«ضحكت تانى» هى الرواية الثانية للكاتب الأردنى موسى برهومة، بعد روايته الأولى “حتى مطلع الشغف” التى صدرت طبعتها الثانية فى بيروت مؤخراً، الرواية الأولى صوّرت بنجاح كبير أزمة امرأة فى منتصف العمر، وها هى الرواية الثانية تصدر لترسم تجربة الانتظار على حافة الموت لوائل عبد الكريم، الذى يمثّل عملياً قناعاً لكاتب الرواية الذى خاض التجربة ذاتها فى أحد مستشفيات دبى قبل عدة سنوات.
ومن هذا المنطلق فالرواية (الصادرة ٢٠٢٢ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت) تصوير لسيرة ذاتية جزئية مرضية وقف فيها “وائل” على عتبة الموت يصارع قلباً يضنّ عليه بالنَفَس الطبيعى، وجرثومة قاومت كلّ أنواع المضادات الحيوية لتستقر فى البنكرياس.
اقرأ ايضاً |إيفان كليما: الأدب والذاكرة
وفى هذه الرواية “السيريّة” الجزئية، يندمج الذاتى- الإنسانى بالنفسى بالفلسفى بالواقع المحيط ليقدم تجربة وجودية مؤلمة فى مضاعفاتها وانعكاساتها ومفاعيلها لتنتهى إلى شفاء الجسد وتحوّلات فى الرؤى والعلاقات، من دون أن تهتز المبادئ الكبرى التى أرسى عليها “وائل” فلسفته فى الحياة والمجتمع.
من هنا، ترمى هذه القراءة للرواية إلى رصد مفاعيل الوقوف على حافة الموت فى البنية العقلية- النفسية للمريض المثقف، أستاذ الفلسفة، وفى المنظومة القيمية التى يمكن أن تتأثر لأسباب مختلفة.
الفكرة الرئيسة المُستخلَصة من هذه القراءة أنّ الوقوف على شفا حفرة من الموت يوفر فرصة للتأمل والمراجعة واكتشاف الذات والآخرين، وتغيير آراء، وتبديل رؤى، مما يؤدى بدوره إلى اتساع المساحة المكشوفة فى النفس الإنسانية، ومثالها “وائل عبد الكريم”، وأداة القياس التى اعتمدتُها فى رصد هذه الوضعية نظرية، أو نموذج يُعرف فى علم النفس بـ”نافذة جو- هاري” ( Jo-Harry Window ) ، وملخصها أنّ الشخصية الإنسانية مكوّنة مما يشبه نافذة بأربع طاقات:
الأولى: مفتوحة للشخص ذاته وللآخرين (أى معروفة للجميع).
الثانية: مخفيّة يعرفها الشخص ولا يعرفها الآخرون.
الثالثة: عمياء يعرفها الآخرون ولا يعرفها الشخص.
الرابعة: مجهولة للشخص ذاته وللآخرين أيضاً.
ما علاقة ذلك بحالة المريض المثقف الفيلسوف الإعلامى وَفق السردية الموسومة بـ”ضحكت تانى”؟
وفق النموذج- الأداة المنتقى لقياس درجة الانكشاف (نافذة جو- هاري) تختلف مساحات كل طاقة من طاقات النافذة من شخص إلى آخر، لكنّ الفكرة هنا أنّ الوقوف على عتبات الموت توسّع من المساحات المكشوفة، سواء للشخص ذاته أو للآخرين، والسبب أنّ المريض المهدّد بالرحيل ليس لديه ما يخسره طالما أنّ احتمالية فقده الحياة ممكنة فى أية لحظة، ويكون فى حالة استعداد لتأمل كل شيء ذى صلة بحياته وعلاقاته ومبادئه، بل ومستقبله بالطبع. وهى حالة أشبه بغياب الرقيب أو الرقباء إن تعدّدوا، مما يبدّد الكوى المظلمة، ويوسّع الدائرة المضيئة للشخص وللآخرين.
ارتباطاً بالرواية، سيزول حرَج العرى الذى شعر به المريض فى أول الأمر بوجود الأطباء والممرضين والممرضات وهو مسجّى أمامهم كما ولدته أمه. ولعل تقبّله لحالة عريه الجسدي الخارجى يسّر عليه القيام بعملية كشف أو تعرٍ داخلى طالت الكوى المعتمة الجاثمة فى زوايا البناء النفسى الذى لا يرى الآخرون إلا بعض انعكاساته.
لعل أبرز ترجمة مباشرة لتعرية الذات من داخلها ما قاله المريض عن نفسه:
“لا يعجبنى العجب ولا الصيام فى رجب. ويبلغ النزق بى مرّات حداً لا تُعجب فيه نفسى نفسَها، ويمكن وصفى فى أحيان كثيرة بأننى شخص لا يُطاق، وأننى متجبّر وأرعن ومتطرف وصلف ومزاجي...”.
هذه الاعترافات التى يواجه بها المريض أعماقه النفسية، وينقل بصورة مباشرة ما يقوله عنه آخرون يعرفونه، هى حالة تترجم تجربة المراجعة والتأمل والتقييم المباشر والصادق للذات فى حضرة موت ينتظر خلف الباب. إنه يمارس تعرية الذات بعد أن زال عنه حرج التعرية الجسدية الخارجية، مما يسّر عليه الغوص عميقاً فى خبايا النفس.
من جانب آخر، سهّلت عليه تجربة مواجهة الموت الاعتراف بسلسلة من سلاسل الخوف:
الخوف من فقدان الذاكرة وفقدان الزمن، الخوف من الهزيمة والفراغ والغيبوبة، والخوف على الابن الأصغر، ناهيك عن خوف من تقطّع النفَس وانقطاعه، والخوف من قلة النوم.
ومهما قال المريض- مريضنا، أو أى مريض آخر- أنه لا يخشى الموت، فإنّ من حقنا أن نلقى ظلالاً سميكة من الشك حول صدق المقولة، ذلك أنّ الخوف من الموت حالة طبيعية، والموت نقيض للحياة فى نهاية المطاف، وما سلسلة إنكار المخاوف من الموت إلا تأكيد للخوف منه.
تتجلى حالة الكشف والانكشاف والتأمل والمراجعة والتغيير والتبديل فى مرحلة الشفاء من المرض. والكشف هنا لا يعنى بالضرورة تحوّلاً إيجابياً بالمعنى العام للكشف والانفتاح، بل يعنى تحوّلات الشخص والشخصية فى أفكار وقيم واتجاهات وسلوكيات كان يراها جزءاً من بنائه النفسى والأخلاقي، ثم جاءت تجربة عتبات الموت لتجعله يُعيد النظر فى منظومات قيمية وسلوكية أدمنها فى زمن مضى. وطالما أنه بلغ من درجة الصدق والأمانة مع الذات أنْ راح يخبر قرّاءه عما يختلج فى نفسه من تحولات، فهذا يعنى أنّ مساحة الانفتاح فى وعيه لذاته، وفى وعى الآخرين له قد اتسعت بصورة ملحوظة.
هاهو يقول إنه “عازم على اصطفاء الأوقات والأمكنة والأصدقاء. لا يغرينى أن أكون محاطاً بعشرات الأصدقاء الذين لا يصلح جُلّهم لا للعِير ولا للنفير. يكفينى من هؤلاء حفنة لا تتسرب كالرمل من بين الأصابع ...”.
ولذلك سنراه فى موقع آخر يصنّف علاقاته مع المقرّبين إلى ثلاثة مستويات: المعارف والأصحاب والأصدقاء.
إنْ كنت تعرف “وائل عبد الكريم” قبل صدور روايته “ضحكت تاني” فقد كنت تعرفه إلى حد. أما بعد أن تقرأ هذه الرواية المؤلمة- المشوّقة، فسوف تتعمق معرفتك به، لكن ستتأكد أنّ إيمانه العميق بالأشياء الفلسفية العميقة ثابت لا يتغير، مهما كان الموت مرعباً و”الوسطى” خير دليل على ذلك.