كيف سيكون العالم بعد حرب غزة؟

أحد مظاهر الدمار التى أحدثتها الاعتداءات الإسرائيلية فى غزة
أحد مظاهر الدمار التى أحدثتها الاعتداءات الإسرائيلية فى غزة

ستكون لحرب غزة الأخيرة تأثيرات جيوسياسية واسعة النطاق.. كما يقول ستيفن وولت أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة هارفارد لمجلة «فورين بوليسى» الامريكية: «لا أعتقد أننا على شفا حرب عالمية ثالثة، ولكن حتى لو اقتصرت الحرب على غزة وانتهت قريبا، فستكون لها تداعيات كبيرة فى جميع أنحاء العالم».


وكى نرى هذه العواقب الأوسع نطاقا، فمن المهم أن نتذكر الحالة الجيوسياسية العامة قبل أن تشن حماس هجومها فى 7 أكتوبر، حيث كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى الناتو يشنون حربا بالوكالة ضد روسيا فى أوكرانيا، وكان هدفهم هو مساعدة أوكرانيا على طرد روسيا من الأراضى التى استولت عليها بعد فبراير 2022 وإضعاف روسيا، ولكن الحرب لا تسير على ما يرام.. وبدا أن ميزان القوة العسكرية يتحول تدريجيا نحو موسكو، وتلاشت الآمال فى أن تتمكن كييف من استعادة أراضيها المفقودة.
فى الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة تشن أيضًا حربًا اقتصادية ضد الصين، بهدف منع بكين من الوصول إلى موقع الريادة فى إنتاج أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعى، والحوسبة، وغيرها من مجالات التكنولوجيا الفائقة، وكانت إدارة بايدن تعتزم تركيز المزيد من الاهتمام على هذا التحدى.


 حذر المنتقدون من أن تجاهل القضية الفلسطينية وغض الطرف عن الإجراءات القاسية المتزايدة التى تتخذها إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية يهدد بانفجار فى نهاية المطاف. جاء يوم 7 أكتوبر، حيث قتل ألف إسرائيلى، وقتل أكثر من 14 الف شخص فى غزة، منهم 5850 طفل، بسبب القصف الإسرائيلى. هذه المأساة المستمرة جيوسياسيا سيكون لها نتائج على العالم وعلى السياسة الخارجية الامريكية:
أولًا، وضعت الحرب عقبة أمام جهود التطبيع السعودية الإسرائيلية التى تقودها الولايات المتحدة، فقد زادت العقبات التى تعترض التوصل لاتفاق وسوف تستمر فى التصاعد كلما ارتفع عدد الضحايا.


ثانيًا، سوف تتعارض الحرب مع الجهود الأمريكية الرامية إلى تقليل الاهتمام بالشرق الأوسط وتحويل المزيد من الاهتمام والجهد نحو شرق آسيا.
فالحرب الأخيرة فى الشرق الأوسط ليست أخبارا سارة لتايوان، أو اليابان، أو الفلبين، أو أى دولة أخرى تواجه ضغوطا متزايدة من جانب الصين. ومع نشر حاملتى طائرات الآن فى شرق البحر الأبيض المتوسط فإن القدرة على الاستجابة بفعالية فى حالة تدهور الأمور فى آسيا ستضعف حتمًا. هذا مع افتراض أن الحرب فى غزة لن تتوسع لتشمل لبنان أو إيران، الأمر الذى من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة وآخرين إلى وضع جديد وأكثر فتكًا.


ثالثًا، يشكل الصراع كارثة بالنسبة لأوكرانيا. حيث تهيمن حرب غزة على التغطية الصحفية فى العالم وتزيد من صعوبة حشد التأييد لحزمة المساعدات الأمريكية الجديدة لأوكرانيا. 


المشكلة أكبر من ذلك؛ فقد أصبح الصراع فى أوكرانيا حرب استنزاف طاحنة، ولم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إنتاج ما يكفى من الذخائر لتلبية احتياجات أوكرانيا، الأمر الذى أجبر واشنطن على اللجوء للمخزونات الموجودة فى كوريا الجنوبية وإسرائيل لإبقاء كييف فى القتال. والآن بعد أن أصبحت إسرائيل فى حالة حرب، فإنها سوف تحصل على بعض قذائف المدفعية أو غيرها من الأسلحة التى كانت ستذهب إلى أوكرانيا. ورغم ان الغزو الروسى لأوكرانيا كان سببا فى تعزيز الوحدة الأوروبية، فإن الحرب فى غزة كانت سببا فى إشعال الانقسامات الأوروبية من جديد، حيث تدعم بعض الدول إسرائيل بلا تحفظ، فى حين أبدت دول أخرى قدرا أعظم من التعاطف مع الفلسطينيين. وكلما طال أمد الحرب، اتسعت هذه التصدعات. 


وهذه أنباء سيئة للغرب، ولكنها فى الوقت نفسه أخبار طيبة لروسيا والصين. ومن وجهة نظرهم، فإن أى شيء يصرف انتباه الولايات المتحدة عن أوكرانيا أو شرق آسيا أمر مرغوب فيه؛ لأن الحرب تمنح موسكو وبكين حجة سهلة أخرى للنظام العالمى متعدد الأقطاب الذى طالما دافعتا عنه بدلا من نظام تقوده الولايات المتحدة. كل ما يحتاجون إليه هو أن يوضحوا للآخرين أن الولايات المتحدة كانت القوة العظمى الأساسية التى تدير الشرق الأوسط على مدى الثلاثين عاما الماضية، والنتائج هى حرب كارثية فى العراق، وقدرات نووية إيرانية كامنة، وظهور تنظيم الدولة، وكارثة إنسانية فى اليمن، وفوضى فى ليبيا، وفشل عملية أوسلو للسلام.

 وبالنظر إلى المستقبل، فإن التعاطف مع المحنة التى يعيشها الفلسطينيون فى بقية أنحاء العالم أكبر كثيرا من التعاطف فى الولايات المتحدة أو أوروبا وسيزيد هذا التعاطف كلما طال أمد الحرب وكلما زاد عدد القتلى من المدنيين الفلسطينيين، خاصة عندما تميل الحكومة الأمريكية وبعض السياسيين الأوروبيين البارزين بشدة إلى جانب واحد.  بعد انتهاء الحرب ستظل دول الجنوب العالمى تتبع مصالحها الخاصة وستظل تتعامل مع الولايات المتحدة وغيرها على الرغم من غضبها وانزعاجها من النفاق الغربي. ولكن هذا لن يجعل التعامل معهم أسهل، وعلينا أن نتوقع منهم ألا يعيروا إلا قدرا قليلا من الاهتمام لكل الثرثرة الغربية حول الأعراف والقوانين وحقوق الإنسان ولا نفاجأ إذا بدأ المزيد من الدول فى رؤية الصين كثقل موازن مفيد لواشنطن.