«صعود» قصة قصيرة للكاتب محمد بربر

محمد بربر
محمد بربر

كانت الأمطار تسد الطرقات، والسماء تخفي الكثير من أسرارها، حين انزوى إلى ركن من الحجرة، همَ أن يقف مستندا على طرف المقعد المجاور فتعثرت يده، لكنه حاول مجددا وبخطوات متثاقلة وقف أمام المرآة الباهتة ذات الإطار الخشبي المتأكل، أمال رأسه جانبا ثم حرك ذقنه إلى أعلى ليحدد الانحناءات الجديدة والتجاعيد التي طالما سخر منها، قبل أن يحدق في موضع شعرة وحيدة ظلت في مقدمة رأسه، تنمو بلا تفسير بينما أكل الزمن رفيقاتها.

ابتسم وهو يطيل النظر لوجهه، وقد أمسك بهذه الشعرة بأطراف أصابعه كمن قبض على الجمر، تبدلت ملامحه وهو يجذبها لأعلى حتى كاد أن ينزعها.

لم يجرؤ الرجل السبعيني على مغادرة البيت في طقس قارس البرودة، لكنه كان يحمل هم القطة التي ظل يرعاها منذ أن وجدها في الشارع وحيدة قبل عامين، حتى أن صديقه المقرب ظل فترة يلقبه بـ"أبو القطة"، هي بالنسبة له عالمه الأثير، بعد أن رحلت زوجته وسافر ابنه الوحيد إلى خارج البلاد.

ارتدى معطفا أسود واتكىء على كل ما وجده أمامه حتى تجاوز عتبة البيت، واتخذ من الدرابزين معينا حتى وجد قطته في مدخل العمارة منزوية وساكنة فحملها وضمها إلى صدره، صعد بها إلى شقته وهي عالمهما المشترك.

في اليوم التالي، ذهب إلى المقهى وجلس مع أصدقائه لكنه غادر سريعا حين مرت جنازة وقف لها الجميع مشيرين بالسبابة نحو السيارة العابرة.

يعرف أصدقاء الرجل أنه لا يحضر جنازات، ولا يحب سيرة الموت، كما يخشى من السعال والبرد، ويدفع الصدقات بدأب على أهل السبيل، كما يعرفون عنه أنه ذات مرة هاج وماج وخاصم صديقه ثلاثة أيام بسبب أنه شبهه بأحد الراحلين ناصحا إياه "الله يرحمه.. شبه نفسه".

في المساء، شعر بأن رأسه يشتعل من شدة الحرارة، حاول النهوض من السرير ففشل، تحوم حول عينيه عشرات من الكائنات الغريبة، تراءى له أن البنات الغريبات عن عالمه اقتحمن شقته وأمسكن به وغرسن أدويتهن في جسده الذي أنهكته العقاقير، خشي من حساب زوجته حين تضبطه معهن، حاول أن يبحث عن مبرر حقيقي لوجودهن، المعاطف البيضاء التي يرتدينها إذن، وجوههن الملائكية، هل يطلب منهن إطعام القطة التائهة، لم يتمكن من الحديث، اعتادت صديقته التي يفضّل أن يناديها  "بُسبُس" أن تخرج وتعود بمزاجها، وأن يداعبها ويشبهها بسعاد حسني، لم يقهرها كما كان يفعل مع الآخرين، حتى أنه حين تتأخر تُسمعه مواءها ليطمئن قلبه.