د. مراد عباس:عبد المعطى حجازى نموذجًا.. الأغراض القديمة فى الشعر الحديث

أحمد عبد المعطى حجازى
أحمد عبد المعطى حجازى

إن أصعب من يواجه الباحث أن يجد نقطة الانطلاق والتمثل فى شعر الشاعر، أو أن يعثر على الأفكار الملحة التى يمكن أن تشكل موضوعا للدراسة.

وبالنسبة لشاعر عظيم قد يجد الباحث عددا كبيرا من النقاط التى يمكن أن تكون فكرة ملحة، الشاعر العظيم ضارب فى اتجاهات الخليقة كلها، لأنه مشتبك مع الحياة بكل تفاصيلها وتفصيلاتها، كان يمكن أن أدرس المدينة فى شعر حجازي، وهو الشاعر الذى اختصم المدينة فى أول دواوينه «مدينة بلا قلب» وبلغ من شدة وفاء الباحثين لفكرة هذا الديوان أن أصبحت المدينة جزءا لا يتجزأ من الدراسات عن الشعر العربى الحديث، نجد ذلك عند أعلام النقاد من أمثال عز الدين إسماعيل وعبد القادر القط وغيرهما، فالمدينة تشكل المحور الأساس فى الديوان الأول حتى نجد أسماء المدن تحيط بقصائد الديوان من مثل «بغداد والموت» «أنا والمدينة» «سوريا والرياح» «رسالة إلى مدينة مجهولة» هذا كله فى الديوان الأول فقط.

>اقرأ أيضاً | د. زينب فرغلي: ‎حجازي.. الشاعر والمثقف

وحتى القصائد التى لا يظهر فى عنوانها اسم المدينة نجدها تشكل صرخة فى وجه المدينة تدينها وتمثل التناقض بين المدينة وزيفها والريف وطهره مثلما نجد فى «مقتل صبي» مثلا.

وكان يمكن أن أدرس الشعر السياسى والهم الوطنى فى شعره، وهو الذى كتب عددا من القصائد عن الزعيم عبد الناصر، كانت القصيدة الأولى فى «مدينة بلا قلب» وثانية فى ديوان «لم يبق إلا الاعتراف» وثالثة فى ديوان «مرثية للعمر الجميل» وكان يمكن أن أدرس تشكلات الصورة وتحولاتها فى هذه القصائد عبر أزمنة مختلفة، عند شاعر مولع بتأريخ القصيدة.

وكان يمكن أن أدرس الرفض فى شعر الشاعر وهو الذى كتب عن قصيدة «لا» وعن مواقفه المشرقة المنيرة التى تدعم التقدم، وتناهض الرجعية والانهزام، وهو الشاعر الذى كان يرى دائما «المجد للكلمة».

وكان يمكن أن أدرس الهم العام أو المؤثرات الأجنبية فى شعر الشاعر، وارتباطه بقضايا الإنسانية، التى نجدها فى «أوراس» أو «مرثية لأنطاكية» أو «تروبادور» أو «دماء لومومبا» أو «جرنيكا أو الساعة الخامسة» أو قصائده عن فيكتور هيجو وكارل ماركس.

يكفى أن أشير مثلا إلى ما تعنيه قصيدة «تروبادور» حيث تمثل الشاعر باعتباره شاعرا جوالا لكن هذا التروبادور لم يعد ذلك الشاعر الذى يتغنى على الحدود الأوربية بشعره بل أصبح مصريا أصيلا يتغنى بحب وطنه إلى الجحيم!.

الليل والنهار والحدائق الخضراء والبيوت

والأسواق والمرتبات والديون والجسور

والفنادق المخابيء المراحيض الجرائد الرسوم

إلى الجحيم!

اللغة المطاط والمضحك والمروض المصفق

المشخص المحترف الهاوى المناور المداور العظيم

إلى الجحيم!

إنى وضعتكم جميعا يا مواطنى سدوم

فى قاع صندوق وألقيت بكم إلى الجحيم.

أو حين نرى جرنيكا وقد تمثلت فى أشعار بابلو نيرودا ولوركا ولوحات بيكاسو، ونحن نعرف أن جرنيكا هذه قرية إسبانية صغيرة، اتفق فرانكو وهتلر على أن يجربا فيها بعض القنابل كى يعرفا قدرة هذه القنابل التدميرية، قبل استخدامها ضد قوات الحلفاء، وبالفعل ألقيت هذه القنابل على القرية لتكون شاهدا على قدرة هذه القنابل على التدمير، وشاهدا أيضا على قدرة الديكتاتورية على التدمير، وقد صور بيكاسو القرية بعد هذا الدمار فى لوحة جدارية أصبحت من أهم الأعمال الإبداعية فى العصر الحديث. يقول حجازى فى «كائنات مملكة الليل»

«ها هو الثور الخرافى يقوم الآن من لوحات بيكاسو

ومن أشعار لوركا

بينما أصبحت شيخا

عاجزا عن أن ترى روعته الوحشية البكر

وتلقاه بذات العنفوان»

وكان يمكن أن أتحدث عن صورة البورتريه فى شعر حجازي، وهى الصورة التى تمثل البديل الأمثل لشعر الرثاء فى القديم، فحجازى لم يرد أن يرثى أصدقاءه، ولكنه يرسم صورتهم فى قلبه، مثلما فعل فى ديوان أشجار الإسمنت عندما رسم بورتريه صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وغيرهما.

موضوعات كثيرة يمكن أن تكون محل دراسة فى شعر شاعر عظيم، لكنى اخترت أن أدرس الغرض القديم فى الشعر الحديث، إننا قد نجد الأطلال تظهر فى أشعارنا الحديثة ليس فقط على مستوى شعر التفعيلة، وربما الشعر المنثور أيضا، بل يمتد ذلك من الكلاسيكية عند شوقى والبارودى وحافظ وغيرهم، ثم عند الرومانسيين مثل أمثال ناجي

يا فؤادى لا تسل أين الهوى .. كان صرحا من خيال فهوى

ثم عند رواد مدرسة التفعيلة من أمثال صلاح عبد الصبور وحجازى ودرويش، فعند صلاح عبد الصبور نجد قصيدة «أطلال»

«أطلال أطلال

يمشى بها النسيان

فى كفه أكفان

لكل ذكرى قبر وبينها قبرى»

ولكن فكرة الغرض القديم لا تقف عند حجازى عند موضوع واحد، أو رؤية واحدة، إننا نجدها فى قصائد متنوعة، وكأنها تعيد تشكيل الماضي، أو تعيد فهم معطياته، أو تعيد تهيئة الحاضر بحيث يصح أن يكون امتدادا لهذا الماضي.

وقد التفت الشاعر الكبير فاروق شوشة إلى هذا المعنى، حين كان يتحدث عن ديوان أشجار الأسمنت حين قال: «فى ذروة من ذُرا (كذا) النضج والاكتمال، وفى الديوان السادس للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى «أشجار الأسمنت» تلفتنا عودة الشاعر إلى فراديس أحلامه الأولى، حيث يشتبك الوعى واللاوعى معًا، فى عناق الأماكن والوجوه الحبيبة، وانغماس الذات المحاصرة فى ثلج الغربة، وبرودة التوحد، باحثة عن أطياف وصور وملامح، هى مِزقٌ من وجود غائب، ومحاولة اقتناص لحظة الغياب التى يتمثلها الأندلسيون أبناء السبيل، والزمن كلّه هو منتصف الوقت، حين يخرج الشاعر من ظله، ويعرّيه فراغ عاصف يلتف من حوله.

هذه الحال الوجودية المزلزلة، هى التى جعلت شاعرنا يأوى ويتكئ إلى أبنية شعرية سامقة، شيدتها القصيدة العربية فى رحلتها الجمالية عبر العصور، وتوهجت جمالياتها فى صور «الطللية» و«الطردية» و«الخمرية»، لا على سبيل الاستعادة والتكرار، وإنما على سبيل اعتصار الحاضر وتقطيره فى الأوانى التى ظلت على مدار قرون من الشعر تمثل خروجاً على النسق، وجرْحاً للمألوف، وخروجًا إلى برّيّة الشعر، مزودة بأقنعة الاستعارة، مدرّعة بغواية الجمال وفتنته، التى تطبى أصحاب النفوس القلقة، والقلوب الظامئة النهمة.» (حجازى بين صقيع الغربة وتجاوز الموروث – فاروق شوشة - مجلة العربى – الكويت – العدد 607.)

إن بعث الماضى أو الحديث عنه إما أن يكون لتمثله والعيش فى جلبابه وجواره، والحنين إليه، وخلع التقديس عليه، فلا عودة لنا ولأمجادنا إلا بالعودة إلى الماضي، وقد يكون بغرض محاورته، والإفادة من التجارب الماضية، وأخذ العبرة والحكمة من التاريخ، وقد يكون بغرض محاكمته، ومساءلته والبحث عن السبب فى وجود الحاضر على هذه الشاكلة والرغبة فى تحرير المستقبل من ربقة الماضي.

ولكى نفهم معنى الأطلال عند الشاعر القديم لابد أن نفهم إنها ليست الحياة الماضية فقط، إنها سبب فى المستقبل أيضا، أو فى كلام آخر إنها رسم لخطوط الماضى من أجل البحث عنها فى المستقبل، فالشاعر الذى يرسم بدقة متناهية معالم الأطلال يرسمها لأن القبيلة ستعود إليها فى رحلتها من أجل الحياة، الشاعر يعود إلى أطلاله بعد سنوات من الفقد، فعليه أن يرسم اتجاهاتها كلها من شمال وجنوب وشرق وغرب، كى تعرف الأجيال القادمة كيف تصل إلى منابت الكلأ والمياه حين يدور الزمن دورته، ولذلك نجد حرص الشاعر على هذا حين يقول امرؤ القيس مثلا

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .. بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف .. رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل

فالمكان هنا سقط اللوى بين مكانين من الشرق والغرب الدخول وحومل، وبين مكانين من الجنوب والشمال توضح والمقراة، وذلك لأن البحث عن مواطن الكلأ قد يستغرق زمنا طويلا يمتد إلى عشرين سنة أو يزيد ولذلك يقول زهير

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم

ديار لها بالرقميتن كأنها ... مراجع وشم فى نواشر معصم

وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأيا عرفت الدار بعد توهم

فهذه الدار بين حومانة الدراج والمتثلم من الشرق والغرب، وبين الرقمتين الشمالية والجنوبية، يقف بها الشاعر بعد عشرين سنة، حين تبدل الزمان وعادت القبيلة إلى أماكنها الأولى متتبعة مواسم الرعى والسقيا. فى دورة أبدية مع الطبيعة والحياة.

هكذا أيضا يكتب حجازى عن أطلاله وهو مغترب عنها فى باريس، يكتب عن مصر متمثلا روح الشاعر القديم أحيانا، وروح المتنبى العظيم فى معظم الأحيان. يسأل عن مصر التى يحن إليها على المستوى المادى وعلى المستوى الفكري، فهو يشعر بالغربة والاغتراب فى الحالين، مصر التى كان يعرفها لم تعد هى حين كتب قصيدته فى سنة 1979 فى باريس، إنها ليست هى تلك التى يحن إليها.

كان حجازى يتمثل الأطلال فى الشعر العربى القديم كله، لكن ذهنه كان متعلقا بالمتنبى الذى ربما شعر بما كان يشعر به عن خروجه من مصر، دخل المتنبى مصر وهو يأمل فى أن يكون له المجد، وخرج منها كارها نفسه ودنياه، وكتب القصيدة التى يتمثلها شاعرنا ويتماهى معها فى يوم خروجه من مصر.

وكأنى بحجازى يعارض قصيدة المتنبي، وقد قيل إن المعارضة لابد أن تكون على وزن واحد وقافية واحدة، وأن تكون المعانى متشابهة أيضا، ولا أعرف كيف يمكن لقصيدة من شعر التفعيلة أن تعارض قصيدة من الشعر العمودي، ولا أعرف كيف يمكن لشاعر حداثى أن يعارض شاعرا حداثيا قديما، لكنى أعرف أن المشترك واحد، وقد رأينا شعراء يغيرون فى مفهوم المعارضة، بإحداث الصدمة التى تتطلبها القصيدة، كما نجد فى تغيير طرفة لقصيدة امريء القيس

وقوفا بها صحبى على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وقوفا بها صحبى على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وهكذا نجد بين المتنبى وحجازى

يا صاحبى أخمر فى كؤسكما أم فى كؤسكما هم وتسهيد

يا صاحبى أخمر فى كؤسكما أم فى كؤسكما هم وتذكار

وهذا يجعلنا نعيد النظر فى فكرة مهمة تتعلق بشعر التفعيلة، وهى فكرة أن شعر التفعيلة لا ينجح سوى مع البحور الشعرية الصافية، وحين حاولت نازك الملائكة أن تكتب شعرا من بحور مركبة، ناهيك عن أن التجربة كانت بائسة فإنها كانت تعد إنجازا إن جاز أن نعد ذلك إنجازا، لكن حجازى وباقتدار شاعر كبير يتماهى مع المتنبى حتى فى البحر الشعرى إذ يكتب القصيدة على بحر البسيط ليعطينا مفهوما جديدا عن المعارضة، مفهوما لا يقف عند الشكل والوزن والقافية، فقد كان يمكن أن يكتب من القافية نفسها بالاقتدار نفسه، ولكنه يريد أن يقول المتنبى شاعر كبير وأنا شاعر كبير أيضا.

كان هناك فرق واحد بين المتنبى وحجازي، ذلك أن المتنبى لن يعود إلى مصر، ولن يحن إليها، لكن حجازى يبدأ القصيدة بالحنين:

كان الحنينُ مَدى عَذْبا، وكان لنا

من وجهها كوكب فى الليل سيارُ

هذا دخان القِرى، مازال يتبعنا

وملء أحلامنا زرعٌ، وأجنحة ٌ

وصبْية ٌ

وطريقٌ فى الحقولِ إلى الموتَى

وصَبَّارُ

فملتقى الأرضِ بالأفقِ الذى اشتعلت

ألوانهُ شفقا

فالقاطرات التى غابت مولولةَ ً

فى بؤرة الضوءِ

فالحزن الذى هَطَلَتْ

عليَّ أمطارهُ يوما

فصِرت إلى طيري

وسافرت من حزنِ الصبيٌِ إلي

حزنِ الرجالِ، فكلّ العمرِ أسفارُ

يا صاحبِيٌ قِفا!

فالشمس قد رجعت

ولم تَعِد بغَدِ

كلّ المقاهى انتظارٌ ساءَ ما فَعلَتْ

بِنَا السنون التى تمضي

ونحن على موائدٍ فى الزوايا

ضارعين إلى شمس تخلَّلتِ البللٌورَ واهنة ً

ولامَستْ جلدَنا المعتل، وانحسرتْ

عَنَا إلى جارنا

فما نَعِمْنا، ولم يْنَعم بها الجارُ

يا صاحبيّ

أخمرْ فى كئوسِكما

أَمْ فى كئوسكما هَمٌّ وتَذكارُ!

وما الذى تنفع الذكرى إذا نَكأَتْ

فى القلب جرحا، علمْنا لا دواء لهُ

حتى نعودَ

وما يبدو أن اقتربتْ

أَيَّام عودِتنا، والجرح نَغَّارُ

ها نحن نفرِط فوق النهرِ وردتَنا

وتلك أوراقها تنأي، ويأخذها

ورادَ أحلامِنا موجٌ وتيارُ

يا صاحبيَّ

أحقا أنَها وسِعَتْ

أعداءَها

وجفَت أبناءَها الدارُ؟

لو أنَها حوصرت حتى النهايِةِ

حتى الموتِ، لو سحَبَتْ

على مفاتِنِها غلالة من مياهِ النيلِ

واضطَجعتْ فى قاعِهِ

لو سفَتْها الريح فانْطمَرَتْ

فى الرمِل وانْدلعَتْ

من كل وردةِ جرح وردة ٌ

فالمدى عشب ونجوَّارُ

هذا دخان قراها يقتفى دَمَنا

ومِلء أحلامِنا زرع، وأجنحة

ومِلء أحلامِنا ذئب نَهَشّ لهُ

نسقيه من كأسنا الذاوي

ونسألهُ عنها

وننهارُ!

باريس 1979

إننى فى هذه القصيدة أريد أن أقف على أحلامنا أو ملء أحلامنا التى ابتدأت بها القصيدة وانتهت، وملء أحلامنا (وملء أحلامنا زرعٌ، وأجنحة ٌوصبْية ٌ وطريقٌ فى الحقولِ إلى الموتَى وصَبَّارُ)، (ومِلء أحلامِنا زرع، وأجنحة ومِلء أحلامِنا ذئب نَهَشّ لهُ نسقيه من كأسنا الذاوى ونسألهُ عنها وننهارُ!)

إن بين هذه الأحلام وتلك مثل المسافة التى بين المتنبى وحجازي، وهنا تكمن قدرة الشاعر العظيم.

وتظهر الأطلال مرة أخرى فى قصائد حجازي، فى ديوان (طلل الوقت)،  حيث يتحول الزمان إلى مكان، يتحول الوقت إلى طلل، فى وحدة أبدية، لأنه لا زمان بلا مكان، ولا مكان بلا زمان.

حين نكون صغارا لا نفكر إلا فى المستقبل، نقتنص الوقت، ونتطلع إلى اللحظة المقبلة، وحين نكبر لا نجد سوى أطلال أوقاتنا الماضية، ذكريات الطفولة والأصدقاء، هذا الحنين الذى يجعل الوقت طللا نعود إليه عند اشتداد الوجد، وعند لقاء الأحبة.

هذا هو الفرق بين (طللية) حجازي، وبين (طلل الوقت)، فى الأولى الطلل مكان نغادره لنبنى حياة جديدة، ونكون ذكريات جديدة، تكون هى الأخرى أطلالا لو شئنا أو شاء القدر، لكن حين يتحول الزمن إلى طلل نكون قد فقدنا روح المغامرة، واستكنا إلى الذكريات، ولم نعد نتطلع إلى المستقبل، بل نحن إلى أطلال ماضينا.

حين نتحول إلى طلل الوقت يكون العقل أقوى من الجسد، نريد أن نطير ولكننا لا نستطيع أن نتحرك، يصبح الوقت طللا، والذكريات سكنا.

طلل الوقت

«طلل الوقت والطيور عليه

وقع

شجر ليس فى المكان،

وجوه غريقة فى المرايا

وأسيرات يستغثن بنا

شجر راحل، ووقت شظايا

هل حملنا يوم الخروج سوى الوقت

نماشى سرابه

ونضاهى غيابه

هل تبعنا غير الهنيهات نستاق شذاها

مابين تيه وتيه»

ونستطيع أن نلحظ أن حجازى يستدعى اللحظة الوجودية التى صورها الشاعر الأموى ذو الرمة الذى جلس على طلل الوقت والطيور عليه وقع:

عشية مالى حيلة غير أننى بلقط الحصى والخط فى الترب مولع

أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفى والغربان فى الدار وقع

طلل الوقت هو ذلك الوقت الذى تبيع العمر كله به، تريد أن يعود وتتوقف الحياة عند هذه اللحظات ولا تنقضي.

أما الطردية فإنها قصيدة تفعيلة تتحاور مع القصيدة العمودية:

طردية 

هو الربيعُ كانَ، واليومُ أحَدْ

وليس فى المدينةِ التى خَلَتْ

وفاح عطرُها سوايَ،

قلتُ أصطادُ القَطا

كان القَطا يتبعنى من بلدٍ إلى بلدْ

يحُطّ فى حلمى ويشدو فإذا قمتُ شرَدْ

حملتُ قوسى وتوغلتُ بعيدًا فى النهار المبتعدْ

بحثتُ عن طير القَطا

حتى تشممت احتراق الوقت فى العشبِ

ولاح لى بريقٌ يرتعدْ

كان القَطا ينحلُّ كاللؤلؤ فى السماءِ

ثمّ ينعقدْ

مقتربا، مسترجعا صورته من البددْ

مُسَّاقطًا كأنما على يدي

مرفرفًا على مسارب المياه، كالزبَدْ

وصاعدا بلا جسدْ

صوَّبتُ نحوهُ نهارى كُلَّهُ، ولمْ أَصِدْ

عدوتُ بين الماء والغيمةِ،

بين الحلم واليقظةِ، مسلوب الرشَدْ

ومُذ خرجتُ من بلادي.. لم أَعُدْ!.

لابد أن نلتفت أولا إلى أن هذه القصيدة قد أهديت إلى عبد الرحمن منيف الأديب السعودى الذى كان منفيا عن وطنه، فى الوقت الذى كان حجازى أيضا مبعدا عن وطنه، كتبت هذه القصيدة فى باريس وكأنها تحية «مدينة النور إلى المدينة المنورة».

«إن حجازى يهدى قصيدته إلى عبد الرحمن منيف، وهو روائى عربى يعيش مغتربا ومنفيا على الأصح، وإذا نظرنا إلى تاريخ كتابة القصيدة الذى أثبته الشاعر فى ختامها، يتبين لنا أنها كتبت فى الفترة التى كان حجازى مبعدا أو منفيا هو الآخر عن وطنه، لموقفه الرافض للخنوع، وهو ما يؤكد توحد المبدعين العرب أمام تجربة النفي، أو الإبعاد التى اختزنها عنوان القصيدة، وبالتوقيع أسفله من باريس 13/5/1979» (المفارقة فى شعر أحمد عبد المعطى حجازى – دراسة نظرية تطبيقية – قصيدة طردية أنموذجا. رسالة ماستر. إعداد: بديار مريم، قسمية جميلة. قسم اللغة والأدب العربي. كلية الآداب واللغات. جامعة محمد بوضياف بالمسيلة)

القطا طير صحراوى صغير يتبع مساقط المطر، ومنازل المياه، وهذا الطائر الصغير يميز البيئة الصحرواية عما سواها، لكننا أمام عدد من المفارقات فى آن معا فى هذه القصيدة.

وقد كانت هناك نزعة عند المدرسة الرومانسية للحديث عن البيئة التى يعايشها الكاتب، ولذلك اهتمت الرومانسية بالطائر الذى يمثل البيئة المصرية (الكروان) فوجدنا «دعاء الكروان» لطه حسين، و «هدية الكروان» للعقاد، ولكن الذين ينادون بأثر البيئة والتزام الشعر بها لم يعرفوا أن الشعر يتحاور مع الإنسانية كلها، والقطا الذى يمثل عبد الحمن منيف، أو يمثل الماضي، لا يمكن أن يكون له بديل من الكروان أو غيره فى هذه القصيدة.

إننا أمام قصيدة المفارقات:

المفارقة الأولى أن الشاعر يطارد القطا الطائر الصحراوى فى المدينة، والشيء الآخر أن الطرد أصلا لا يكون فى المدينة، لأن حياة الطرد تكون فى الصحراء، والمفارقة الثالثة والأهم فى هذه القصيدة أن الطرد مزدوج فالطائر يطارد الشاعر من بلد إلى بلد، كما أن الشاعر يطارد الطائر إلى الأبد، ولذا فإنه منذ أن خرج لمطاردة هذا الطائر لم يعد.

إننا أمام لحظتين مختلفتين لحظة فى مطاردة القطا للشاعر ولحظة فى مطاردة الشاعر للقطا، وأمام موقفين مختلفين، عطر المدينة فى أول القصيدة الذى أغرى الشاعر بمطاردة القطا:

« وليس فى المدينةِ التى خَلَتْ

وفاح عطرُها سوايَ،

قلتُ أصطادُ القَطا»

« حتى تشممت احتراق الوقت فى العشبِ

ولاح لى بريقٌ يرتعدْ»

لنرى هذه المفارقة الأبدية للقطا المستحيل الذى ينحل ثم ينعقد، والذى يقترب ثم يبتعد، والذى يساقط ثم يرفرف على مساقط المياه كالزبد، كى يظل الشاعر فى هذه المطاردة الأبدية المليئة بالمفارقات التى لا تنتهي؛ حتى تنتهى بالمفارقة الأخيرة، (ومذ خرجت من بلادى لم أعد).

ونحن هنا أمام ثلاثة مشاهد أو بنى ، بنية التمرد، وبينة التردد، وبنية التأبد، أو تحول العلاقة إلى علاقة أبدية فيها الشاعر المطارِد، والشاعر المطارَد، والشاعر الذى لم يعد.

وآية أخرى من آيات المفارقة فى القصيدة، إذ إن كل هذا الاحتشاد من أجل صيد القطا، والقطا طائر صغير لا يستحق كل هذا الجهد الجهيد:

«حملتُ قوسى وتوغلتُ بعيدًا فى النهار المبتعدْ،

صوَّبتُ نحوهُ نهارى كُلَّهُ، ولمْ أَصِدْ»

ومن مفارقات القصيدة أيضا أنها تشكل لحظتين لحظة اليقظة والحلم،

« عدوتُ بين الماء والغيمةِ،

بين الحلم واليقظةِ، مسلوب الرشَدْ»

حيث تتحول الأشياء من كينونتها إلى كيانات مختلفة فتتحول القطاة إلى لؤلؤ فى السماء ينحل ثم ينعقد، إننا أمام قصيدة جمعت كل المفارقات لتدل على أن هذه المفارقات هى ما كان يعيشها الأدباء الكبار فى هذه اللحظة حجازى ومنيف، وغيرهما.

قصيدة (خمرية)

«الأصدقاء الحميمون أقبلوا

فى ثيابٍ جديدةٍ

من بلادٍ بعيدةٍ

وقبور

ساقوا سماءَ إلى البهو من دخانِ

وشدوا

نجومَها بخيوطٍ

ورفرفوا كالطيور

بعيدة كأسنا الأولى

والوجوه عليها من النهارِ انطفاءاتٌ

والمدينة ضمَت أسواقَها

وتهاوتْ

تحت الزجاجِ المطير

بعيدة هذه الكأس، والنهار بعيدٌ

وعن يمينى بساتيننا التى لا نراها

لما ركِبنا عليهم أسوارَها، ودخلنا

كانت هناك تلال

من خالص التٌبر

كانت من النساء عذاري

كلؤلؤ منثور

ورب ظبى غرير

دعوته لسريرْ

وكان ثم رفاتٌ

يسيل بين محطاتِ أدبَرتْ

ومحطات أقبلتْ

وجسور

ولات حين نشور

مَن ينزل الغَيْمَ؟

لى فيه وردة

أزهرت وحدها هناكَ، وأبقت

جذورَها راعياتٍ

فى جسمى المهجور

بعيدة هذه الكأس، مثَل شمس شتائيةٍ

تدور، وتفترّ عن سنى مقرور

ونحن بين المرايا

نعشو لها بمهيض

من الجناحِ، كسير

محاصرين بأشباحنا

نبادلها الكرٌ والفرِارَ

إلى أن مضى الزمان فقمنا

وانسلّ كل لمثواه فى الظلامِ الأخير

الأصدقاء الحميمون أقبلوا

فى ثياب جديدةٍ

من بلاد بعيدةٍ

وقبور

ساقوا سماءَ إلى البهو من دخان

وشدوا

نجومها بخيوطٍ

ورفرفوا كالطيور»

فى هذه القصيدة يشتبك حجازى مرة أخرى مع الشعر القديم، ليس فى المضمون فقط بل فى الشكل أيضا، ومن عجب أن القصيدة على بحر المجتث، أو يمكن أن نقول معكوس بحر الخفيف،لأننا فى شعر التفعيلة لا نلتزم بقافية واحدة يمكن أن تشكل نقطة ارتكاز، وإنما القصيدة دائرية تنتهى من حيث تبتدئ، وبالتالى فإن معكوس الخفيف يتحول إلى خفيف، فى القصيدة التى تتوالى تفعيلاتها منسابة بين (مستفعلن وفاعلاتن)، كى يأتى الخفيف معكوسا مرة ومستقيما مرة فى شعر كسر تقليدية الوزن، ومع شاعر يريد أن يخلق مفهوما جديدا للشكل الشعري، ولبنية القصيدة دون أن يتحدث كثيرا عن هذا بل يثبته فى قصائده باقتدار.

وقد كنت أتكلم مع الشاعر حجازى فقال لي: بثقة شاعر كبير إن السياب قد سبقه إلى الكتابة من البحور المركبة، فعدت إلى قصائد السياب فوجدته كتب عددا من القصائد على هذا النحو منها: «أفياء جيكور» و «سفر أيوب» و «إلى جميلة بوحريد» وغيرها.

وكثيرون من الشعراء الكبار قد كتبوا شعر التفعيلة بالبحور المركبة، ومنهم السياب ذلك الشاعر العظيم، وشعراء آخرون كتبوا فى البحور المركبة، وكانوا سباقين إلى هذا منهم شاذل طاقة فى قصيدته «انطلاق» و «بلند الحيدري» فى قصيدته «فى الليل» وغيرهما، وتظل تجربة أحمد عبد المعطى حجازى من أهم التجارب فى هذا الاتجاه.

الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى يعيد تشكيل الماضي، ويصوغ التراث برؤيته التى تعتصر الحاضر، بحيث لا يعمل الماضى فى الحاضر، بل يهيمن الحاضر على الماضى.