عدنية شبلي: محو فلسطين من الخريطة مستمر حتى اليوم

عدنية شبلى
عدنية شبلى

فى النصف الأول من رواية «تفصيل ثانوي» للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلى يقوم قائد فى جيش الدفاع الإسرائيلى ووحدته بأسر شابة بدوية وتعذيبها فى صحراء النقب.

العام هو 1949. تظهر لنا عدنية، بتفصيلٍ دقيق، مجرمًا منهجيًا غير مبال بالمعاناة، حتى معاناته هو. وفى منتصف الرواية، ينتقل الزمن إلى الحاضر، إلى صحفية فلسطينية، ذات عقل محموم لا يهدأ، تحقق فى الجريمة. وتخلق اللغة الدقيقة والشكل المبتكر نسخة متداخلة، حيث يحوم الملموس حول المتخيل، مثلما يلقى الماضى بظلاله على الحاضر. وتستند الرواية إلى الحدود المتغيرة بين الماضى والحاضر فى فلسطين وإسرائيل.

اقرأ أيضاً| «لدغة النحل» لبول موراي.. ترشيحات «النيويورك تايمز» لأفضل روايات في 2023

وتتجاوز الرواية الحدود بتسليطها الضوء على الاضطهاد والظلم وإظهار عبثية الحياة تحت وطأة الاحتلال. الحوار التالى أجرته الكاتبة الأسترالية ميريه جوشو مع عدنية شبلى .

استغرقتِ اثنى عشر عامًا لكتابة «تفصيل ثانوي». وكانت نقطة الانطلاق التفكير فى اللغة والشكل. هل اتضح لكِ منذ البداية شكل الرواية ووجهات النظر المتناقضة داخلها؟

انبثقت الرواية من سؤال تأملى عن الكيفية التى يؤدى بها التهاون فى اللغة إلى الألم، وكذلك كيفية تفاديه. لم تشغلنى سوى هاتين الفكرتين الرئيسيتين. ثم جاءت اللغة، كلمة تلو كلمة، على مدار الاثنتى عشرة سنة. وتكشّف لى تدريجيًا الشكل والمحتوى. لم أتحكم فى تلك الكلمات كليةً، بل كنت أجلس بهدوء كل صباح انتظر بزوغها ببطء.

وأحيانًا كانت تبدو كالذباب، إذا قمت بأدنى حركة وأخفتها، طارت بعيدًا. وبرأيى أن أجزاء الرواية المختلفة كانت تحدد العملية. فكنت كلما حاولت التحكم بها، نجمت فقرات رديئة وجب حذفها.

كانت عملية مذهلة عسيرة التفسير، أعجز عن وصف وتيرتها. ولست أدرى كيف كان لى دور ثانوى فى النص رغم أننى الكاتبة. وأحيانًا كانت تغدو عملية مخيفة؛ لأن عدم تمكنى من السيطرة عليها قد يسفر عن غموض أو التباس. كما أظن أن الحظ يلعب دورًا، وسطوته فى أثناء الكتابة أكبر من سطوتي.

تتحدثين عدة لغات ولكنك تكتبين بالعربية، وفى هذه الرواية عملت مع المترجمة إليزابيث جاكيت. ما المناقشات التى دارت بينكما حول اللغة؟

أعرف العربية والإنجليزية والعبرية والفرنسية والكورية والألمانية. وأتحدث بعضها بشكل أفضل من الأخرى، وأحيانًا تضعف لغة أو تتعزز بفضل أخرى. ولكننى أكتب الرواية باللغة العربية فقط لأنها ساحرة. إنها لغة مدهشة وغريبة ورائعة وسخية ومرنة. لقد منحتنى كل شيء. إنها المساحة التى وجدت فيها أكبر قدر من الحرية والخصوصية فى حياتي. وقد حفلت عملية الترجمة بالتحديات. وشكّل النص عبئًا إضافيًا على المترجمة لأن اللغة صاغتها تجربة محددة؛ وهى انتهاكها على يد الاستعمار والقمع. وفى العربية، تتطلب تلك التجربة اللغوية حيزًا متسعًا ودقة كبيرة، واهتمامًا بالمكتوب وما لم يُكتب عمدًا.

تحدثنا عن عملية التبادل المستمرة، ولكننى أحسب أن جاكيت لم تكن تتوقع ضخامة الأمر. ومع ذلك بذلت أقصى ما فى وسعها للتصدى لتلك التحديات. كما اجتهد المحررون فى التعامل مع الطبقات المتعددة. وواقع الأمر أننى لا أتقن لغة بعينها، وجل ما أعرفه هو متى لا أضع كلمة ما فى النص. قد لا أعرف الكلمة الصحيحة، وربما استغرق أيامًا لإيجادها فى العربية. أما فى الإنجليزية، فالكلمة المناسبة أكثر نأيًا. ولكن على أى حال، أشعر بالارتياح لأنه ليس عليّ قراءة كتبي، فلا أعود إليها إلا عند العمل مع المترجمين، ولا يتطلب ذلك إعادة قراءتها بصورة كاملة. وبمجرد انتهاء ارتباطى بنصوصى ونشرها، لا أقرؤها. ولا أعرف السبب الذى يثير نفورى من فكرة قراءة نصوصى المنشورة، ولكننى أعلم أن قراءة كتب الآخرين هى طوق النجاة.

ينقلنا الأسلوب المميز، ودقة اللغة، والابتكار الشكلى إلى عالم شبيه بالحلم، لكن التفاصيل الحسية تمنحنا الواقعية، وترتبط أجزاء الرواية بموتيفات متكررة، مثل عواء الكلب، ورائحة البنزين، والنباتات الصحراوية، فى أى مرحلة ظهرت تلك التقنية فى الكتابة؟

لطالما فتنتنى فكرة التكرار وامتلاك الكلمات المتكررة حياة مختلفة، مع تغيير طفيف فى الظروف. وشغلت بالى تلك الأفكار فترة طويلة. مثلاً، عندما يخبرك حبيبك فى بداية العلاقة أنك مجنون، ثم يكرر العبارة ذاتها فى نهاية العلاقة. أجده أمرًا طريفًا.

كأنما لم يطرأ تغيير فى الفترة الزمنية بينهما! حين تعاود الموتيفات الظهور فى الرواية، فإنها تترك تداعياتها الأصلية ولكن بخصائص مختلفة. والصدمة النفسية فى الجزء الأول، تستحيل جزءًا من العبثية فى الجزء الثاني. هل تؤدى سمات التكرار والعودة دورًا خاصًا فى ضوء الواقع السياسى المرسوم فى «تفصيل ثانوي»؟

إعادة تكرار سردية الألم يبعث بالملل فى المستمعين، فى حين أن هذا التكرار يعنى فى الواقع استمرارية الألم وبالتالى تفاقمه. وتتبادر إلى ذهنى الآن قصة طريفة عن التكرار، وربما ليست مرتبطة بسؤالك. فى أوائل العشرينيات من عمري، شاركت فى ورشة عمل فيديو مع فتيات فى المرحلة الابتدائية فى القدس. كانت الورشة مصممة لاستيعاب اثنتى عشرة إلى خمس عشرة طالبة، ولكن تقدم أكثر من مئتى فتاة. لذا، وضعت معايير اختيار. وطلبت منهن كتابة قصة من صفحة واحدة تدور أحداثها فى الطريق بين بوابة المدرسة وإحدى بوابات القدس القريبة، فى ذلك الصباح.

وجدت أن أكثر من 190 قصة كانت عن فتاة فى طريقها إلى المدرسة، ثم تصادف عجوزًا أعمى، وتساعده على عبور الشارع. وحين قرأت القصص، حسبت أنها منسوخة، وأن كل واحدة منهن لجأت إلى الاستعارة المبتذلة بكونها الفتاة الطيبة التى تفعل الخير فى العالم. فلم أختر إلا فتاة كتبتها بطريقة أكثر دقة. وفى أحد الأيام، كنت فى طريقى إلى هذه المدرسة لتقديم ورشة عمل، ورأيت ثلة من الفتيات، العشرات منهن، يرتدين الزى المخطط الأزرق والأبيض، يتجمعن حول رجل أعمى، ويساعدنه على عبور الشارع. أثارت تلك الواقعة اهتمامى بالتكرار. وربما كانت أحد الدروس المهمة التى تعلمتها عن الأدب وما يمكن إدراكه كواقع ومتخيل.

يذكرنى ذلك ببطلتك المعاصرة التى تواجه حقائق متناقضة. وأثناء قيادتها فى فلسطين/إسرائيل لاكتشاف المزيد من المعلومات عن الجريمة، تستعين بعدة خرائط. إحداها، صادرة عن السلطات الإسرائيلية، ولا تظهر أى دليل على القرى الفلسطينية الواردة فى الخرائط الصادرة قبل عام 1948. هل التفكير فى المحو والاندماج جزءًا من عملية الكتابة؟

المحو اللغوى على الخرائط هو أول موضع تشعرين فيه بخيانة اللغة؛ محو فلسطين من الخريطة مستمر حتى اليوم. ووعيك اللغوى منذ سن مبكرة يعتمد على قراءة عمليات الحذف. وقد شغلنى ذلك الأمر منذ أول نص كتبته.

ذكرتِ أنه حين يُطلب منك التطرق إلى قضية فلسطين، تعتبرين ذلك «فعل عنف، ودورًا أنثروبولوجيًا» ترفضينه. كيف تحافظين على استقلالك الفنى إذا طُلب منك أن تكونى «ممثلة»؟ وهل يحدث ذلك بطريقة مختلفة فى ألمانيا أو فلسطين؟

لم يُطلب منى البتة أن أكون ممثلة لأى شيء. إن الناس أذكياء، وبوسعهم رؤية أننى حتى لست بارعة فى تمثيل كتاباتي. لا يهمنى حقًا ما يعتقده الناس فى ألمانيا أو فى أى مكان آخر بشأن فلسطين. فى الواقع، «تأمل» القضية الفلسطينية موقف امتياز لا أود المشاركة فيه. واهتمامى بفلسطين هو شأن شخصي، وليس أدبي. وهذا الاهتمام يشكّل أدبي، ولكن أدبى ليس عن فلسطين بل عن كونها حالة من الظلم واعتياد الألم والمهانة. كما أنه يكشف النقاب عن حدود اللغة. ومن يهتم بكيفية تجريد البشر من إنسانيتهم منذ مولدهم، بمقدوره حتمًا كشف ما يقاسيه أصحاب المعاناة دون إرغامهم على الاقتناع بمدى الألم والعذاب. وهناك من يدركون ذلك ولا يرغبون فى معرفة الحقيقة. العبودية، والاستعمار، والهولوكوست، وهذا غيض من فيض... تلك أحداث وقعت ردحًا من الزمن وغض الناس عنها الطرف.

ينبع تنقيبى فى القضية الفلسطينية بشكل رئيسى من اهتمامى بأصحاب المعاناة. ففى تلك الحالة نتآزر معًا، إذ لن يخاطر أصحاب الامتيازات بخسارة امتيازاتهم من أجل الآخرين إذا أمكنهم ذلك. أتمنى ألا أكون قاسية، بل واقعية. حتى الماعز تعرف عندما يأخذون واحدة منها ليذبحوها، أليس بمقدور البشر معرفة ذلك؟ وإذا كانوا لا يستطيعون، فلدى الحق فى الوثوق بالماعز فحسب والتحدث معه عن كل شيء؛ عن فلسطين وجميع الأمور الأخرى.

أثناء قراءتى لأعمالك، بما فى ذلك روايتيك «كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (2004) و»مساس» (2002)، تذكرت ما قالته الفنانة منى حاطوم: «إننى لا أحاول نقل رسالة سياسية مباشرة. ثمة قضايا تشغل ذهني، لكنها لا تطغى على العمل، وليست متعلقة بتاريخى الشخصي... فلا يعنينى سوى الشكل. وتركيزى منصب على المواد والجماليات.؟

من الرائع قراءة أسلوب منى حاطوم، لأن ما يشغلنى على المستوى الأدبى هو الشكل. وأتذكر قراءة الشعر التجريبى فى المدرسة عندما كنت فى العاشرة من عمري. وكنت مفتونة بذلك النوع الشعري، الذى تتحرر فيه اللغة من وظيفتها وواسطتها. وخلال السنوات القليلة الماضية، تحولت من عدم الاهتمام الحقيقى بالشكل السردي، والذى يظهر فى كتاباتى منذ البداية، إلى الاشمئزاز العميق منه. وأقول «اشمئزاز» لأن لدى رد فعل جسدى تجاه البنية الخطية. ففى تلك البنيات أشعر بوجود السرديات الكبرى، مثل الدكتاتورية. وأحاول استخدامها فى الحالات التى يكون فيها الاستبداد معرضًا للخطر، بحيث يكون الشكل هو الذى يحكم المضمون. والبنية السردية الخطية هى دكتاتور. ولكننى لا أسعى للتجريد بل الدقة؛ حيث تستقر الكلمات فى مواضعها الصحيحة فى النص.

إنها فكرة جديرة بالتأمل. وأعتقد أنها المرة الأولى التى أسمع فيها كاتبًا يعبر عن العلاقة بين السرد التقليدى والاستبداد. ويذكرنى ذلك بإمريه كيرتش، الذى قصد أن يكون كتابه «لا مصير» رواية حرة، لأن التناسق يوحى بوجود أخلاقية محددة أو متفق عليها. كان يرغب «فى كتابة رواية لا تتضمن أخلاقية ثابتة، بل أشكالًا تجريبية مبتكرة». لقد صممتِ «تفصيل ثانوي» بحدود هيكلية وقسمتها إلى جزئين. وثمة حدود أخرى تعاود التكرار؛ مثل نقاط التفتيش التى يجب على البطلة المعاصرة المرور بها للتنقل فى فلسطين/إسرائيل، والحدود النفسية والجسدية بين قائد الفرقة والفتاة البدوية، والحدود بين ما يمكن معرفته عن الفظاعة وما يمكن تخمينه. هل كنتِ تستخدمين الحدود عمدًا لتنظيم الكتابة أو استحداثها؟

يثير شغفى ما تحاول الحدود منعه والأسباب التى تقف وراء ذلك. وأحيانًا تبهرنى كيفية تحول معناها وتصورها من حالة إلى أخرى. مثلاً، فى عام 2012 كتبت مسرحية قصيرة بعنوان «جدار للجميع». وتدور حول شجار يقع بين عاشقين خلال افتتاح فني. قمنا بتنفيذ هذه المسرحية على المسرح، دون أن يدرك الناس أنها مسرحية. ولكنها كانت مستوحاة بشكل كبير من تقارير وزارة الخارجية الإسرائيلية، التى تبرر أسباب وضرورة وجود الجدران ونقاط التفتيش فى فلسطين/إسرائيل. بل إن المسرحية مقتبسة بصورة مباشرة من بيانات الدعاية التى تصدرها الوزارة. ومن خلال تغيير بضع كلمات قليلة، وتقديم النص كحوار بين عاشقين، صار مألوفًا ومقبولًا. لذا، يسترعى نظرى كيف تغير الحدود المعنى عند انتقالها إلى أراضٍ أخرى. وقد أبدى أحد أصدقائى الشعراء سعادته عند نهاية المسرحية، وأخبرنى كم كانت رائعة. وحين أخبرته بحقيقتها صُدم ولم ينبس بكلمة، كأنما أدرك بغتة أنه كان معجبًا بالدعاية. ما هى الحدود بين الدعاية الحكومية وبين عاشق يرغب فى إنهاء العلاقة؟

يذكرنى ذلك ببراعة «تفصيل ثانوي» فى تصوير العلاقة بين الأعمال السياسية والحياة الشخصية. هل عُرضت المسرحية فى ألمانيا؟ أتصور أن وقعها سيكون مؤثرًا هناك؛ فالتدخل العنيف للدولة فى الحياة الخاصة ما زال ماثلًا فى الأذهان.؟

نعم، فى برلين، فى «بيت ثقافات العالم». وعُرضت مرة واحدة فقط، لذا كان تأثيرها لحظيًا. وقف الناس يشاهدون، ولم يكن واضحًا فى البداية أنها مسرحية، وهو رد فعل يحمل مدلولًا قويًا. وتلك اللامبالاة متفشية الآن للأسف فى العديد من المجتمعات.

هناك فاصل مفاجئ فى روايتك؛ إذ تنتقل من السرد الهادئ بضمير الغائب إلى أسلوب مفرط الانفعال فى النصف الثاني. ويبدو هذا التحول وكأنه رفض لتجاهل الصدمة. بطلتك الشابة تروى الحقيقة، ولكن الحقائق تعذبها بسبب اقتران استجوابها الذاتى بعزلتها. هل أدركتِ ذلك الأمر فى أثناء الكتابة؟

لم أضع البطلة فى دور الناطقة بالحقيقة. إنما تحاول بلوغها، لتعرف إن كانت موجودة حقًا. وإذا كانت تقول الحقيقة، فسيكون هذا الأمر غريبًا لأنها تعانى من قصر النظر. كما أنها تتلعثم. هل يمكن بلوغ الحقيقة بتلك الطريقة؟ كيف ستبدو الحقيقة إذا قيلت بلغة كسيرة ومتشظية؟ الحقيقة الوحيدة التى تهم أو كانت تهم فى الرواية هى أن العنف على المستوى الأدبى قد يكون موجودًا وملموسًا على المستوى اللغوى أيضًا. والتلعثم ليس مجازًا هنا، بل تجربة جماعية تتغلغل فى اللغة. لطالما استوقفتنى علامات انعدام الطلاقة أو الفصاحة التى تظهر حين يزدرد الشخص ريقه قبل كلمة أو بعدها، أو عندما يعجز عن نطقها. إن ذلك يشير دائمًا إلى ضعف وهشاشة فى موقف معين، وأنا أشبه المحقق الخاص الذى يسعى إلى معرفة سبب ظهور تلك الكلمات أو عدم ظهورها.