تشظى العالم وتمزيقُه

للشاعر محمود خيرالله .. بشر بأحجام دقيقة يكبرون فى تجاعيدى

كتاب للشاعر محمود خيرالله
كتاب للشاعر محمود خيرالله

د. أسماء عطا 

كلنا يعيش داخل هذه الحياة ولكن السؤال يبقى عالقاً: هل نعيشها بمعناها الحقيقي؟ الحياة بكل ما  فيها من ألم وحزن يعرفها الإنسان وتنطبع على ملامحه بمرور الزمن عليها، ومن هنا كشفت تجاعيد الشاعر محمود خيرالله الحياة الحقيقية التى يعيشها الإنسان وإن خَفت الصوت وحُجبت الرؤية، فالتجاعيد فى ديوان “بشر بأحجام دقيقة يكبرون فى تجاعيدي” والصادر مؤخراً عن دار “منشورات المتوسط” ـ  صرخت أمام الجميع عارضةً عُريها أمام هذا الواقع، لأن الواقع بآلامه جردها من كل شىء، فها هى تُسقط آخر ورقة يتستر بها الواقع لتكشف سوءاته كاملة، فالحياة لا تختزل فى صوت أو رؤية، بل فى الملامح التى يتركها الزمن على وجوهنا، حتى تبدو علامات الوجه وانحناء الظهر وهذيان الإنسان وكل ذلك كأنها  تعكس أو بالأحرى تعبر عن موقف الإنسان الحقيقى من هذه الحياة،  لذا كشفت تلك التجاعيد حالة الفقد والمعاناة والألم الذى يعانيه  الشاعر فى هذا الواقع.

من هنا ظهرت من داخل تلك التجاعيد حقيقة هذا العالم؛ عبر تجسد عوالم أخرى غير المألوفة للنظر “فالكروان أصبح يسبّح ببطء” كأنه يعانى من مرض ما، والعصافير تصدر أزيزاً بجناحيها كأنها عصافير معدنية، والأعشاب تتحول عن خضرتها البهية لكى تذبل وتحضر باصفرارها، والقمر ليس كامل الاستدارة، ومن هنا تسيطر حالة من الظلام  على الشاعر،  فيحاول أن  يشد تلك التجاعيد بأمل بسيط فيقول: 

“إن كان ولابد /أن أكون شيئا/ بعد أن أموت،/أتمنى أن أصبحَ عصفوراً نيلياً صغيراً،/يبنى بيتاً هشّاً/فوق الشجرة العتيقة،/التى تُلقى برأسِها فى النهر، لأرى /ـ حتى وأنا أموت ـ /آخرَ قطرةِ ماء/أرسلتها العنايةُ الإلهية وهى تذوبُ /عائدةً/ إلى أمّها الأرض”.

الحياة الجديدة الخارجة من تجاعيد خير الله تشير إلى أمل الشاعر فى تخيل حياة مغايرة لما يعانيه من ألم وفقد وغربة؛ لذا يتكئ على اللغة الشعرية؛ ليخلق بها عوالم أخرى تشير إلى استباق لما يريده وهو حصوله على الحرية بأن يكون عصفوراً نيلياً؛ لكى يستطيع أن يتأمل الأشياء دون قيود، بعد أن غيرت مسارها المعهود كالكروان الذى يسبح ببطء والعصافير...إلخ،  ومن هنا تسيطر حالة من الظلام  على الشاعر، فكل تلك التحولات تشير إلى حركات أخرى للحياة، كما يقول  “حسام معروف” فى مقال عن الديوان بعنوان “التجريب الشعرى الميكروسكوبي”، مشيراً إلى حركات دقيقة تضيف المزيد من المعنى فى صناعة العالم وإكسابه المعنى الجديد الذى أصبح يعيشه، فالشاعر الحقيقي  بصفة عامة وشاعر قصيدة النثر بصفة خاصة “لا يتقبل رؤية العالم  من خلال اتساق زائف ولا ترى عينه العالم  فى سكونية خادعة مزعومة، بل تفجر تلك السكونية وتدمر اتساقه المزيف؛  لترى العالم فى تشظيه  وصراعاته  وتعقيداته،  وبذلك  لا يكون الشعر عظيماً إلا إذا  لمحنا وراءه رؤيا العالم”، خاصة بعد أن أدرك  الشاعر عملية التآمر عليه  من قبل الواقع المحيط،  وأنه يعيش حالة من العدمية  والسوداوية  نتجت من خلال عزلته  وشعوره بالاغتراب عن كل شىء (الطبيعة –المجتمع  - الذات نفسها)؛ لذا تغيرت نظرته للوجود الذى فقد جماله و دوره الفعال فيقول: 

النهاياتُ صارت واضحة 

كيماماتٍ تنامُ نهاراتٍ كاملة

مِسكينة تعالَج من الأرَق، 

الورودُ باهتة

غادرت الأضرحة لتوها

كى تخدع العشاقَ “المُلتصقين” فى الحدائق.

حاول الشاعر خلق عالم خاص مغلق  مقتصر على الذات فقط،   فالأفق الذى تعيش فيه فقد حيويته وجماله؛ لذا شعرت بحالة من الاغتراب من جراء  الأيديولوجيات المختلفة التى تحيط بها، فالذات الشاعرة  وجدت أن الخيال التقليدى لا يغذى تجربتها، لذا  اتجهت إلى ما فوق الواقع ومزجت بين الخيال والحلم والواقع عبر بناء “سريالي” غرائبى لتصنع نصاً ذا  تشكيل فنى ساحر،  يصحبنا معه إلى عالم آخر ناتج من التركيب اللغوى الفريد فى جملة (علقها  الحنين فى ذيل القمر)، فيقول : 

 هذه ليستْ نجمةً

عالقةً فى سماء الله المظلمة،

هذه دمعة فضية

علقها الحنينُ 

فى ذيلِ القمر.

النجمة داخل تجاعيد خيرالله تغادر ضوءها ونورها لتتحول إلى دمعة فضية لامعة، ومن هنا صفة اللمعان لا تغادر النجمة فى وضعها الطبيعي، أو الدمعة التى تحولت عنها  فاللمعان  الفضى فى الاثنتين؛  ولكن فى الدموع يكشف الظهور القوى لها (الحزن) وكأنها حالة مسيطرة تماماً على الواقع، ومن هنا تخفى النجمة الحقيقية بلمعانها الصافي  البراق المبهج؛ لتحل محلها الدمعة، ولم يقف الشاعر عند هذا فقط، بل يقدم  التفاصيل من خلال آلية السرد التى تساعده  على البوح لكشف بعض الحقائق المتوارثة عن بعض الأشياء؛ كالحب مثلاً ليصل إلى معنى آخر غير المعتاد لهذه المعتقدات؛ لذا تتحرك الصورة نحو الحوارية من خلال وجود شخص يحدثه الشاعر؛ ليقوض كل ما هو معروف عن الحب:

الحبُ ليس طالباً جامعياً 

الحبُ ليس “بلوزة” قصيرةً، 

(إلى أن يصل إلى)

الحبُ ليس “كلباً من الجحيم”

يا “تشارلز بوكوفسكي” 

فيبتعد الحب عن كل اللحظات العابرة  ليجد له معنى أعظم من ذلك،  وعندما تتعدد أشكال الحب بهذه الطريقة يتلاشى معناه داخل الكون،  وتتشتت الذات  داخل هذا الواقع، فالحب يمنح البهجة  للوجود  وأين  هو داخل الواقع المعاصر؟! وحالة الإنسان أصبحت هشة:

 قريباً

سوف يحملنا الهواء 

ـ مثل حفنة من الغبار ـ 

إلى بعيد. ...إلى قوله:

لا أحب أن أكون من هؤلاء 

الذين يملكون البيوت،

بينما تلمع المفاتيح 

ـ كالكلاب الوفيّة ـ

فى أياديهم.

أنا 

ـ والحمد لله ـ

من هذه الطيورِ الشقية،

التى تحملُ أعشاشَها

ـ  بين فكّيها ـ

وتمضي.

 يقدم خيرالله العالم فى أقصى حالات تشظيَه ووحدته وتمزقه؛ فيحاول بتجاعيده أن يجرد الأشياء من وضعها الثابت ويفككها مانحا لها دورا آخر مغايرا لما هى عليه، عبر التخييل  والتجريد  والتفكيك والتفسير، ليقدمها فى قالب جديد لأن الصورة المتخيلة لتلك الأشياء هى حياة آخرى ناتجة من وضعه الجديد، فيجعل نفسه من فئة الطيور المكافحة المنطلقة التى لا تقف عند غصن بعينه، بل تجول هنا وهناك. وعندما يتمنى الشاعر ذلك فهو يشير إلى حالة من الحزن، الرفض لهذا الواقع  بالإضافة إلى اشارته إلى الحجم الطبيعى للإنسان داخل هذا الواقع فتكشفه التجاعيد بأنه (قشة فى مهب الريح ) فالهواء يحملنا معه  كالغبار وغيره وهو يشير إلى انعدام قيمة الإنسان داخل  الواقع. فيقول: 

هذه القشّة

الخارجة من قلبِ هذا العصفور،

ـ لا من فمه ـ

غادرتْ مستقبلها فجأةً

وسَقَطتْ فى يدي،

هذه القشَّة

كبرت الآن

وصارت بيتاً تحنّ إليه الذكريات.

الشاعر يوقفنا أمام بناء مكتمل  فنيًا وموضوعيًا؛  فيصنع البلاغة  من خلال  تكبير الأشياء؛  لتتوالد  منها أشياء أخرى ناتجة من تلك الصغائر مكونة علاقات جديدة، كما حدث مع القشة التى جاءت من فم العصفور، حياة صغرى؛ لتصير فى يد الإنسان رحلة كاملة من المشاعر، يسترجع من خلالها المرء ذكرياته وآلامه، وحتى الجمال لا يغيب عن المشهد المتخيل. عائدا إلى ذكرياته عبر الفلاش باك للرجوع بالزمن وتأمله؛ لتعديل الزمن القادم، فيصبح النص عبارة عن شريط سينمائى مركب، لا يمتزج بالواقع إلا ليفككه ويعيد تركيبه بمزاج لغة لا تتقيد بأى عادات أو أعراف،  فينسج من الكائنات الدقيقة حياة أخرى متجددة من خلال تفكيك هذا السكون الذى تراه  العين المجردة؛ ليعرض الحياة من خلال تشكلات التجاعيد المتعرجة والمتداخلة وكأنها تضاريس لهذا الواقع، فيكشف ما ظهر على سطحها  من كائنات مختلفة معبرًا عنها  بالكتابة التلقائية التى تداعت من لا وعيه، فينقل  لنا حياة “النمل” تلك الحشرة الصغيرة  التى تُعلم الإنسان الحكمة والوجود الحقيقى الذى تنشده، وكأن فعل هذه الكائنات خلود أبدى من خلال تجدد سلوكها داخل الحياة:

“ لأنّ أمى كانت تعتبره واحداً من أبنائها، تعامله بوصفه جزءاً من مكوِّنات البيت، له أيامُه وحكاياته، وأنه ـ حتى النمل ـ يستحقُ أيضاً أن يعيش، وأن يخوض ـ ولو تحت البلاط ـ طريقته فى صُنع الحياة، كنتُ أفهم أنها تتركنا نراقب النملَ لتعلمنا كيف نزرع الأمل”.

 إن الشاعر فى هذا النص يشير إلى حكمة نستخلصها من خلال النمل باعتباره أصغر وأوهن الكائنات، ولكنه  يمارس دوره ويعيش حياته، ومن هنا يقدم خير الله ملمحا تربويا من خلال الممارسة والمشاهدة والاستنباط من تلك الحياة الصغيرة لنتمكن من صنع حياة كبيرة  بالإضافة إلى أن الشاعر لا يترك الأشياء معلقة بل يفصلها ويسميها ويوثقها وهى سمة لدى خيرالله  أتيحت له من خلال آلية السرد وهذه الآلية أتاحت للشاعر أن يقص بعض الحكايات بلغة شعرية بعيدة عن التقريرية  ليوسع أفق المتلقى ناحية المشاهد التى يقصها  فيقول :

تلك المدينة التى تسكُنها الأشجار.

إذا سَطعت شَمسُ هذه المدينة،

انطفأتْ السماءُ 

ـ فجأةً ــ

كإشارةٍ إلهيَّةٍ،

إلى أن الغيومَ

ـ أعظم الغيومِ ـ

تمُرّ من هنا.

النوافذ،

والزهور،

ـ حتى الأُصص بألوانها المُشرقة ـ

كانت مُتطابقة،

نسخٌ مكررة 

من الأبواب والأُكَر، 

مُتناسخات من البالكونات العريضة،

حتى الشوارع تتوالد من تَلقاء نفسِها

وحين تميلُ قليلاً،

تكون فى طريقك إلى

صفوفٍ جديدة من تلك الأشجار.

 

العابرون ـ هنا ـ قليلون،

يا لحَسرة الشوارع التى ينقُصُها الناس،

يا لبؤس نداءات الباعة

حين تأتيكَ

ـ شاحبةً ـ

من أعماقِ الذاكرة.

إن تفاصيل الحياة اليومية سمة من سمات قصيدة النثر فى تركيزها على اليومى والهامشى لتقوض الأدوار الرئيسية لتلك التفاصيل وتمنحها أدوارًا أخرى لتشعرنا بحركة الكون المستمرة، ولكن خير الله يركز على بؤس تلك التفاصيل والجمادات التى أصبحت روتينًا يؤدى تلقائيا دون تدخل وكأنه يوحى بأن الإنسان فقد آليته وقدرته على إدراك الأشياء لأنها غيرت آلياتها الأساسية، وهو ما سرده فى ذلك النص فألفاظ خيرالله تعطى مسارا آخر للمعنى من خلال  تجاوز الدلالة  الظاهرة له  إلى معنى داخلى عميق  يتجاوز الصورة الذهنية إلى الصورة البصرية، فلم يعد  الشاعر المعاصر  مرتبطًا بالتصور الذهنى عن العالم، وإنما العالم هو ما تحدده الصورة البصرية للقارئ، ومن هنا انتقلت المعانى من كونها معروفة أو محتملة نصل إليها بالحدس، إلى كونها لحظات بصرية تتشكل  داخل النص مما يؤدى إلى تنوع شفرات الاتصال فى الشعر المعاصر، ومن هنا يتكئ خير الله على المشهد البصرى مستلهما تقنية الفن السينمائى فى استعارته الكاميرا ليجسد اللقطات التى تتصدر الكادر داخل المشهد فيقول:  

لقد هَدَمَت الحفاراتُ حكايتَنا

لدرجة أن الحديقة التى كنا نجولُ فيها 

ـ دائماً ـ 

مُتلاصقيْن

حيث أكلنا كل كلام العشاق

ـ ذات يوم ـ

ورسمنا على إحدى الأشجار 

بلغة أخرى

حرفيْنا،

هذه الحديقة

ـ يا حبيبتى 

صارت الآن كوماً من الحَصى.

لم يكتفِ خيرالله بهذا، بل لجأ إلى الفلاش باك؛ ليجسد نوستالجيا الحنين للماضي، ولكن ثمة انحرافاً فى استخدامه لتقنية الفلاش، فأغلب الشعراء يستخدم تلك التقنية ليتجاوز بها مرحلة الحاضر ويستمد الضوء من الماضي، ولكن خير الله يشركنا  معه فى الحاضر  السوداوى الذى قتل الماضى والحاضر، ومن هنا لم يضئ  الماضى الحاضر  ومن هنا ينهى حركة الحياة ويطالب بشراء المقبرة، ليشير إلى حالة من الموت والموات والدفن والاختفاء ليدفن  فيها  (الهزائم – الثورات – القبلات ..إلخ  )، وتأتى اللازمة الشعرية  التى يكرر الشاعر فيها الجملة الشعرية (تعالوا نشترى مقبرة)، فتعدد المقابر يؤكد تعدد الخيبات والهزائم:

. تعالوا نشترى مَقبرةً واسعةً 

لكى ندفنَ فيها هزائمَنا

الثوراتِ التى تركناها مُعلقة 

على الجدران مع الأموات

فجفَّفها الحنينُ إلى الثمار،

القبلاتِ التى اشتهيناها

لكننا لم نتذوَّق طعمها أبداً،

الغاباتِ التى حلمنا بها لكننا لم نزرْها.

 

تعالوا نشترى مقبرةً

لندفنَ فيها البيوتَ الثمينةَ

التى لم نستأجِرها،

والقطاراتِ السريعة التى لم نستقلّها،

السفنَ التى لم نعبرْ ـ على مَتنِها ـ أيّ مُحيط،

والغرفَ الفاخرةَ التى لن نسكن فيها،

والبالكوناتِ 

خصوصاَ تلك التى لم نعرِف طلتها أبداً

البالكوناتِ الواسعة جداً

من طول بقائها أمام البحر.

تمثل تقنية القص التى استعارتها القصيدة المعاصرة من الفنون الأخرى بنية مهمة داخل النص فتمنح الشاعر مساحة من البوح والحركة داخل النص ليتمكن من سرد الحكايات وتشكيل المشهد بآلية فنية مدهشة، وهذا ما جسده فى هذا النص عن تلك المدينة ليهئ المتلقى لسماع الحكاية التى تجسد اتساع المسافة بين السعادة واليأس، وتشير إلى التشظى الحادث للذات داخل تلك المدينة.  

يأتى العشاقُ عادةً

إلى هذهِ المدينة،

فى أزياء الزفاف،

يأتون لكى يلتقطوا الصورَ،

لابتساماتِهم

بين الأشجار،

ولكى تبقى وجوههم 

ـ هناك ـ

مُعلقةً على جدرانِ الذاكرة،

ثمة سمة فنية عند خير الله يلفت نظرنا إليها وهى (صناعة الجمال الموازي) وهو موازاة التجاعيد لعدسة المجهر التى تكشف مسار  الأشياء وحالتها ومن هنا  تقوم بفحصها داخليا لتجسيد حركة الآفات  المدمرة داخليا، ومن هنا يخترق القشرة للوصول إلى الأعماق وكأنه  طبيب يقوم بتشخيص حالته، كما فى حالة النهر التى يقول فيها :

أما النهر فقد أصبحَ مسكيناً جداً،

النهرُ جُن جنونه

وصار يتدفقُ عائداً إلى أمّهِ 

“النبع”،

النهرُ جفّت ماؤه 

ـ كما ترون ـ

وقاعُه صار مَكشوفاً

مثل عجوزٍ تتعرّى

لتلطّخ عُريها بالشمس

الشاعر هنا يتوسل بالتشبيه؛ ليتجاوز الصورة الظاهرة،  خاصة أنه لا توجد علاقة منطقية بين النهر والعجوز، ولكن التركيب الغرائبى لها يقيم علاقات عديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي، ومن هنا نتساءل ونبحث عن  كنه الأشياء وننظر فى كل التفاسير التى تشخص تلك الحالات لنتأمل العلاقات الجديدة لها، ومن هنا يعلو الشاعر فوق الواقع  ليأتى بالمذهل وغير المتوقع  متخلصًا  من نظام المكان والزمان وغيره . فيقول فى نص “الموتُ كما فى شَريطٍ سينمائيّ تالف”:

كُل مرة

يمرّ فيها الموتُ 

بالقربِ منّي

ـ هذه الأيام ـ

لم أعُد أشعر بالخوف،

لقد فَقَد الموتُ جلاله 

وأصبح مُضحكاً فى بعضِ الأحيان،

تفتحُ النافذةَ صباحاً

لتشمّ رائحةَ العالم،

فيندلقُ الموتُ كله

فجأةً

فى وجهك.

تفتحُ النافذةَ

فتجدُ صلاةَ الجنازة مُقامَة 

ـ تقريباً ـ فى حديقةِ المنزل،

وترى العصافير على الأشجار

خاشعةً تماماً كأنَّها تُصلي.

الشاعر هنا يعطل آلية هيبة الموت التى اعتدناها، ربما لكثرة أعداد الموتى ظاهرياً، ولتجسيد حالة الفراق والوحدة داخليا، ففراق الإنسان هو قضية الشاعر، وليس الموت بمعناه المعتاد، ويستكمل الشاعر مشهد الموت بمشاركة العصافير وخشوعها ليشير إلى أن ألم الواقع أصابها فأصبحت كالإنسان مقيدة ومحاصرة، وهذا هو حال الواقع المعيش. 

 

اقرأ أيضا : د. محمد عبد القادر :ضحكت تانى: حين يضىء الموت ظلام الزوايا المعتمة