محمد الأشعرى يكتب : الرواية والأثر

 الرواية والأثر
الرواية والأثر

هل يمكن أن نتساءل كيف كان الشعراء والروائيون المغاربة يكتبون نصوصهم قبل «انفجار التجربة التشكيلية» فى حقلهم الثقافى، بتعبير طونى مارينى؟

 هل اللغة والبناء والرؤية، فى أى لغة كانت، تتفاعل وتتأثر، تغتنى وتتحول، بحسب تطورات النظام البصرى المحيط بها؟.
تساؤلات قد تبدو مُفتعلة، خصوصاً ونحن نعرف أن مستويات تلقى هذه التجربة التشكيلية ليست متجانسة ولا متساوية، ولم تكن إلا فى لحظات سريعة من تاريخنا الثقافى موضوع تفكير وتحليل وحوار مشترك.

تساؤلات تبدو مُفتعلة، لأنها قد توحى بأن «انفجار هذه التجربة التشكيلية» قد حدث فى أرض خلاء، لم تكن تتوافر على نظام بصرى مركب ومتعدد التعبيرات. والحال أن هذا النظام كان موجوداً بأشكال مختلفة، وكان حاضراً فى المدن والقرى، عبر المعمار والزخرف، والنسيج، والطرز، والحلى والوشم، والكليغرافيا، وكانت له وشائج قوية مع اللغة، من الناحية الشكلية والروحية على السواء.

سيلاحظ عدد من المهتمين أن هذا النظام البصرى الذى يرجعه البعض إلى النقوش الصخرية، ظل مفتقراً فى جل أطواره إلى ما وسم الظاهرة فى الغرب، أى ربط المنتوج البصرى بالفرد (الشخص المبدع) وليس بالتراث الجمعى فقط، وارتكازه تاريخياً على سند اللاهوت الذى شكل فيه الاحتفاء بالمعبود بعداً أساسياً فى تكوين النظام البصرى.

إنها ملاحظة مهمة، لأنها تساعدنا على فهم «الصدمة» التى مثلها الانتقال الطارئ من النظام القديم، إلى النظام الجديد الذى كان متصلاً بتاريخه الغربى، ولتراثه المعرفى، وبتياراته الفنية المختلفة والمتداخلة، وكان مستفزاً بأسئلته وقضاياه، بالرغم من الفراغات التى أحاطت به، كالانفصام بين التشكيل والمدينة، أو بين التشكيل والمعمار. أو بالحضور الخجول للنحت الكلاسيكى الذى كان من أبرز إنجازاته فى الغرب، إعادة إنتاج الجسد كبعد روحى، وكبعد حسى جمالى.

من المهم فى نظرى أن نعود إلى تحليل هذه «الصدمة» لأن ذلك سيمكننا من فهم أفضل للميكانيزمات التى تحكمت فى تشكيل ثقافتنا البصرية الحديثة، ومن فهم أفضل كذلك للشروخ التى لاتزال مفتوحة أو كامنة فى هذه الثقافة.

هذا عمل يستدعى مجهوداً تحليلياً لسنا بصدده الآن. لكن، وفى علاقة بموضوع هذه الندوة، من المفيد ربما أن نتساءل كيف تلقينا ونحن نشتغل كشعراء أو كروائيين فى قلب اللغة هذه اللغة الجديدة؟.

وهل هى أولاً لغة؟
هل هذه الشبكة من الرموز والإشارات، من المساحات والأحجام من المواد والحركات، هى تعبير فوق لغوى، أو بما أنها تخاطبنا وتريد أن تقول لنا شيئاً فهي أيضاً بغض النظر عن وسائلها الخاصة، لغة لها أبجديتها وجملها وبلاغتها.

أثارتنى ملاحظة للمرحوم عبدالكبير الخطيبى بخصوص الغرباوى والشرقاوى عندما اعتبرهما «إشارتين لغويتين» الأولى من لغة العرب، والثانية من لغة الشرق، بمعناها الأوروبى.

لا أظن أن الملاحظة تعتمد فقط على التمييز بين التكوين الغربى (باريس) بالنسبة للغرباوى، والتكوين في أوروبا الشرقية بالنسبة للشرقاوى.

ولكن الأمر يتعلق هنا في نظرى بالتمييز بين الرمزية القلقة التى اتسمت بها أعمال الغرباوى خصوصاً فى المرحلة التى اعتمد فيها «الخربشة» كقناع، أو كتشطيب، أو كمحو رمزى، أى كدعوة إلى النظر إلى ما وراء القناع، إلى ما وراء المحو، وبين «الإشراق الداخلى» الذى اتسمت به أعمال الشرقاوى الناضجة والتى عرضها أول ما عرضها بفارسوفيا قبل أن يعرضها بعد ذلك فى الدار البيضاء..

لقد ذهبت كثير من الدراسات إلى ربط أعمال الشرقاوى فى هذه الفترة بمنظومة الرموز والإيحاءات التى تحفل بها منتوجات النسيج على وجه الخصوص فى بلدته الأصلية بجعد، دون أن نتساءل لماذا لا نتلقى بنفس الكثافة الشعورية ما نراه فى اللوحة وما نراه فى الزربية، إلا أن تكون لوحة الشرقاوية. هى بالأساس «إشراق داخلى» يعيد لنا فيها الأشكال المألوفة بعد أن تمر من مرجل تذويبها وإعادة تخليقها.

«لغتان» إذن كما يصفها الخطيبى، وضعتنا فجأة وجهاً لوجه أمام اللغة الأدبية التى نكتب بها، أمام تحولاتها التى استغرقت قروناً عديدة، أمام تحررها وأمام قيودها، أمام تاريخها اللغوى وأمام تاريخها السياسى والاجتماعى، أمام إمكاناتها الفعلية أو المحتملة، وأمام قصورها العابر أو المزمن.

وقد أدركت عند عودتى إلى كثيرٍ من النصوص الروائية المغربية أن الأمر لا يتعلق بعلاقة تفاعل مباشر بين نصوص وتجارب، بين روايات وأعمال، فهذا جانب محدود جداً، لا نكاد نلمس من خلاله التلاقح الذى نتوقعه بين المجالين.

إن الأثر البصرى فى الرواية لا يمكن أن نقيسه فقط بحضور العوالم التشكيلية عبر شخصيات الرواية ومحكياتها بل أساساً بالحوار الذى يحصل بين تقنيات ومضامين التعبيرين معاً، والحال أن انفصاماً  قد حصل فى العقدين الأخيرين من الناحية الثقافية بين الكتابة والتشكيل عموماً فنحن أبعد ما نكون اليوم عن تلك الحمى التى عرفتها العلاقة بين الأدباء والتشكيليين فى السبعينيات والثمانينيات والتى تجلت فى النصوص المشتركة والنقاش العام، والنقد، والمجلات «المهتمة»:  «أنفاس»، و «أنتكرال».. و «الثقافة الجديدة» مثلا، لم يعد لها أثر اليوم، وبشكل مفارق ما إن تضخمت الفقاعة التجارية فى التشكيل حتى نزلت هذه الحمى.

بالمقابل فإن ما يمكن أن ندركه بسهولة هو الأثر التحديثى الذى مارسته الفنون التشكيلية والذى مس الكتابة بصفة عامة، والرواية على وجه التحديد. وهذا الأثر التحديثى يتجاوز بكثير منجزات النص الروائى فى تفاعله المباشر مع التشكيل.

فى كتابها (كتابات عن الفن) تؤكد طونى مارينى عن حق بأن الفن عامة، والرسم على وجه التحديد قد اضطلع بدور رمزى أساسى فى المغرب المعاصر، فمن خلال حيويته جذب كثيراً من المبدعين والمثقفين من مجالات أخرى إلى مادته الخاصة. من هنا أهمية الوقوف عند الأثر الذى استقر من هذا النظام البصرى الجديد فى وعى ولا وعى الكتابة.

هناك بالتأكيد تقنيات وأساليب فى الكتابة الروائية ساهمت فى إشاعتها وترسيخها نظرية الأدب، والنقد الحديث، لكن الحركة التشكيلية ساهمت إلى حدٍ بعيد فى جذب الروائى إلى مادته الخاصة، من هنا، اهتممت شخصياً بكثير من القضايا البصرية التى تألفت معها بمتابعة الحركة التشكيلية المغربية الحديثة والكتابة عن بعض أعمالها.

إن شغفى بالأمكنة، فى بزوغها واندثارها، وبالمدينة فى آنيتها وتحولاتها يرجع بالأساس إلى هذه التجربة.

ثم إن قضايا اللعب والسخرية كما فى أعمال الوزانى، أو قضايا الاندثار والعبور والحميمية كما في أعمال خليل غريب، وقضايا الفضاء والجسد عبر اللوحة أو عبر المرآة، كما فى أعمال القاسمى، وشعرية اللون أو الأشكال الهندسية كما فى أعمال المليحى وبلامين، وروح المادة وانبثاق الأشكال وانطفاؤها كما فى أعمال بلكاهية، وقضايا أخرى كثيرة لها علاقة بالأبعاد فى اللغة وفى الشكل، بتراكب «المحكيات» (المساحات) بالمحو والإثبات، بالإيقاع الداخلى وإيقاع الحركة، بالمرئى وبالعين الرائية (عين المتلقى وعين المبدع).

اقرأ ايضاً| زكريا محمد يكتب : رمية النرد الأخيرة

كل هذه القضايا التى لازمتنى فى اشتغالى الروائى لم أكن لأقترب منها لولا علاقتى خلال سنوات بعوالم الفن التشكيلى فى صيغتها الأكثر قلقاً والأكثر ارتباطاً بإشكالات التحديث، وبالإقامة الدائمة بين الضفاف، حيث يتراجع اليقين فى كل يوم، وتنمو الشكوك والأجنحة أكثر مما تنمو الجذور.

شاعر وروائى مغربى