خواطر الإمام الشعراوي .. حـقـن الـدمـاء

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يبدأ الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 217 من سورة البقرة حول قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

بقوله: والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لأنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن السؤال عن القتال فى الشهر الحرام، فما جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال استفزازي، والمسألة لها قصة. ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهراً، وقد جعل الله فيها أربعة أشهر حرم: شهر واحد فرد وهو رجب، وثلاثة سرد، هى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.

ومعنى أشهر حرم أى أن القتال محرم فيها. لقد علم الله كبرياء الخلق على الخلق، لذلك جعل الله لخلقه ساترا يحمى كبرياءهم، ومن هذه السنن التى سنها الله هى حرمة القتال فى الأشهر الحرم، والأماكن الحرم، فيجوز أن الحرب تضر المحارب، لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال، فيستمر فى الحرب مهما كان الثمن، فيأتى الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين: ارفعوا أيديكم فى هذه الشهور لأنى حرمت فيها القتال.

وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب، ولكن كبرياءهم يمنعهم من التراجع، وعندما يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع حفاظه على ماء الوجه. وكذلك جعل الله أماكن محرمة، يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن الله هو الذى حرمها، وتكون لهم ستاراً يحمى كبرياءهم. إذن فالحق سبحانه وتعالى الذى خلق الإنسان أراد أن يصون الإنسان حتى يحقن الدماء، فإذا ظل الناس ثلاثة أشهر بلا حرب، ثم شهراً آخر.

فنعموا فى هذه الفترة بالسلام والراحة والهدوء، فربما يألفون السلام، ولا يفكرون فى الحرب مرة أخرى، لكن لو استمرت الحرب بلا توقف لظل سعار الحرب فى نفوسهم، وهذه هى ميزة الأشهر الحرم. والأشهر الحرم حُرُمٌ فى الزمان والمكان؛ لأن الزمان والمكان هما ظرف الأحداث، فكل حدث يحتاج زمانا ومكانا. وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفى القتال يأخذ فرصة للهدوء.

إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم الإسلام من كفار قريش واليهود أن يثيروها.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض السرايا للاستطلاع، والسرية هى عدد محدود من المقاتلين، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل سرية على رأسها عبد الله بن جحش الأسدى ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل معه ثمانية أفراد، وجعله أميرا عليهم، وأعطاه كتابا وأمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين، وذلك حتى لا يعلم أحد أين تذهب السرية، وفى ذلك احتياط فى إخفاء الخبر.

فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد الله الكتاب وقرأه فإذا به: اذهب إلى (بطن نخلة) وهو مكان بين مكة والطائف واستطلع عير قريش، ولا تُكره أحدا ممن معك على أن يسير مرغما، بمعنى أن يكون لكل فرد فى السرية حرية الحركة، فمن يفضل عدم السير فله هذا الحق.

وبينما هم فى الطريق ضل بعير لسعد بن أبى وقاص وعقبة بن غَزْوان، وذهبا يبحثان عن البعير، وبقى ستة مقاتلين مع عبد الله، وذهب الستة إلى (بطن نخلة) فوجدوا (عمرو بن الحضرمي) ومعه ثلاثة على عير لقريش، فدخلوا معهم فى معركة، وكان هذا اليوم فى ظنهم هو آخر جمادى الآخرة، لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب أى أنه أحد أيام شهر حرام.

وقتل المسلمون ابن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله من أصحاب عبد الله ابن جحش، وأسروا اثنين ممن معه، وفر واحد، فلما حدث هذا، وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك فى أول رجب، عند ذلك اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب.

وثارت المسألة أخذا وردّاً بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا: إن محمداً يدعى أنه يحترم المقدسات ويحترم الأشهر الحرم، ومع ذلك قاتل فى الأشهر الحرم، وسفك دمنا، وأخذ أموالنا، وأسر الرجال.

فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغنائم والأسرى حتى يفصل الله فى القضية فنزل حكم السماء فى القضية بهذا القول الحكيم: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدنيا والآخرة وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».