«با​ئع الكعك»​ قصة قصيرة للكاتب خليل الجيزاوي

الكاتب خليل الجيزاوي
الكاتب خليل الجيزاوي

في تمام السادسة ونصف صباحاً يخَرَجُ من البَيْتِ غَاضِباً، يَحملُ حقيبةَ المدرسةِ التي صنعها له خَيَّاطُ القرية من قماش (تيل نادية) التي بقيتُ بعد خياطة مريلة المدرسة، ويَلبسُ حذاءَ المَدرسةِ الذي اشتراه له والده من شركة باتا، يَجْري برجليه الصغيرتين وسنواته العشر، مشواره اليومي يَأخذُ منه سَاعةً كاملةً سَيْراً علي قدميه، والشتاءُ باردٌ جداً، خلال شهر طوبة، شهر البرد والرطوبة.

نعم لقد تأخر بالنوم هذا الصباح، بعد أن سهر حتى نصف الليل يكتبُ الواجبَ، ويُحضرُ درسَ القراءة حتى لا يغضبُ منه مُدرس الفصل الذي يُحبه لتفوقه، واختاره ليقرأ الأخبار بالإذاعة المدرسية أثناء طابور الصباح من الجريدة التي يشتريها الأستاذُ، قبل أن يَحضرَ لقريته قادماً من المدينة، راكباً دراجته كل صباح.

أَسْرَعَ هو في قفزاته السريعة والقصيرة المُتلاحقة، حتى انتهى من السَيرِ على شاطئ الترعة التي تَحتضنُ بيتهم بالعزبةِ الصَغيرةِ، والعزبةُ كُلّهَا خمسة بيوت، يعيشُ فيها أقاربُهُ فقط، وهو التلميذُ الوحيدُ الذي صَممَّ والده أن يذهبَ للمدرسةِ الابتدائيةِ من العزبةِ التي تَبعدُ مسافةَ ثلاثة كيلو متر عن القريةِ، يَحضنُهُ والده وهو يقولُ له: 

يا ولدي طريقُ العلم والمعرفة طويلٌ وشاقٌ؛ ولهذا يَحتاجُ للصبر وتَحملُ الصعاب.

وكان خمسةٌ من أقاربِهِ قد اختارُوا مساعدةَ الآباءِ بالعَملِ في فلاحة الأرض، وخرجوا من المدرسةِ بعد سَنةٍ وَاحِدةٍ، لصعوبة الوصول للمدرسة خاصةً في فَصْلِ الشِتَاءِ، والمَطرُ الشَديدُ الذي يَتركُ وراءه أكوام الطين التي تَسْتَمِرُ عدة أيام، وحده والده هو الذي شَجعه، وراحَ يَشرحُ له أهميةَ العلمِ والتَعليمِ والمَعْرفةِ، وكانت يدُ والده تربتُ كتفه، وتطبطبُ وتَحنُو عليه، يَهزُّ رأسَهُ وهو يَعِي كلام والده، ويَحفظه مثل آيات القرآن الكريم التي يَحفظها منذ سنوات في كُتّاب القريةِ والشيخ على نوفل، وها هو يكادُ أن يختمَ حفظ المصحف كاملا، لولا انشغاله في دروس المدرسة حتى عصر كل يَوْمٍ.

عندما بدأ السيرَ على أول طريق المصرف الصغير، تأكدَ أن ثلثيّ المسافة لا تزال أمامه، وعليه الآن أن يُسرعَ في خطواته أو يَجْرِي ليلحق الأستاذَ، قبل أن يُراجعَ مع التلاميذ مواد الإذاعة المدرسية، جَدَّ في السير؛ ليجد شبحاً يَسيرُ أمامه وسط شبورة الشتاء الصَباحية، ويَسْبقه بعدة خطوات، قفزَ سريعاً واقتربَ منه، ودققَ النظر إليه حتى تَعَرّفَ عليه. 

إنه عَمّ سَلامة بائع الكعك الذي يأتي من المدينة البعيدة، وهو يَحملُ صينية صاج كبيرة فوق رأسه، مليئة بالكعك والسميط والقرص أم عجوة، والقرص أم ملبن، كان عَمُّ سَلامة يُهرولُ بقدميه الحافيتين، وجلبابه المتسخ بهباب الفرن، والسمن والزيت اللذين يُضيفونهما على العجين في الفرن، يرفعُ عَمّ سَلامة جلبابه حتى منتصف ساقيه النحيلتين بحزام عريض يربُطُهُ بوسطه، يتدلي منه كيسُ قماشُ مُتسخاً، يضعُ فيه الفلوس التي يبيعُ بها ما يَحْمِلُهُ كل صَباحٍ.

يُهرولُ عَمّ سَلامة بالسير على طريق المصرف الصغير، حتى يلحق الأولاد والبنات، قبل أن يدقَ جرسُ طابور الصباح؛ ليبيع لهم ما يَحْمِلُهُ وهو سَاخنٌ، وما يتبقى من حِمْلِهِ، يَظلُ ينتظرُ أمام باب المدرسة حتى يدق جرس الفسحة بعد ثلاث ســاعات ونصف؛ ليبيعه للأولاد والبنات، وكان عَــمّ سَــلامة قد أحكم غطاء الصاج بأحد أجولة الدقيق النظيفة 

التي شَقّهَا من المنتصف؛ لتكون غطاءً لما يَحْمِلُهُ كل صَباحٍ، وكان هو يُهرولُ حتى يلحق بفريقِ الإذاعةِ المدرسيةِ.

في هذا اليوم حدثَهُ عَمّ سَلامة طوال الطريق عن أهمية المدرسة، وأنه يَسيرُ علي قدميه سبعة كيلو متر، من فرن المدينة إلى قريتهم؛ ولهذا حرصَ أن يذهبَ ابنه للمدرسةِ، حتى لا يعمل معه في الفرنِ، ويَخرجُ مثله من فرن المدينةِ بعد صلاة الفجر مُباشرةً، ويَحملُ هذا الحملُ الثقيلُ فوق رأسُه كل يَوْمٍ، ويمشي سبعة كيلو متر كل صَباحٍ على قدميه، وكانت لا توجد مواصلات بين القرى خلال تلك الفترة من عام 1970. 

يُتابعُ هو قدمَيّ عَمّ سَلامة الحافيتين وهو يَسْبِقُه، ثم يَسألُ نفسه:  كيف يَسيرُ عَمّ سَلامة علي قدميه سبعة كيلو متر؟

أي شقاء هذا؟ وهو الذي يَحْرَنُ كالفرس ويَغْضَبُ ويَحْزَنُ؛ لأنه يَسِيرُ ثلاثة كيلو متر كل صَباحٍ حتى يصل للمدرسة.

عندما وصلا معاً إلى باب المدرسة قبل موعد جرس المدرسةِ بوقتٍ كافٍ، قعدَ عَمّ سَلامة بالقرب من بَابِ المدرسةِ، وهو يمسحُ عرقَهُ الغزير بطرفِ جلبابِهِ، فتبينُ ساقيه النحيلتين، ثم راح يَكشفُ الغطاءَ عن نصف الصاج، فيبينُ الكعكُ وقرصُ الملبنِ والعَجوةِ، وتَجمعَ الأولادُ والبناتُ حوله للشِرَاءِ، ساعتها عزم عليه عَمّ سَلامة وناوله قُرْصَةً سَاخنةً بالمَلبنِ؛ لكنه رفضَهَا بشدةٍ وشكره، وهو يُهرولُ داخل المدرسة؛ ليلحق بالمُدرسِ الذي شَاهدَهُ يركنُ الدراجةَ بجوار مكتب مدير المدرسة، وسَمعَ الأستاذَ وهو يُنادِي على فراش المدرسة؛ ليفتح غُرفةَ النَاظرِ، ويُشغّلُ ميكرفون الإذاعةِ المدرسيةِ.

في صَباحِ اليوم الثاني، وَجَدَ عَمّ سَلامة يَعقدُ معه صَفقةً، عليه أن يشرحَ ويُعَلِّمَ عَمّ سَلامة ما تعلمه وحفظه في المدرسة أو كُتّاب الشيخ علي نوفل، من دروس القراءة أو حفظ السور القصيرة من القرآن الكريم طوال الطريق، وكل يوم.

فقال له في براءةٍ: طيب يا عَمّ سَلامة وعاوز تتعلم وأنت كبير ليه؟

رد عليه بصوت مخنوق قائلا: يا ولدي كل الآباء تُريدُ أن تكونَ كبيرةً في عيون أولادهم، وأنا لا أريدُ أن يَعرفَ ابني الصغير أننّي جاهلٌ لا أعرفُ القراءةَ والكتابةَ. 

طيب يا عَمّ سَلامة: عشان تتعلمُ لابد أن تقرأَ وتَكتبَ الواجبَ.

هَزَّ عَمّ سَلامة رأسَهُ وهو يقولُ: الآن عرفتُ أنك سَتُسَاعدني، وهل نسيتُ أنني أنتظرُ أمام باب المدرسة ثلاث ساعات ونصف حتى يخرج التلاميذُ بعد أن يَضربَ جرس الفسحة؟ خلال هذه الساعات يُمكنني كتابةَ الواجبِ والحفظِ أيضاً.

في اليوم الثالث بدأ معه الدرسَ الأولَ، راح يقرأُ له ما حفظَهُ من جدولِ الضَربِ، وعَمّ سَلامة يُرددُ وراءَهُ بِصَوْتٍ عَالٍ.

وفي الفسحة وجده وقد نقلَ في كراسةٍ يُخْفِيهَا بين طيّاتِ غطاء حمل الصاج أكثر من ثلاثة دروس من كتابِ القراءةِ، صحيح بالأول كان خُطُهُ رَدِيئاً جداً وغير مقروء، فقال له ضَاحِكاً: حَسِّنْ خطك شوية يا عَمّ سَلامة. 

وناوله عَمّ سَلامة قُرْصَةً بالملبن وأخرى بالعجوة، فرد عليه: لكن ليس معي ثمنهما!

أجابَهُ ضَاحِكاً: هذا حقك يا أستاذي، وهزَّ رأسَهُ مُبتسِماً مُؤكداً: نعم أنت الآن أستاذي ومُعلمي الصغير: كل يوم تُعلمني درساً جديداً، وتأخذ قرصتين الأولى بالملبن والثانية بالعجوة، هل نسيتَ يا أستاذي أننا عقدنا صفقةً وقرأنا الفاتحة؟!

وكان في كل يومٍ وطوال السير على المصرف الصغير، هذه المسافة تأخذُ ساعةً إلا ربع بالتمام، وكأنها حصة دراسية كاملة، يُحفظُ عَمّ سَلامة كل يوم إحدى سور القرآن الكريم، مثل سورة: التين والزيتون، أو عشر آيات من سورة تبارك، أو جدول خمسة أو سبعة من جدول الضرب، أو يَشرحُ له درس القراءة الذي شرحه الأستاذُ أمس في حصة المدرسة.

ويوماً بعد يوم، كان عَمّ سَلامة يَسيرُ بخطواتٍ سَريعةٍ في طريق تعلم مبادئ القراءة والكتابة.

 ويوماً بَعْدَ يومٍ كانت خطواتُ عَمّ سَلامة سريعةً نحو إجادة القراءة والكتابة، تماماً مثل خطواته السريعة على المصرف الصغير حتى يلحق الأولادَ والبنات، ويبيعُ لهم حمله الثقيل قبل أن يدقَ جرس طابور الصباح.

وخلال شهر واحد كان عَمّ سَلامة يكتبُ ويقرأُ وحده صفحةً كاملةً من كتاب القراءة بالصف الرابع الابتدائي.

ويوماً بَعْدَ يومٍ كانت تزيدُ حِصَتُهُ وأجرُهُ اليومي من قُرصِ وكعكِ عَمّ سَلامة، من اثنين إلى ثلاثة إلى خمسة كل يَوْمٍ.

وعندما عاد بعد الظهر ومعه ثلاث قُرص زيادة، سأله والده: من أين لك هذا؟

قَصَّ عليه حكايته مع عَمّ سَلامة، ودروس كل صَباحٍ، فضمه والده لحضنِهِ، وهو يُقبلُ وجهَهُ ورأسَهُ قائلا: ألم أقل لك أن مُستقبلا كبيراً يَنتظرُكَ؟! ولهذا صَمَمْتُ أن تذهبَ كَلَّ يَوْمٍ للمدرسةِ يا ولدي، رغم مطر ووحل فصل الشتاء.