خالد محمود يكتب: « تشريح سقوط » .. السينما فى قوة ذروتها

خالد محمود
خالد محمود

في فيلم “تشريح  سقوط” للمخرجة الفرنسية جوستين تريت الذي عرض على شاشة مهرجان الجونة السينمائي أيقنت المصير، وأيقظ تلك التساؤلات القدرية التي قد تأتيك مع طيف رياح أو سطوع شمس أو حبات مطر تتجمد ثلجا، فهو جاء ليمنحنا ملامح جديدة في طرحه لقصة لمثيرة مع إيقاع هادئ، وموسيقى تخفف من وطأة الصدمات الساخنة كهدف أساسي في الحبكة التي أحاطها السيناريو بالغيوم، وسط أداء رائع لأبطاله وهم يواجهون مصيرهم المجهول عقب حادث مفاجئ، حيث يعثر الابن الصغير دانيال “ميلو ماتشادوا” الذي يعاني من ضعف البصر، على الأب صامويل “صامويل ثيس” الكاتب الطموح والمتواضع ميتا أمام المنزل بإحدى ضواحي جبال الألب، وهناك جرح مروع في رأسه والدم يتدفق عبر الثلج، بينما الأم ساندرا “ساندرا هولر” الروائية الناجحة تبدى إندهاشها عقب مشاهدتها الزوج ملقى على الأرض بدمائة في موقف يستدعي الشبهة  .

السيناريو الذي شاركت في كتابته المخرجة مع آرثر هراري، يروي بعناية ودون مبالغة كل ما يجب معرفته عن الراحل بشكل عام خلال الدقائق الأولى، كونه رجل عادي يعيش حياة هادئة،حيث يبدأ الفيلم بقيام صامويل بأعمال النجارة في الطابق العلوي من الشاليه ويعزف الموسيقى بصوت عال، بينما تحاول ساندرا إجراء مقابلة صحفية في الطابق أدناه، وتبدو هناك ثمة أمور غير متوائمة بين الزوجين، وكأنه خلل في توازن العلاقة بينهما، وقد نجحت ساندرا، لكن صامويل يعاني ويظل في كومة من الاستياء،

في المشهد يظهر محامي ساندرا افنسنت وحبيبها القديم (سوان أرلود) الذي يحاول أن يعرف منها حقيقة ما حدث، لتعيد تجسيد المشهد وبداخله يقين بالإدانة، وهنا ينتقل الفيلم بذكاء وحيوية لمحطة نفسية وفنية مختلفة بالذهاب إلى المحكمة عندما يقرر المحققون أن وفاة صامويل كانت جريمة قتل والمشتبه به الرئيسي بالطبع هو ساندرا.

وكما يوحي العنوان سيتم تشريح هذه السلسلة من الأحداث بدقة وكأنها لعبة ولغز، أولاً في المنزل ثم في قاعة المحكمة، وتطرح الأجواء تساؤلا: “هل دفعت نوبات الغضب والإكتئاب المتكررة التي يعاني منها صامويل إلى إلقاء نفسه من نافذة مكتبه في أعلى المنزل؟، أم أن ساندرا كانت متورطة؟”، من جانبها، تدعى ساندرا أنها كانت غافلة عندما وقع الفعل، ومع ذلك، فإن السلطات الفرنسية لا تصدق ذلك، معتقدة أن مسار سقوط صامويل قد لا يفضي إلى نظرية الانتحار، (يتم الوصول إلى هذا الشك من خلال عدد قليل من التجارب الكوميدية المنحرفة حيث يعيد المحققون تمثيل السقوط بإستخدام دمية بالحجم الطبيعي)، إلى جانب الكشف عن العلاقة المشحونة بين الزوجين، بما في ذلك شريط صوتي لجدال اليوم السابق للحادث، وهنا يتم إتهام ساندرا بقتل صامويل.

السياق يوحي أيضا بأن الاتهام ليس بسبب سلوكها العنيف احيانا  مع الزوج، ولا بسبب أي نوع من الإشارات المباشرة إلى إدانتها كونها الوحيدة بالمنزل، لكن ما أفرزته مناقشات المحكمة حول شخصيتها غير المريحة التي يمكن أن ترتكب الجريمة .

يبقى مجددا السؤال الكبير الذي تحوم حوله المخرجة هو “ما إذا كانت ساندرا قادرة حقًا على قتل صامويل؟”، والواقع أن الذي ساعد على هذا الإيحاء أداء وانفعالات هولر المثيرة، والعائلة داخل المحكمة، لقد تمكنت من إلتقاط الحالة المزاجية والإمكانيات من خلال الاستخدام الرائع لتعابير الوجه والسلوك والصوت، والتي صاحبتها نغمات موسيقية موحية بسكونها وصخبها وزوايا التصوير المتحركة، وكذلك اللقطات القريبة الصامتة، وجعل الجمهور أيضًا جزءًا من هيئة المحلفين التي يجب أن تقرر بشأن جريمة القتل، كما تستغل المخرجة عبر السيناريو  شعور المتهمة بالبرود تجاه القضية للتلاعب بالتوقعات ونجد مثلا  المدعي العام (أنطوان رينارتز) في حيرة من هذه الإحاسيس التي توضح شيئًا فشيئًا أن العدالة لن تجيب أبدًا على ما حدث لصامويل، بينما كل ما يهمه هو إثبات أن الكاتبة يمكن أن تكون قادرًة على القتل. 

دون شك الفيلم عبارة عن دراما فكرية والمخرجة تحافظ عليها بصرامة، إنه تقييم قاس للمتهمة، وأروع عناصره قدرته على شمول عدة مواضيع، دون التأكيد عليها أو الإصرار عليها أو إظهارها بوضوح، لذا فإن ذنب ساندرا المحتمل يكون دائمًا لغزًا يستمر في تحدي المشاهد للتوصل إلى نتيجة، فمن ناحية، إن تناقضاتها وأكاذيبها وحقائقها المخفية مثيرة للريبة، ولكنها ليست خطيرة أو تعد  جريمة، في الواقع، يتمتع السيناريو بمهارة كافية لنقل القصة بأكملها إلى منطقة أكثر تعقيدًا ولهذا يشير إلى احتمالية أن يكون كل إنسان في العالم مزيجاً من عيوبه وفضائله، مما يقودنا إلى السؤال التالي: “لو حكمنا على هذه التناقضات، ماذا سيحدث؟”.. 

فالتناقض  والتفسيرات المتقاطعة حول حياة صامويل وساندرا ، هو في النهاية مفترق الطرق الذي يدعم هذه القصة الذكية، مما يجعله فيلم مثير للاهتمام بفضل الأداء الرائع لساندرا هولر وتأملاتها حول ضغوط الحياة الزوجية، وشرحها جميع الجوانب القبيحة لزواجها ثم يتم تقديم “دليل دامغ” - وهو شريط مسجل سرًا لمشاجرة بين الثنائي - وقد حدث ذلك في اليوم السابق لسقوطه ووفاته .

وبينما تتوالى الشهادات يدفعنا الفيلم إلى الاعتقاد بأن ساندرا يمكن أن تكون عقلًا إجراميًا مدبرًا مختبئًا على مرأى من الجميع، والواقع أن ساندرا هولر، ماهرة في لعب شخصيات غامضة وممتعة، بإعتبارها تجسد اللغز المثالي على الشاشة بأدائها، لطيفة ومتعاطفة مع الجميع منعزلة بشكل غريب، إنها تجعل من كل ردود فعلها على وفاة صامويل حيرة ما بين الإفراط في التعامل والصمت الطويل .

لكن مع إستمرار المحاكمة، فمن الواضح أن فيلم تريت يدور في ذهنها أكثر من السؤال البسيط حول براءة ساندرا أو ذنبها، وهو الموقف الذي يصبح أكثر أو أقل وضوحا قبل صدور الحكم النهائي، ويبدو أن تشريح السقوط منشغل أكثر بالتفكير الإشكالي وراء اعتقاد الادعاء (وفي النهاية الجمهور)، بأن ساندرا مذنبة. نظرًا لأن قضية الإدعاء تتمحور فقط حول التكهنات الظرفية المستمدة من تاريخ العلاقة المتوترة بين الزوجين، فإن المحاكمة هي في الواقع تشريح للزواج، حيث كان رد فعل ساندرا و صامويل بطرق مختلفة بشكل ملحوظ تجاه الحادث الذي تسبب في عمى ابنهما، وخلق عن غير قصد فجوة كبيرة وهوة بينهما،

لكن مع خروج صامويل من الصورة، فإن ساندرا وحدها هي المسئولة عن أي خطأ محتمل، سواء أكان ذلك خيانتها المتفرقة أو طموحها القاسي.

يتم طرح قضية التسوية بشكل متكرر في محاولة لتخمين من الذي عليه أن يتخلى عن المزيد، هل تم منع صامويل بشكل غير عادل من متابعة طموحاته الإبداعية بسبب تحمله لمزيد من العبء العائلي، ومع ذلك وافقت ساندرا على الانتقال إلى موطن زوجها بناءً على طلبه، في بيئة منعزلة بشاليه في أطراف جبال الألب، 

إن مشاهد قاعة المحكمة المطولة محفزة فكريًا ومرهقة بشكل مناسب مع إحتدام هذا النقاش.

في مرحلة معينة، يبدو أن الادعاء يميل بكل إخلاص إلى وجهة النظر القائلة بأنه حتى لو انتحر صامويل، فإن ساندرا لا تزال مخطئة في دفعه للقيام بذلك.

على الرغم من كل المعضلات النفسية والاجتماعية المعقدة التي تحدث في الفيلم، فالنهاية كانت غريبة إلى حد ما حيث يعتمد الفيلم بأكمله على شهادة اليوم الأخير من دانيال، الشاهد الوحيد على السقوط، يظل دانيال في حالة من الارتباك والإحراج أثناء المحاكمة، حيث تنكشف علاقة والديه أمامه بشكل وثيق، لكن بمجرد أن يتخذ الموقف أخيرًا، يبدأ في قصة واضحة تضع حدًا للقضية برمتها بالطريقة التي يتحول بها الفيلم إلى دراما عامة في قاعة المحكمة وهنا يكون الفيلم في أفضل حالاته، حيث طرح بصورة سينمائية مختلفة الديناميكيات المعقدة بين الأشخاص في العلاقات طويلة الأمد ومدى سهولة تشويهها عند تعرضها للتدقيق العام.

أن “تشريح السقوط” يجسد السينما في قوة ذروتها ويحلل حياة امرأة من أحلك جوانبها، وهذا يجعل احتمال كونها قاتلة حكماً على سلوكها وليس على أفعالها، حيث يتم عرض القاتلات في السينما عادةً على أنهن مخلوقات معقدة وقاسية.

;