عاجل

محكمة العدل «الإلهية»

د.أسامة السعيد
د.أسامة السعيد

أثار انعقاد جلسة محكمة العدل الدولية للنظر في اتهام جنوب أفريقيا لدولة الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، ردود فعل عديدة.. إسرائيل مذعورة من وقوفها للمرة الأولى أمام قضاء دولي دون "ورقة التوت" الأمريكية التي تستر عوراتها وتتستر على جرائمها.

والأمريكيون ليس بيدهم سوى التشكيك والانتقاد، وربما الضغط من تحت الطاولة لإنقاذ ربيبتهم المدللة، التي وقفت أمام العالم ليتفحص بعضا من أفعالها المشينة وجرائمها المخزية، بينما لا تملك الدولة العظمى تلك العصا السحرية المسماة بالفيتو التي تصادر بها على رأي العالم، وتتحدى بها إرادة مئات الدولة، لتحمي أتباعها وتعاقب خصومها!!

اليوم الجميع يتغنى بما يمكن أن تفعله محكمة العدل الدولية، سواء بإصدار قرارات، هي في الحقيقة غير ملزمة، لوقف الإجراءات الإسرائلية المؤدية للإبادة الجماعية، أو بإدانة الجرائم الإسرائيلية بحكم قد يستغرق إصداره سنوات، لكنه في النهاية سيكون تحولا كبيرا في صورة الدولة الصهيونية التي أدمنت ارتكاب المذابح والإفلات من العقاب.

ورغم أنني لست من هواة الإفراط في التفاؤل، أو المبالغة في التحليل ووصف الأمور بصيغة أفعل التفضيل، لكنني مع كل خطوة يمكن أن تعيد الحق لأصحابه وإن طال الأمد، وتساهم في تفكيك جدار الصمت والازدواجية الغربية ولو حجرا حجرا، طالما أننا لم نمتلك بعد القدرة على هدمه دفعة واحدة.

وبينما أتابع باهتمام مجريات جلستي الاستماع اللتين عقدتهما المحكمة الأسبوع الماضي، وأتأمل ذلك الوقار المفروض على قضاة المحكمة، وتقاليد الجلسة، سرح خيالي في مشهد أبعد بكثير لمحكمة العدل الإلهية، عندما يقف كل هؤلاء المتخاصمين من البشر أمام الله عز وجل يوم القيامة ليقضي بالعدل المطلق بين الناس.

في تلك المحكمة الإلهية القاضي واحد فقط، وليس 15 قاضيا من جنسيات شتى تتحكم بهم الأهواء، ويخضعون للضغوط، وينساقون وراء تقديراتهم الشخصية، فضلا عن تفسيراتهم للوقائع والقوانين، بينما القاضي الوحيد في محكمة العدل الإلهية لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا مجال لخداعه، أو التحايل أوالتزييف أمامه، فهو عليم بكل شيء، مُطلع على النوايا، يعلم السر وأخفى.

إصدار الحكم في محكمة العدل الإلهية لا يستغرق سنوات، فالله سريع الحساب، يفصل بالعدل المطلق في زمن يعلمه جل وعلا، ولا مجال لاستئناف أو نقض، فضلا عن أن الحكم واجب النفاذ وفوري التنفيذ، فإما البراءة والنجاة إلى الجنة، وإما الإدانة والخسران المبين في النار.

ولا مجال أمام محكمة العدل الإلهية للتشكيك أو استخدام النفوذ والضغط على أطراف النزاع، فكل شيء كبيرا كان أم صغيرا مدون منذ الأزل في صحائف يدونها رقيب عتيد، والشهود لا مجال للتشكيك في روايتهم أو الاستعانة بشهود زور لتلفيق الإدعاءات، أو استدعاء أبرع المحامين لتدبيج المرافعات.

في محكمة العدل الإلهية، لا فوارق بين ملوك ورعايا، ولا دول دائمة العضوية وأخرى تقبع في قاع العالم الثالث، ولا قيمة للألقاب والنفوذ والسلطة، فالجميع في حضرتها خاضع ذليل بين يدي المنتقم الجبار ينتظر القول الفصل.

 قد يظن البعض أن في ذلك التصور تغييبا للعقل، أو محاولة للتخاذل بالرهان على ما هو غيبي بعيدا عن استخدام أدوات الواقع، والحقيقة أن الإيمان بعدل الآخرة هو ما يمنحنا الطاقة للصبر على ما تحفل به الدنيا من ظلم، ولولا ذلك الإيمان لما احتمل الأشقاء في فلسطين المحتلة كل ذلك الويل لسنوات وليس لمائة يوم فقط أو يزيد، ولا تجد على ألسنتهم سوى عبارة "الحمد لله"، إنهم يستلهمون الصمود في وجه عدوهم الغاصب من إيمانهم الراسخ بأن ملاذهم محكمة العدل الإلهية، حتى وإن لم تنصفهم كل محاكم العالم.