شىء أكثر صدقاً مما هو فى فرنسا ربما بسبب قرب الموت الذى يكسو الأرض، ويبدو أن كل شىء يحدث كما لو كانت إسرائيل قد قررت أن تترك الآخرين يحكمون عليها بهدوء وقد أتبعها وأرهقها أن تكون نموذجاً وألا تمس وأن تستمر فى استغلال ما تظن أنها أصبحته؛ إسرائيل القديسة فى محاكم التفتيش والآخذة بالثأر تترك للآخرين الحكم الهادئ عليها.

ثم ها هى، بفضل تحول عارف وإن كان متوقعاً، كما كانت تعد نفسها منذ زمن؛ سلطة دنيوية كريهة واستعمارية بشكل لم يعد يجرؤ أحد عليه وقد تحولت إلى الدليل النهائى الذين تدين به للعنتها الطويلة ولمكانتها المختارة.

ويبق العديد من الأسئلة:

إذا كان الإسرائيليون لم يفعلوا سوى إضاءة المخيم والاستماع له والإنصات إلى طلقات الرصاص التى سرت بعد ذلك على أظرفه الفارغة «عشرات الآلاف»، فمن كان يطلق النار حقا؟ من كان يخاطر بحياته وهو يقتل؟ الكتائبيون؟ الحداديون؟ من؟ وكم؟

أين ذهبت الأسلحة التى جعلت من كل أولئك موتى؟ وأين أسلحة كل الذين دافعوا عن أنفسهم. فى الجزء الذى زرته من المخيم لم أر سوى سلاحين من النوع المضاد للدبابات، وكانا غير مستعملين.

كيف دخل القتلة إلى المخيمات؟ هل كان الإسرائيليون موجودين على كل مداخل شاتيلا؟ على أية حال كانوا قد وصلوا يوم الخميس إلى مستشفى عكا فى مواجهة إحدى مداخل المخيم.

كتبت الجرائد أن الإسرائيليين دخلوا مخيم شاتيلا ما إن عرفوا بالمجازر وأنهم أوقفوها فى الحال، إذن يوم السبت.

ولكن ما الذى فعلوه فى القتلة الذين ذهبوا أين؟

بعد اغتيال بشير الجميل وعشرين من رفاقه، بعد المجازر، جاءت السيدة «ب»  من البورجوازية البيروتية الكبيرة لزيارتى عندما علمت أننى عائد من شاتيلا. صعدت - لا كهرباء الطوابق الثمانية للعمارة أظنها مسنة، أنيقة ولكن مسنة.

قبل موت بشير، قبل المجازر، كنت على حق حين قلت لى أن الأسوأ قادم. رأيت ذلك.

لا يقل لى ما رأيته فى شاتيلا، أرجوك. إن أعصابى لا تحتمل. على أن أصونها حتى احتمل الأسوأ الذى لم يحدث بعد.

أنها تقيم وحدها مع زوجها (سبعين عاماً) وخادمتها فى شقة كبيرة برأس بيروت. وهى أنيقة جدا معتنية بنفسها للغاية. وأثاث بيتها من طراز قديم، على ما أعتقد، لويس السادس عشر.

كنا نعرف أن بشير ذهب إلى إسرائيل، لقد أخطأ. يجب ألا يعاشر أمثال هؤلاء. كنت واثقة أنه سياصب بسوء. ولكنى لا أريد أن أعرف شيئا. على أن أصون أعصابى لأتحمل الضربات الفظيعة التى لم تأت بعد. كان على بشير أن يعيد ذلك الخطاب الذى أسماه فيه السيد، بيجين بصديقه العزيز.

إن للبورجوازية بخدمها الخرس طريقتها الخاصة فى المقاومة. السيدة «ب» وزوجها يقولان أنهما لا يعتقدان تماما فى التناسخ. ما الذى يحدث أن ولدا ثانية على شكل إسرائيليين؟

كان يوم دفن بشير هو أيضا اليوم الذى دخل فيه الجيش الإسرائيلى بيروت الغربية. راحت الانفجارات تقترب من المبنى الذى كنا فيه. وأخيرا نزل الجميع إلى المخبأ. سفراء، أطباء، زوجاتهم، البنات، ممثل للأمم المتحدة فى لبنان، خدمهم.

كارلوس، احضر لى مسند.

كارلوس، نظارتى.

كارلوس، قليل من الماء.

إن الخدم، إذ أنهم هم أيضا يتحدثون الفرنسية، مسموح لهم باستخدام المخبأ، وربما ينبغى كذلك حمايتهم، جروحهم، نقلهم إلى المستشفى أو إلى المقبرة، ياللعبء!

لابد من معرفة أن المخيمات الفلسطينية فى صبرا وشاتيلا هى كيلومترات وكيلومترات من الأزقة الضيقة - رفيعة وضامرة أحيانا لدرجة أن شخصين لا يمكنهما السير معا إلا لو مشى أحدهما بالجنب.

أزقة تتكدس فيها الأنقاص والحجارة والطوب والأثمال متعددة الألوان والقذرة. وفى الليل تحت ضوء القذائف الإسرائيلية التى تبدد الظلام فى المخيمات لم يكن باستطاعة خمسة عشرة أو عشرين من الرماة وإن كانواو مسلحين ان ينجحوا فى تنفيذ تلك المجزرة.

قام القتلة بالعملية، العديد منهم، والأرجح أن فرق تعذيب كانت تشج جماجم، تشطر أفخاذا، تقطع أذرعا وأيادى وأصابع، تسجل بحبل معاقين فى النزع الأخير، رجالاً ونساءً مازالوا أحياء فالدم قد ظل ينزف من الأجساد طويلا حتى إننى لم أتمكن من معرفة من الذى ترك ذلك المجرى من الدماء الذى جف فى ردهة ذاك البيت من أقصى الردهة حيث بركة الدم إلى مدخل البيت حيث يضيع فى التراب. أكان فلسطينياً؟ امرأة؟ كتائبياً أفرغ جسده؟

من باريس وخصوصا مع الجهل بخارطة المخيمات يمكن حقيقة أن يشك المرء فى كل شىء.

بالإمكان ترك إسرائيل تؤكد أن صحفيى القدس كانوا أول من أعلن عن المجزرة. فى الإذاعات الموجهة إلى البلاد العربية، وباللغة العربية، كيف قالوا ذلك؟ وباللغتين الإنجليزية والفرنسية، كيف؟ ومتى تحديدا؟ ويفكر المرء فى الاحتياطات التى تتخذ فى الغرب حين يعرف أن الوفاة مثيرة للشك، البصمات، أثر الطلقات، التشريح مقابلة التقارير! وفى بيروت ما إن عرف بأمر المجزرة حتى دخل الجيش اللبنانى المخيمات رسميا وفى الحال أزيلت أنقاض البيوت وأشلاء الجثث، من الذى أمر هذا التسرع؟ ذلك رغم الخبر المؤكد الذى انتشر فى العالم؛ اقتتل المسيحيون والمسلمون، وبعد أن سجلت آلات التصوير وحشية الاقتتال.

إن مستشفى عكا الذى كان يحتله الإسرائيليون لا يبعد مائتى متر عن المخيم بل أربعين فقط. لم يروا شيئا، لم يسمعوا شيئا، لم يفهموا شيئا.

لأن ذلك بالضبط هو ما أعلنه بيجين فى الكنيسيت: «قام غير اليهود بذبح من ليسوا بيهود، فما شأننا بالأمر؟»

بعد التوقف لحظة يتعين الآن على أن أتمم وصفى لشاتيلا، ها هم آخر من رأيت من القتلى، يوم الأحد، فى حوالى الثانية بعد الظهر عندما دخل الصليب الأحمر الدولى ببولدوزراته، ولم تكن رائحة الجثث تنبعث من بيت أو من ضحية بل كأنها تخرج من جسدى، من كيانى. فى شارع ضيق، عند جدار مدبب ظننت أننى أرى ملاكماً أسودًا جالساً على الأرض ضاحكاً مندهشاً لسقوطه. لم توات الجرأة أحدا على إغلاق جفنيه. عيناه الجاحظة من فخار شديد البياض تحدث فىّ. باد لى مخذولا وذراعه مرفوعة وجسده يستند إلى تلك الزاوية من الجدار. كان فلسطينياً مات قبل يومين أو ثلاثة. وإن كان قد بدا لى أول الأمر أنه ملاكم زنجى فذلك لأن رأسه كان ضخماً منتخفاً وأسود ككل الرءوس وكل الأجساد سواء كانت فى الشمس أم فى ظل البيوت، مررت بالقرب من قدميه. التقطت من التراب طقم أسنان للفك العلوي، وضعته على المتبقى من خافة النافذة. تجديف يده الممدودة نحو السماء، فمه المفتوح، فتحة بنطلونه الذى ينقصه الحزام؛ كلها محطات يتغذى منها الذباب.

تخطيت جثة أخرى، ثم أخرى. فى هذه المساحة من التراب بين القتيلين، وجدت أخيراً شيئا حيا جدا لم يمس فى عملية الذبح له لون وردى شفاف، وبالإمكان استخدامه ساق صناعية من البلاستيك على ما يبدو بقدمها حذاء أسود وجوارب رمادى. كان من الواضح أنها نزعت بقسوة من الساق التى استؤصلت منها لأن الأحزمة الجلدية التى تربطها بالساق عادة كانت كلها ممزقة.

كانت هذه الساق الصناعية للميت الثانى الذى لم أر منه سوى ساق وقدم بها حذاء أسود وجورب رمادى.

فى الشارع المتقاطع مع ذلك الآخر الذى تركت فيه الأموات الثلاثة رأيت ميتاً آخر، لم يكن يسد الطريق بشكل كامل. ولكنه كان راقدا فى مدخل الشارع حتى إننى اضطررت إلى تجاوزه لكى أعود وأرى المشهد: كانت امرأة فى ثوب عربى تجلس على مقعد وتبكى، يحيط بها نساء ورجال فى مقتبل العمر. وبدت لى المرأة فى السادسة عشرة أو الستين. كانت تبكى أخاها الذى كان جسده يسد الشارع تقريبا، اقتربت منها. دققت النظر. كانت قد عقدت منديل رأس حول رقبتها، وكانت تندب موت أخيها الذى بجانبها. كان وجهها ورديا فى لون وجوه الأطفال، لون واحد ناعم حنون ولكن بلا رموش أو حواجب. لم يكن ما ظننته ورديا هو البشرة بل ما تحتها يحيط به بعض الجلد الرمادى. كان الوجه كله محروقا لم أستطع معرفة ما الذى حرقه، ولكننى فهمت.

عندما رأيت أوائل الموتى بذلت جهدا لعدهم ولكننى حين بلغت الثانى عشر أو الخامس عشر لم أستطع المواصلة وكنت محاطا بالرائحة والشمس، أتعثر فى كل كومة من الأنقاض، وكان كل شىء قد اختلط.

بيوت أخرجت احشاؤها وتناثرت منها الألحفة. مبان تهدمت، رأيت الكثير منها دون أن أبالي، ولكننى وأنا أنظر إلى بيوت الغربية، بيوت شاتيلا كنت أرى الهول. وبالرغم من أننى أشعر بشكل عام أن الموتى يصبحون بسرعة أليفين بل وحتى ودودين إلا أننى لم أميز فى المخيمات سوى كراهية وفرح أولئك الذين قتلوهم. احتفال همجى أقيم هناك؛ هياج وسكر ورقصات وأغان وسب وشكوى وأنين لتكريم المراقبين للمشهد من الطابق الأخير بمستشفى عكا.

قبل حرب الجزائر، فى فرنسا، لم يكن العرب يتسمون بالجمال فهيأتهم ثقيلة وخطواتهم متباطئة ووجوهم معوجة. وفجأة حلاهم النصر. ولكن قبل أن يتحول ذلك النصر إلى شىء مبهر، عندما كان أكثر من نصف مليون جندى فرنسى لقون حتفهم وينتهون فى الأوراس وفى الجزائر كلها كان بالإمكان ملاحظة تلك الظاهرة الغريبة التى تعتمل على وجه العمال العرب وبأجسادهم؛ شىء كجمال  يقترب، كحدس بجمال هش لايزال ولكنه سوف يخطف الأبصار عندما تسقط القشور من جلودهم وأعيننا. وكان لابد من قبول ذلك الأمر الجلى: كانوا قد تحرروا سياسياً لكى يظهروا بالشكل الذى ينبغى علينا أن نراهم به، غاية فى الجمال. وكذلك أيضا كان الفدائيون الهاربون من مخيمات اللاجئين، الهاربون من قانون المخيمات ونظامها، من قانون فرضته ضرورة البقاء، ولما كان هذا الجمال جديدا، أى وليدا، أى بريئا فلقد كان نضرا وحيا إلى حد اكتشافه الفورى لذلك الذى يربط بينه وبين كل جمال فى هذا العالم يتنزع نفسه من العار.

كان العديد من القوادين الجزائريين الذين يعبرون ليل بيجال يستخدمون مواهبهم لخدمة الثورة الجزائرية، كانت الفضيلة هنا أيضا. أعتقد أنها حنا آرند التى تميز بين الثورات تبعا لتصوراتها عن الحرية أو الفضيلة - وبالتالى العمل. ربما كان علينا أن نعترف أن الثورات أو حركات التحرير تضع - بشكل غامض - كهدف لها أن تجد أو تسترجع الجمال أى ذلك الذى لا يلمس ولا يسمى إلا بهذه الكلمة أو لعل الأمر ليس كذلك؛ قد نقصد بالجمال صفاقة ضاحكة يزدريها بؤس الماضى والأنظمة والرجال المسئولين عن البؤس والعار ولكنها صفاقة ضاحكة تدرك أن الانفجار خروج على العار أمر ميسور.

ولكن كان من الضرورى على هذه الصفحة أن نطرح هذا السؤال فى الأساس» هل تظل الثورة هى الثورة حين لا يسقط عن الوجوه والأجساد ذلك الجلد المترهل الميت؟ أننى لا أتحدث عن جمال أكاديمى ولكن عن ذلك الفرح غير الملموس ولا المسمى - فرح الأجساد، الوجوه، الصرخات، العبارات التى تكف عن كآبتها، أعنى فرحة حسية قوية إلى حد الرغبة فى طرد أية شهوانية.

ها أنا من جديد فى عجلون فى الأردن ثم فى اربد. أمسك بما أعتقد أن شعرة بيضاء من شعرى سقطت على ردائى وأضعها على إحدى ركبتى حمزة. فيمسك بها بين الأبهام والوسطى وينظر إليها ويبتسم ويضعها فى جيب قميصه الأسود وهو يضغط يده عليها قائلا:

ان شعرة من لحية الرسول لا تساوى أكثر من هذه.

ويأخذ نفساً عميقاً ويواصل.

شعرة من لحية الرسول لا تساوى أكثر من هذه.

لم يكن قد تجاوز الثانية والعشرين. يتقافز فكره بحرية متجاوزا بمراحل من فى الأربعين من عمرهم من الفلسطينيين. ولكنه كان يحمل تلك العلامات - يحملها على جسده وفى حركاته - التى تربطه بالقدماء.

قديما كان المزارعون يتمخطون فى أصابعهم وتدفع طرقعة من اليد بالمخاط إلى الشوك ثم يمرون بأكمامهم المصنوعة من قماش مضلع والتى تصبح بعد شهر مغطاة بلون صدفى. كذلك الفدائيون، كانوا يتمخطون كنبلاء ويستنشقون كأساقفة. منحنين بعض الشىء فعلت مثلهم وكمنا علمونى دون أن بدرون.

والنساء؟ يطرزن ليل نهار الأثواب السبعة «واحد فى كل يوم من أيام الأسبوع» لجهاز العروس الذى يهديه زوج مسن عادة اختارته العائلة. يقظة محزنة كنت الفتيات الفلسطينيات يصبحن فى غاية الجمال حين كن يتمردن على الأب ويكسرن إبر التطريز والمقصات. لقد وجدت على جبال عجلون والسلط وإربد وفى الغابات نفسها حسية أطلقها التمرد والبنادق. لا ننسى البنادق، كان هذا يكفى، وكان كل مكتف.

كان الفدائيون يعدون دون أن يدروا - أحقا - جمالاً جديداً : حيوية الحركات وتعبهم الواضح، سرعة العين وألقها، زنة الصوت الأكثر وضوحاً تضاف إلى سرعة الرد واقتضابه وتحديده أيضا. أما الجمال الطويلة والبلاغة العارفة والثرثارة فكانوا قد قتلوها.

فى شاتيلا مات كثيرون وكانت صداقتى ومحبتى لجثثهم المتحللة كبيرة أيضا لأننى كنت قد عرفتهم. كانوا مسودين منتفخين متعفنين فى الشمس والموت وظلوا فدائيين.

فى حوالى الساعة الثانية بعد ظهر الأحد قادنى ثلاثة جنود من الجيش اللبنانى مصوبين سلاحهم وأخذونى إلى سيارة «جيب» بها ضابط يغفو سألته:

هل تتحدث الفرنسية؟

الإنجليزية.

كان الصوت خشنا ربما لأننى أيقظته فجأة. نظر إلى جواز سفرى قال بالفرنسية:

هل قدمت من هناك؟ (وأصبعه يشير باتجاه شاتيلا).

نعم.

ورأيت؟

نعم

ستكتب؟

نعم

أعاد لى الجواز وأشار لى بالذهاب، انخفضت البنادق الثلاث. كنت قد قضيت أربع ساعات فى شاتيلا، وبقى فى ذاكرتى أربعون جثة تقريبا - كلهم - أؤكد كلهم - لاقوا التعذيب. على الأرجح وسط السكر والأغانى والضحكات ورائحة البارود والجثث التى كانت رائحتها قد بدأت تفوح.

كنت وحدى بلاشك، أعنى الأوروبى الوحيد «مع بعض العجائز الفلسطينيات اللاتى بقين متشبثات بخرقة بيضاء ممزقة، ومع بعض الفدائيين الشبان بلا سلاح» ولو أن هؤلاء الأشخاص الخمسة أو الستة لم يكونوا هناك وأنا اكتشف تلك المدينة المهدمة والفلسطينيين الأفقيين سودا ومنتفخين لكنت قد فقدت عقلي. أم هل فقدته؟ المدينة التى رأيتها أو ظننت أننى رأيتها فتاتا على الأرض تركض فيها وترفعها وتحملها رائحة الموت الطاغية، هل حدث ذلك كله؟

ولم أكن قد استكشفت وبشكل ردئ سوى واحد على عشرين من شاتيلا وصبرا ولم أكن قد رأيت شيئا من بئر حسن وبرج البراجنة.

ليست ميولى هى المسئولة عن أننى عشت المرحلة الأردنية كما لو كانت حلما.. فلقد حدثنى أوربيون وعرب من شمال إفريقيا عن السحر الذى تملكهم هناك، وعرفت وأنا أعيش هذه الاندفاعة الطويلة التى دامت لستة أشهر والتى كاد لا يشوبها ليل إلا لاثنتى عشرة أو ثلاث عشر ساعة، أتدل أننى عرفت خفة الحدث والنوعية الاستثنائية للفدائيين ولكننى كنت استشعر هشاشة البنيان. كانت قد انشئت نقاط للمراقبة فى كل أماكن تجمع الجيش الفلسطينى قرب نهر الأردن وكان الفدائيون بهذه النقاط واثقين تماما فى حقوقهم وسلطتهم حتى أن وصول زائر بالليل أو بالنهار كان مناسبة لإعداد الشاى وتبادل الحديث والقهقهة والقبلات الأخوية (من كانوا يقبلون كان راحلا تلك الليلة ليعبر نهر الأردن ويضع قنابل فى فلسطين وفى الغالب لم يكن يعود) وكانت جزر الصمت الوحيدة هى القرى الأردنية: كانوا يصمتون فيها. وبدا وكأن جميع الفدائيين يرتفعون عن الأرض قليلا بفعل كأس نبيذ خفيف أو جرعة حشيش، فما السبب؟ الشباب غير العابئ بالموت والذى بحوزته أسلحة تشيكية وصينية ليضرب بها فى الهواء، ولم يكن الفدائيون وهم فى حماية أسلحة تضرب هكذا عاليا يخافون شيئا.

ولو أن قارئا ما رأى خارطة لفلسطين وللأردن فلابد أنه سيعرفه أن الأرض ليست كورقة. فالأرض على ضفاف الأردن جبلية، كان ينبغى أن تحمل هذه الرحلة كلها كعنوان ثانوى «حلم ليلة صيف» رغم سوء تصرف المسئولين الذين فى الأربعين من عمرهم، كان كل ذلك ممكنا بسبب الشباب، بسبب متعة الوجود تحت الشجر، واللعب بأسلحة، والبعد عن النساء والذى يعنى تجنب مشكلة صعبة ولأن بإمكن المرء أن يكون أكثر النقاط ضوءا لأنه أكثرها حدة فى الثورة وأن يحصل على تأييد أهل المخيمات وأن يكون صالحا للصور الفوتوغرافية يبدو جميلا فيها مهما فعل وأن يستشعر، ربما، أن ذلك الحلم ذا المضمون الثورى سوف يسلب فى القريب» لم يكن الفدائيون يبغون السلطة فقد كانوا يمتلكون الحرية.

عند عودتى من بيروت، فى مطار دمشق التقيت بفدائيين شباب هاربين من الجحيم الإسرائيلي. كانوا فى السادسة عشرة أو السابعة عشرة. كانوا يضحكون ويشبهون فدائيى عجلون. سيموتون مثلهم. إن الكفاح من أجل بلد يمكن أن يملأ حياة غنية جدا ولكن قصيرة. وهذا فلنتذكر هو اختيار أخيل فى الالياذة.