«زهرة برية».. قصة قصيرة للكاتبة آمنة علوي

قصة قصيرة للكاتبة آمنة علوي
قصة قصيرة للكاتبة آمنة علوي

كانت تذبل وحيدة لا يشعر بوجودها أي مخلوق، وحيدة وسط واحة في قلب الصحراء المُقفرة، عجباً!

كيف أتت إلى هنا ونبتت في هذا المناخ القاسي ؟!

لا توجد إجابة سوى إنها قدرة الله يخلق ما يشاء أنى شاء وكيفما شاء ويذلل لخلقه أسباب العيش ،

سبحانه جل في علاه

تمر الأيام عليها منذ تفتحها للحياة ، وهى تنتظر رؤية أي كائن يغير المنظر الذي اعتادته ، فلم يكن بقربها سوى النخلة العالية تظلها بظلها، وإمامها مجرى مائي جاف، حتى أنها لرؤيته جافاً زاد اشتياقها لرؤية المطر ولكن لا أمل فالمنظر ثابت ولا أثر لأصغر سحابة، السماء صافية بشكل عجيب، والأرض جافة والطقس حار للغاية،

 " كيف تحملت هذا الحال ونمت ولازالت تنمو "

هكذا فكرت في وحدتها ، ولم تهتم بالإجابة فلن يرد عليها أحد، استسلمت للصمت أكثر، هكذا تمر الساعات والأيام بين تساؤلات ولا إجابات ، إلا أطياف تقفز لذاكرتها ، وهذا البشرى القادم من المدينة حاملاً إياها كبذرة صغيرة مع الكثير من البذور ، وكيف سقطت من العبوه وثبتت ونبتت هاهنا،

لازالت تنتظر المطر أو أي كائن يلتهمها فتتخلص من الوحدة وتنتهي عذاباتها .

يا لوحدتها تلك الزهرة المسكينة، تعاني في صمت ، أوراق عمرها تتساقط الواحدة تلو الأخرى وهى مستسلمة لقرب النهاية، وفي عز استسلامها ليأسها ظهرت سحابة ممطرة في الأفق البعيد، تمطر مطراً غزيراً، ولكنها بعيدة، وأوراق الزهرة تتساقط والحياة تكاد تنطفئ ، ولكن رائحة المطر أحيت بها بعض الأمل بالحياة، مع قدوم المطر من بعيد رأت طائراً يطير بصعوبة ، ريشات جناحيه مبللة بالمياه، أشفقت عليه رغم ذبولها وضعفها، ولكنها حسدته على ارتواء جسده بالماء وتمنت لو طار فوقها وأسقط عليها قطرات قليلة من الماء، ولكنه أيضاً بعيد.

استسهلت العودة لاستسلامها وحزنها وانتظار مصيرها المحتوم، تمر عليها الدقائق كالدهور وهى الآن في الرمق الأخير، تسمع قطرات المطر تقترب ولكنها لم تبالي، ارتفع صوت المياه على الأرض وهى تجرف معها شتلات صغيرة من أماكن بعيدة ، سمعت أناتهم وهم يغرقون فأشفقت عليهم ولكن ليس بيدها شيء فهي على ربوه أعلى من الأرض قليلاً، وهى غارقة في إشفاقها عليهم والتفكر بحالها وهى تكاد تموت عطشاً واحدة واستسلاماً.

رق لحالها طائر جميل آتى مع المطر من بلد بعيد فهبط بقربها وكان يحمل الماء على ريشاته ألجميلة، اقترب منها رويداً رويداً ونفض ريشاته فوقها فبللها وروى التربة تحتها وحولها، فتسلل الماء إلى جذورها ورواها فشعرت بالحياة تدب من جديد بجذورها وساقها وأوراقها، وتنعشها من جديد ففتحت عيناها لتنظر حولها  فترى الطائر الجميل أمامها، كانت تتوقع أن يأكلها، لكنه فقط ينظر إليها نظرة حانية فتعجبت أشد العجب، ولكن كيف تتعجب من رحمة الله الذي يسخر خلقه لخلقه،

سألته: لماذا و..

قاطعها : هذه إرادة الله ساقني من بلد بعيد لألتقي بكِ هنا .

خجلت من نفسها ويأسها وقالت له : كيف أكافئك لإنقاذك حياتي وما بيدي شيء .

قال: فقط استمري بالحياة فهي جميلة رغم متاعبها وألمها أحياناً .

بكت من فرط انفعالها، وفي غمرة بكاءها بدأت تتوهج وتنبت بها أوراق صغيرة أكثر جمالاً مما تساقط عنها وأشد تلوناً ورِقة وحيوية، ثم فتحت عينيها تنظر حولها متعجبة حين رأت السماء بزرقتها صافية جميلة، والأرض الصفراء المُقفرة ازدانت بالخَضَار، زالت حرارة الجو وأصبح رقيقاً ، وكل شيء أصبح جميلاً،

والطائر الجميل اختار مكاناً قربها ليسكنه ويعتني بها ماذا تريد أكثر من ذلك، شعرت أنها تمتلك الدنيا بما فيها، وتمنت لو توقف الزمن في تلك اللحظة.

لكن، دوام الحال من المحال،

فقد حل الصيف سريعاً وآن أوان الهجرة، والطائر الجميل يستعد للرحيل، ودموعه تغرق وجهه حزناً على فراق زهرته البرية،

قال مودعاً إياها والحزن يعتصر قلبه: عزيزتي أتركك مفطور الفؤاد، ولكن أود عند عودتي أن أراكِ قوية جميلة كما أراك الآن .

نظرت إليه بعيون تغرقها الدموع متسائلة: هل يجب أن ترحل يا صديقي.

قال وهو يخفي حزنه لفراقها: أجل هذا أمر مُقَدر علىَّ، هجره وترحال دائم .

قالت : هلا أخذتني معك.

قال: هذا يقتلك يا صغيرتي.. لكن بقاؤك متماسكة حتى أعود إليكِ يسعدني أيما سعادة ويُحيى في قلبي أملاً في اللقاء من جديد.

قالت: إذاً اذهب صديقي مصحوباً بالسلامة.

نظر إليها طويلاً ثم فرد جناحيه ليبدأ رحلته قائلاً: أتركك صديقتي بخير آملاً في لقاء قريب .. فإلى الملتقى يا زهرتي الصغيرة.

هي: وداعاً يا صديقي وداعاً، فلن تراني مجدداً، وداعاً.

تمر الساعات وهى حزينة على الفراق بعد السعادة والأمان، والأمل المفقود، وعادت لاستسلامها وأحزانها وعطشها وذبولها، وهذه المرة تتساقط عنها أوراقها سريعاً، ولكن برغم استسلامها تذكرت ثبات المجرى المائي قربها وكيف أحاطه البشري الزائر للواحة بما يمنع تغييب الماء للرمال، يا للبشر رغم قسوتهم على الطبيعة وبعضهم البعض، إلا أنه على يدهم يجرى بعض النفع.

ونظرت لنفسها والنعم التي تشملها، ماء قريب يرويها ورعاية النخلة الحكيمة وظلها وأمل بعودة الطائر في القريب، فكيف تيأس وتستسلم؟ وكل هذا يدعوها للتفاؤل والاستمتاع بالحياة.