أنيس الرّافعى .. كتابُ البَهلَوَان

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

بابٌ فى ذِكْرِ

البَهلوانِ الذى سقطَ من السَّماء،

وكيفَ تحوَّلَ إلى ضريحٍ ذِى بركةٍ و مواهِب فوق طبيعيَّة

 المَزْعَمُ الأوّل

«يزعمُ سيّدُنا عبد الله بلعبّاس أنّ أصلَ البهلوان زخّة نيزك عملاق سقطَ من السماء إلى الأرض،  فاتّخذهُ سوادُ النّاس مهرجانا احتفاليّا خوارقيّا،  من أجل التبرّك بكراماته». 

سقطَ البهلوانُ العملاق،  حسب الكثير من شُهودِ العَيَان،  ليلاً،  من السَّماءِ مباشرةً،  مثل نيزكٍ جانحٍ أو مركبة فضائيّة شبحيّة، ثمّ استقرَّ وسط الخلاء المقفر، على مسافة كيلومترات يسيرة من مدخل أحد المداشر المغربيّة الجنوبيّة الصغيرة، التى تكبّدت خلال الأيام القليلة الماضيّة فاجعة زلزال مدمّر غادِر، هَدَمَ بُيوتها الطينيّة المتواضعة، وخَلَّفَ المئات من الضحايا فى صُفوف سكانها المُعوزين.

  هبّت السُّلطات المحليّة، وكذا بعض الرُعاة والفضوليّين، منذ ساعات الصباح الأولى، من أجل تقصّى الواقعةِ الصادمة، فتبيّنَ لَهُم أنَّ الأمر يتعلّقُ بمخلوق غامض يستلقى على ظهره بذراعين مبسوطين إلى جانبه، ذى هيئة جبّارة بحجم عمارة سكنيّة مُؤَلَّفَةٍ من عشرين طابقاً، يَتَزَيَّا ببذلة بهلوان مُبهرجة الألوانِ، وينتعلُ حذاءً من النوع المُفلطح الخارق، ويرسمُ على قناعه المُزَوَّدِ بأنفٍ مطَّاطيٍّ، والمُلَطَّخ بمستحضرات التجميل، ابتسامةً مُمْعِنَةً فى السُخريّة. 

الابتسامةُ المحنَّطةُ نفسها، هى ما حيّر زُمرة عريضة من الخُبراء والمتخصِّصين فى الميادين الطبيّة والتشريحيّة والأمنيّة والفلكيّة والباراسيكولوجيّة، ثمّ جعلتهم يتأرجحُون كرَقَّاص السَّاعة فى تحديد حالة البهلوان العملاق المُسجَّى وسط العراء الممتدّ، إن كان متوفى فعلا، أو فاقدًا الوعيَ مؤقَّتا، أم هو فى حالةِ غيبوبة طويلة الآمَادِ؟ 

وبسرعةِ البرقِ، انتشر خبرُ البهلوان هائل القامة المنحدرِ من علياء السماوات، لتتوافدَ إلى عين المكان، كالزنابير المُهتاجة، القنوات التلفزيّة والرقميّة، من أجل الحصول على السبق الصَّحفِىّ، وتغطيّة كافّة تفاصيل وحيثيات ومُلابسات هذا الحدث المدهش غير المسبوق، الذى خلبَ ألباب الملايين حول العالم، وخفَّف نسبيّاً من وطأة فجيعة الهَزّةِ الأرضيّة الغاشمةِ. 

كما تقَاطرَ، من كلّ حدب وصوب،أهلُ المنطقة، ثمّ نصبُوا أشرطةَ الخِيام حَوَالَيْ حُدود وأَبْعَادِ جسم البهلوان المارد، الذى جذب فيما بعد، مثل مغناطيسٍ وَثِيقِ القُدرة، ما لا يعدّ ولا يُحصى من السُيَّاح الأجانب، وأصحاب عربات الطعام الجائلة، ومالكى السيّارات المقطورة الخاصّة بالتأجير، ومشاهير الريّاضة والفنّ،  مُؤَثِّرى الشبكة العنكبوتيّة، ورجالات الدولة والسيّاسة والأحزاب والنقابات، وفقهاء الجماعات الدينيّة، ومرتزقةِ الخَوارق والعَجائب، وبهَالين الأسركة الصغيرة...

  الجميعُ، بدونِ استثناءٍ، حتَّى وإِنْ لاَحُوا فى تلك الأثناء أشبهَ بالأقزام أو النُسخ الوضِيعة، التقطوا صُوراً وسِلفيات مع جسد البهلوان الأسطورىُ الفارع مثل «آرَغُوسْ» الإغريقىّ، أو تسلَّقُوا هيكله المترامى لاشهار علامات النصر المُنتشيّة، كما لو كانوا عناصرَ من وحداتٍ للدفاع الجويّ قامت مدفعيتهم الثقيلة لتوِّها بإسقاط طائرة ضخمة معاديّة. 

 أصبح موضع خَسْفَةِ البهلوان العملاق المنكوب محجًّا للمُفْتَتِنِينَ بنزعة مُشاهدة الجماليّات المكشوفة والاستعراضيّة للموت، يُدِرُّ أموالاً طائلة على المُتنفِّعين بهذا المهرجان الفرجويّ القائم فى الهواء الطلق، على مَرْأَى من دوريّات قُوّات الدَّرَكِ، التى أَلِفَتْ أن تصلها الإكراميات السخيّة المُخَصَّصَةُ، وعلى مسمعٍ من الهيئات الإداريّة والبلديّة، التى استمرأت الأرباح التى تفجّرت مثل ينابيع فيّاضة فى رُبوع الإقليم. 

بل أدهى من هذا، صار البهلوان العملاق ضريحاً ذا بركةٍ ومواهِب فوق طبيعيّة، يَؤُمُهُ المرضى،والعاقرات، والعاهرات، والعانسات، والمعاقون، وحاملو العاهات والأمراض الجلديّة المعديّة، والممسوسون بلوثات الخبل والجنِّ...

  عُمِدَ، بِغِلْظَةٍ، إلى تَسكين سَوْرَةِ الحناجرِ العاقلةِ، التى دعت إلى التخلُّص سريعا من البهلوان العملاق، خشيّة أن تَنْتُنَ جثَّتُه إذا ما تفسَّخت، وذلك بمقترح تَجْزِئَةِ أوصاله بواسطة آليات قوّية لتقطيع الرخام ذات مناشير باترة مركّبةٍ على الرافعات والسقالات. 

  كما فُرضت رسومٌ ماليّة مرتفعة على الراغبين فى المجيء لمشاهدة عرض البهلوان العملاق الغَافي، مثل وحش خرافىّ من العالم الآخر، على وقع موسيقى الدى جى وأضواء الديسكو الملوَّنة. 

  نسيَ الناس نهائيّا أمر البلاء الساطع للزلزال، ليتواصل لشهور طويلة هذا السيرك الجهنميّ المُقام على أرض قَوَامُها رِيعُ السَّراب، دون خيمةٍ أو حلبةِ أداءٍ أو أقفاصٍ أو سُوَّاس، فى جو عارمٍ من الهَرْجِ والعشوائيُة والارتجال والفوضى. 

  الفوضى عينُها، التى استقطبت، تباعا، طوائف جمّة من رسّامى الغرافيتى، واللّصوص، والمجرمين، والمشعوذين، والدجّالين، والأفَّاقين، والمُكدين، والخرّاصين، الذين لم يتقاعسوا عن نهب مِزَقٍ من ملابس البهلوان، وبيعها كتذكارات أو تعويذات مقدّسة بأثمنة مفرطة لفلولٍ من الأغبياء والمُغفّلات. 

  حتّى جاءَ يوم مشهود، فتح فيه البهلوان العملاق عينيه الزجاجيتين الدامعتين، وسالت رغوة بيضاء، كرغوة البيرة، على جانبى فمه، ثمّ تنفَّس تنفُّسا وئيداً من رئتيه ومنخريه، كما لو كان على وشك أن يستيقظَ من رقدته العميقة.

  حينها، اختلجت الطيور واللّقالق، التى أنشأتْ أعشاشها على أعضائه، مُنذرةً بقرب صحوة المهرّج النمرود، ونهاية هذا المهرجان البائس،غير أنَّ أَصْحَابَ الوَقْتِ، وأهل الحلِّ والعَقْدِ كان لهم رأىُ آخر. 

  ففى ليلة ذاكَ اليوم بالذات، تمَّ، بعملية مُحكمة، إخلاءُ المَرْقَدِ بالكامل من جميع زُوَّاره ومُخيّماته، لِتَخْتَرِقَ، فى سريّة تامَّة، آلاف الحِراب والخُطافات الحاميّة بالنّار كلّ شبرٍ من جسد البهلوان العملاق، ثمّ خِيطت، قبيل الفجر، جُروحه المميتةُ بحبالِ رَتْقِ السُفن.

  لقد اطمأنُّوا، أخيراً، بأنَّهُ لن يُفيقَ على الإطلاق من غيبوبته الأزليّة، وتيّقنُوا إلى الأبد من ديمومةِ وَهْمِهِ العظيم !

 

بابٌ فى ذِكْرِ

متحفِ السِيمُولاَكْر،وعن المصيرِ التراجيدىّ لمُتعقِّبى

الأرنبِ الأبيَض

المَزْعَمُ الثانى

«يزعمُ سيّدنا عبد الله بلعبّاس أنّ الإنسان الشريف يكافحُ طوال عمره كى لا ينسكبَ على وجهه على حين غرّة قناعُ بهلوان، وحتّى فى أبشع كوابيسه يدفعهُ بكلتى يديه وقصارى طاقته، كما لو كان جداراً يخشى أن ينهار فوقه».

  على غرارِ جميع الناس، فى كافّة أرجاء البلاد، ومن مختلفِ السلالات والأنواع والأنساب والطبقات، الذين تلقّوا دعوات إلزاميّة من متحف السيمُولاكر الوطنيّ، قمتُ، بدوري، قبل عدّة شهور، باختيار إحدى صُورى الشخصيّة الأثيرة، ثمّ بعثتُها، عبر البريد المضمون، إلى مكتب المحافظة العامة.

 وهو المكتبُ ذاتهُ، المشرفُ، من الألف إلى الياء، على هاته العمليّة واسعة النطاق، الطريفة من نوعها، التى كانَ من المُفترض أن تمنحَ للمشتركين «فرصةَ التعرُّف على سلسلةِ محاكاة مصطنعة وزائفة لصور وجوههم الحقيقيّة، على أساسِ اختلاقِ نُسخ جيّدة منها وغير متشابهة، لغايات جماليّة محضة، تتمثّلُ فى تنميق الملامح وتحسين المظهر، تبعاً لصيرورةٍ من الاستيهامات العائدة والتكرارات المتصاديّة، القادرةِ على جعل الخسيس جليلاً، والتافة نبيلاً»، مثلما وَرَدَ بين سطور الرسالة التوضيحيّة المُصاحبة للدعواتِ الرسميّة. 

  لا أُخفيكم بأنّنى نسيتُ، تقريبا، أمر هاته المبادرة، ولم أعد أتتبّعُ أخبارها إلاّ لماما، أو عَرَضًا، بواسطة ما يَرِدُ إلىَّ عبر القصاصات الصّحفيّة، أو لَوَامِعِ الشبكة العنكبوتيّة، إلى أن حلَّ يومٌ سمعتُ فيه عن افتتاح المتحف، وما أثارهُ من لغطٍ وحيرةٍ عقب اختفاء أفواجِ مُرتاديهِ الأوائلِ بطريقةٍ غامضة، فدفعنى الفضول، ووطّدت العزم على إنجازِ زيارةٍ لَهُ.

 وبالفعل، ركبتُ القطار إلى العاصمة الإداريّة الرباط، ثمّ استقليتُ سيّارة أجرة، أنزلتنى على مسافة غير هيّنة من مقصدى، بسبب الطوق الأمنىّ المُشدَّد، الذى كان مضروبا حول المكان. 

  وصلتُ إلى بوّابة المتحف، وبعد أن أدليتُ ببطاقتى التعريفيّة لِمُوَظَفَيْ شركة الحراسة المُلتحينِ الصَارمين، سُمِحَ لِى بالدخول. 

  وَجَدْتُنِى أتعقّبُ، كالمُسرنمِ، أرنباً آليّا أبيضَ، شبيهاً بأرنب «أليس فى بلاد العجائب»، قادنى مستعينا بجهاز تتبّعٍ مغناطيسىّ داخل كهفٍ رحيبٍ شبه مظلم، تضيءُ جانبيه أضواء كاشفة، كانت مُسلَّطة على آلاف الوجوه الشخصيّة المُقَنَّعَةِ على هيئة بهلوانات بشعة، مثيرة للسخريّة. 

 تلكَ البهلواناتُ لانهائيّة العدد، التى كانت تحمل أرقاماً ترتيبيّة، وشاخصةً بأبصارها إلى الأمام، فى جمود تامٍّ، ومُكبّلةً بالسلاسل من أعناقها وأقدامها الافتراضيّة، التى تبيّنَ لِى بأنّها، فى الواقع، مُجسَّمات هلاميّة يُولِّدُها اللاّيزر من ألوانٍ ثُلاثيّة الأبعادِ.

 أدركتُ سريعا أنّنى عالقٌ داخل تقليد متطوِّر لكهف أفلاطون الأسطورىّ، إذ كُلّما توغّلتُ إلى الغَوْرِ تراءت لى، على نحو جهنمىّ، الظلالُ المشوَّهةُ والمرعبةُ لهيئات البهلوانات، التى كانت ترسمُها الأضواءُ الكاشفةُ على الجدران. 

 لحظتها، قلتُ مع نفسى، فيما يشبهُ المناجاة الجوانيّة: «آخْ، كمْ نحنُ شنيعونَ، شيمتُنا الدمَامةُ الباطنيّة، حينما نُبدِّلُ جوهرنا الأصلىّ، صافىَّ السريرة،إلى بهلواناتٍ مُستحوذة، تستأثرُ بمصائرنا، فتُعيرنا أقنعتها المنحطَّة، ثمّ تُطلٌّ بشعوذاتها من دَخيلة أرواحنا الممسوخةِ إلى تاريخٍ ذاتىٍّللقُبْحِ ». 

واصلتُ تعقّبى الحثيث للأرنب الأبيض، وهو يبحثُ عن رقم صورتى الخاصّة، وعلى ما يبدو، لمَّا اقتربنا من مكان تواجد أيقونتى الأصليّة، طفقت تتجلَّى لي، بلا هوادةٍ على الجدران، أشرطةٌ بالأبيض والأسود لذكرياتِ حياتى من الطفولة إلى الآن.. نعم، من فَتَاءِ العُمر إلى هاته البرهة تحديدا، حيث كنتُ أتابعُ، فى هذه الأثناء بالضبط، انثيالَ حياتى بأجمعها واندلاقَها عليَّ، مثلَ مَنْ أفرغَ على نَظَرِى عُلبةً ضخمة من التصاوير، دفعةً واحدة.

 بل أكثرَ من هذا، تلاحقتْ أمام رُؤيتى أشرطة بنفس اللّونين الأبيض والأسود، تتذكَّرُ ماضيًا لم يحدُث بعد، وهُوَ على الأرجح مقتطعٌ من معيشى القادم ومُستقبل أيامى.

التبسَ عليَّ الأمرُ حدّ الارتباك، ثمّ طفقت تُساورنى شكوكٌ قوية بأنّ الواقع، الذى جئتُ على التوغُّل داخلهُ، ليس حقيقيّا بالمرّة، بل، بالأحرى، هو واقعٌ أعادت صياغته آلةٌ حاذقة لإنتاج الوهم والخداع المَحبُوكينِ. 

  أوصلنى الأرنبُ الآليُّ إلى مستقرِّ سيمولاكر وجهى داخل المتحف، حيث شاهدتُ بهلوانيتى على صَوَابِهَا المُطْلَقِ. فكان البهلوانُ القميء الذى يسكن بقرارتى يُبادلنى النَّظرات، كما لو أنّهُ يُخبرنى بأنّنى مجرّدُ حُلُمٍ فاسدٍ من أحلامه التى تمَّ فَرْضُها عُنوةً على الوجود.. كما لو أنّهُ يُعلمنى بأنّنى مجرّد بهلوان، حلم على نحوٍ خاطئ، بأنّهُ وجهُ إنسانٍ، ومَاهُوَ بوجهِ إنسانٍ ..كما لو أنّهُ يُنبئنى بأنّنا قاطبةً مجرّد بهَالينَ تحلمُ ببعضها البعض داخل كَوْنٍ بَاطِلٍ. 

 استأنفتُ تقدُّمى إلى الأمام داخل الكهف المدلهمّ، حتّى أدركتُ منطقة بينيّة بين كهوف أخرى متشعِّبة الغِيرَانِ، كأنّها برزخٌ فاصلٌ بين عالم الموت ويومِ القيامة، فألفيتنى قُدام يافطة دُوّنت عليها عبارة «المَخْزَنُ الكونىّ للوجوه»، حيث كان ثمّة فنّان بورتريهات شفّاف الجسد، سَمْحُ المُحيّا، مثل حكيم هنديّ متيّقظِ البصيرةِ، يجلسُ إلى طاولة صغيرة، اصطفّفنا قدامها جميعنا على شكل طابور أفعوانيّ أو محيط مُتماوجٍ من الخلقِ. 

 كان الفنّانُ يتطلّعُ بإمعان إلى كلّ واحد منا، كما لو كان قطعةً نادرةً من البُورسولين، ثمّ يسمحُ لهُ بالدخول، أو يدعوهُ إلى العودةِ على أعقابه.

الداخلونَ، وأنَا كنتُ واحداً من بينهم، فئةٌ منهم كانت تتجوّلُ بين أرجاء المخزن، فينزعونَ وجوههم القديمة، ثمّ يرتدونَ وجوهاُ مستعملة.

أمّا الفئةُ الأخرى، ممن لم يجدوا وجوهاً مناسبة لأرواحهم، وأنَا كنتُ واحداً من زُمرتهم، كُنَا ننتظرُ داخل قاعات بحجم ملاعب ضخمة لكرة القدم، نترقّبُ أن ينتهىَّ الفنّان من شغله المضنى، كى يتفرّغَ ليرسمَ لنا وجوهاً جديدة.

 يشاعُ بأنّنا، منذ ذاك الحين، بقينا بوجوهٍ فارغةٍ، حَزَانَى حُزْناً شَديداً إلى درجة الجزع، لأنّ فنّان البورتريهات العظيم كان مُتعبا بلا انقطاع من عمليات الفرز، كما اتّخذَ قراراً حاسما أنْ لا فائدة من رسمِ المزيد من الوُجوه، التى لا جَدوى منها، ولا مَعنى لها.. أنْ لا فائدة من رسمِ المزيد من الوُجوه، التى لا يلزمُ أن تلتقى بأرواحها السابقة، حتّى لا يظلَّ العالمُ الآخر المؤقّتُ أسيرا داخل مرايا القدم والتكرار! 

 

بابٌ فى ذِكْرِ

 الرَجُلِ المُفتتن بلوحات فرنانْدو بُوتِيرو، وما حدثَ لهُ 

مع البَهلوانات السَبعة لورقِ التَغْلِيفِ

المَزْعَمُ الثالث

  «يزعمُ سيّدنا عبد الله بلعبّاس أنّ البهلوان آلةٌ هادرةٌ تشتغل بلا هَدَادٍ أو اِتِّئَادٍ، حتّى إذا سخنت، انفلتتْ أسلاكها خيوطا وخطوطا وأخلاطاً فى كلّ حدَب وصوب. تلك كناية عن الشخصيّة الهاربة المُشوّشة، التى يتوّعرُ الإمساك بتلابيبها المتناثرة، ويتعقّدُ القبضُ على أطيافها المُتشرّدة». 

  دلفتُ إلى أحد متاجر الديكور المرموقة بمدينة الدار البيضاء، من أجل شراء بعض أغراضى الشخصيّة، فإذا بى أعثرُ، بمحض الصدفة الخالصة، على بضاعة جديدة قِيلَ لى إنَّها وصلت لتوّها من الخارج، كانت عبارة عن ورقِ تغليفِ الجدران من الحجم الكبير، مُستلهمٍ من عوالمِ لوحات فرنانْدو بُوتِيرو ومنحوتاته. 

 تصفَّحتُ، بإمعان، مختلف الخيارات، التى تقترحها علىَّ القائمة المُصوَّرة للمُنتج، كما قرأتُ، بتعمُّق، ما رافقها من معلومات وصفيّة، فوقعَ اختيارى، بعد تردّدٍ طويل، على ورق تغليف طُبعت عليه، بجودة تقنيّة عاليّة، مجموعةٌ من نُسَخِ لوحاتِ البهلوانات المُقلَّدة، عددُها سبعُ بالتحديد، تلك التى سبقَ للفنّان الكولومبىّ المعروف أن عرضَ ما تيَّسر من أُصولها سنة 2009، بعاصمة الضَّباب لندن، بين رحاب معرضٍ تشكيليّ مُكرَّسٍ بالكامل لموضوعة السيرك.

  وصلتُ إلى مسكنى، ذاكَ الذى باتَ، أخيراً، خاليا وهادئا، بعد أن غابت عنه زوجتى المُتسلِّطة، عقب خصامٍ عنيف، سَعِدْتُ جدا أنّهُ طالَ أكثر من اللازم، ثمّ عكفتُ، بنشاط وهِمَّةٍ غير معهودين فى طِباعى، على إلصاق ورق التغليف، بواسطة الغِراء السَّاخن، على الجدار الواقعِ مُباشرة خلفَ السرير، فى غرفة نومى المُغِمَّةِ للنفس، على الأرجح، بسبب طلائها الرمادىّ، الذى ذكَّرنى دائما بحيطان المعتقلات والإصلاحيّات.

  وبعد انتهائى من شُغلى، أَهَّلَتْ البهلوانات السبعة على ناظرى صارخةَ الألوان، بدينةً مُكتنزة، فائضةَ الأعضاء، رفيعةَ الأيدى، قصيرةَ القَامات، تلتقِى عُيونها الغامضة المحايدة بعينىَّالسَاذجتين المُنشرحتين.

 وعقب مُرور عدّة أيام، افتتنتُ فيها أيَّما افتتان بمُعاينتها وملاحظة تفاصيلها الدقيقة، المُدَمِّرَةِ لقواعدِ زاوية النَّظر الأكاديميّة، والمَازِجَةِ فى توليفة جهنميّة مُتزامنة بين الكاريكاتير، والبُوب آرت، والكُوميكس، ومُلصقات الاعلانات، والجداريات المكسيكيّة، أخذتُ أشعر، شيئا فشيئا، وعلى نحو غريب، بتقلُّص قامتى، وانتفاخ جسدى، وتضخُّم أطرافى، واستدارةِ صدرى وبطنى وعجيزتى، فى مُقابل نُحول أصابع يدى، التى استحالت، قياساً إلى شهوانيّة مُكوّنات الجسم الأخرى، كالتشوُّه الخِلقىّ تمامًا. 

صارَ وجهى، أمام مرآة الحمام، مُمتلئاً صقيلاً، يشعُّ بالبريق، وغدا حجمى مُبالغا فيه، منحرفا فى شكله عن مقاييس الأشكال الآدميّة الطبيعيّة. 

 كادَ اللَّحمُ ينفجرُ من ثيابى المُمزَّقة مقطوعةِ الأزرار، التى لم تعد تسعُنى، فامتنعتُ عن الخروج إلى الشارع، أو الذهاب إلى العمل، أو الالتقاء بأيٍّ كانَ من أفراد عائلتى المُقرَّبين، مثلما كنتُ دأبتُ خلال الآونة الأخيرة، على أملِ أن يُساعدنى وَاحِدٌ منهم، على الأخصّ من الناحيّة الماديّة، كى أتخلَّصَ نهائيّا من زوجتى النَاشِز. 

بل تفاقمَ هوسى بالتحديق دون توقُّف إلى البهلوانات السبعة، التى كانت تمارس علىَّ، بالتناوب، أو جميعُها دفعةً واحدة، سطوةً بصريّة، وتغيُّرا فى الوعى، وحالةً ذهنيّة إيحائيّة، أشبهَ ما تكونُ بالتنويم المغناطيسىّ الإبليسىّ.

 فقدتُ تركيزى وإرادتى تماماً، وأضحيتُ طَوْعَ غِشْيَةٍ طاغيّة، مسكُوناً مملُوكاً من قبل قوى لعينة نابعة من ظُلمات البهلوانات السبعة، التى استحوذت على كامل أنحاء كياني، ثمّ جعلتنى أحتذِى سُلوكاتها، وأقتدِى بتصرُّفاتها.

  فكنتُ أجدُنِى، أو بالأحرى، أتصوَّرنى بثياب حمراء، واقفاً بطريقة كوميديّة على يدٍ واحدة، وبفمى عصا عليها كُرة توازنٍ صغيرة.. أرَانى بثياب برتقاليّة أحملُ آلة مُوندولين من دون أوتار، أو بثياب خضراء أتظاهرُ بأنّنى أمتطى بهلوانين آخرين لهما رأسُ حمار.. أخَالُنِى بثياب صفراء أقتعدُ مصطبة عالية شبيهة بِقَالَبِ السُّكَّرِ المخروطيّ وعلى ملامحى كلّ كآبة الكون، أو بثياب زرقاء أنفخُ بُوق ترمبون كأنَّهُ لعبة أطفال مزيّفة.. أتخيّلُنِي بثياب بنفسجيّة أُلَاعِبُ قرداً وأصدحُ له بالنَّاى نظير مُسْخَةٍ مَلَكِىٍّ، أو بثياب زرقاء غامقة مُخطَّطة، كملابس المسجونين، أترنَّمُ بكَمَانٍ ضئيل أمام جوقة ساخرة من مروِّضى الحيوانات ولاعبى الكريّات وفنّانى الأراجيج...

  استطالَ قوسُ قزح توهُّماتى الزائغة المُشوَّشة مثل بكرة خيوط منفرطة، إلى درجة كنت أظنُّ معها أنّ البهلوانات السبعة تنزلُ متبخترةً متمايدةً من ورق التغليف، وهى ترتدى نظَّارات شمسيّة سوداء وأقنعة مستعارة لِغَرَاغِيلَ حجريّة بشعة من القرون الوسطى.. تنزلُ متمايلةً مُتمايسةً فى هيئةِ خفافيشِ مَيازيبٍ شبحيّةٍ من طِرَازِ ما كانَ يُنحتُ على أسطح العِمارة القُوطيّة.. تنزلُ مُختالةً مُتخفِّيّة فى سمت بهلوانات أخرى أبدعتها خيالات بابلو بيكاسو وتُولوز لوتريك وفرناند لِيجيه ومارك شاغال وبرنار بُوفْييه...

  بهلواناتٌ غفيرةٌ، مخبوءةٌ كما يجبُ بين طيّات أعماقى المُنشطرة، خرجتْ ربَّما من مجرى السُخط المتفجِّر بالدَرَكِ الأسفل من قلبى مثل عين ماءٍ جامحة، أو على الأغلب من قَرَارَةِ  بهلوانات فرناندو بوتيرو السبعة، ثمّ اندفعتْ فى الرقص داخل أرجاء شقّتى، كما لو أنَّهَا مدعُوةٌ إلى حفلة تنكّريّة. 

  وعلى غِرارها، ألفيتُنى أرقص بصحبتها رقصا مخبولا، حتّى ابتهجتُ وانتشيتُ، ثمّ انفصلت.

  استغرقتُ مليّا فى الرقص، فانتابنى شعور واثق بأنّنى اِتَّزنت. ولمّا تجاوزتُ كلَّ إحساس بالمتعة أو الألم أو الحَزَنِ، طفقتُ أرى، داخل ورق التغليف، أحداثاً جسيمةً فى أماكن بعيدة، وأسمعُ من عُمقه أصواتاً قصيّةً ذات صلةٍ بوقائعَ مجهولة.

 استرجعتُ من جوف ورق التغليف حيوات باطنيّة سابقة أو قادمة، وكشفتُ الحجاب عن أفكارها ومكنوناتها. صنعتُ فى غمرة الرقص الممسُوس نُسَخاً عديدة من جسمي، ثمّ طرتُ فى الهواء عالياً عالياً عالياً.. لأُصبحَ البهلوانَ الثامنَ داخل الجدار..

ولِيصيرَ الجدارُ امتداداً تامًّا لجسدى الجديد.

انقضى عام ونصف، وبعد أن أكَّدت التحقيقات البوليسيّة المعمَّقة، المُلابسات غير العاديّة لفرضيّة اختفائى المُبهم، عادت زوجتى الرديئةُ للاستقرار فى الشقّة. 

  فكانتْ تقفُ كلّ يوم أمَام ورقِ التغليف. ترنُو طويلاً إلى الجدار، وهىَ تضعُ على شفتيها ابتسامةً هازئةً، ثمّ تبدأُ فى مُداعبتى.

 

 

إقرأ أيضاً : عبد الرحيم يوسف يكتب .. وهم سريِع المفعول حلم سريع الزوال