حوارها الأخير| لويز جلوك: تخلصت من كل شئ في العالم عدا الحب

لويز جلوك
لويز جلوك

ترجمة: رفيدة جمال ثابت

رحلت عن عالمنا الكاتبة والشاعرة الأمريكية لويز جلوك يوم 13 أكتوبر 2023، عن عمر ناهز الـثمانين عامًا، بعد ثلاثة أعوام من تتويجها بجائزة نوبل. ولدت لويز إليزابيث جلوك فى مدينة نيويورك فى عام 1943.

وعملت أستاذة للأدب الإنجليزى فى العديد من الجامعات والمؤسسات. وفازت بعدة جوائز أدبية من بينها دائرة نقاد الكتاب الوطنى (1985)، وبوليتزر (1993)، وبولينجن (2001). كما شغلت منصب الشاعرة الرسمية للولايات المتحدة من عام 2003 إلى عام 2004. وصدر لها العديد من المجموعة الشعرية منها (منزل على مستنقع)، و(انتصار أخيل)، و(السوسنة البرية)، و(الحياة الجديدة)، و(حياة قروية). بالإضافة إلى كتابين نقديين هما (براهين ونظريات) و(الأصالة الأمريكية). استكشفت قصائد جولك موضوعات ذاتية كالطفولة، والعلاقات الأسرية، والعزلة، والصدمة والفقدان، والتعافى والانبعاث. ورأى بعض النقاد أن بعض أعمالها تتسم بطابع الاعتراف؛ نظراً لاستلهامها من وقائع شخصية. 

الحوار التالى أجراه سام هوبر فى مجلة (ذا نيشن)، وتحدثت لويز عن آخر دواوينها «وصفات شتوية»، والذى يسير على الخط الفاصل بين عالم اجتماعى مشترك وعالم موازٍ من الأحلام والرموز. 

أهم ما علق بذاكرتى من ديوان «وصفات شتوية» كانت أسماء العلم والتفاصيل الملموسة، مثل اسم «ليو كروز» والأطباق الخزفية وشوكولاتة كيسز. ويبدو أن تلك الصور تغرى بالقراءة الرمزية، ولكنها لا تشبعها بشكل كامل. وبرأيى أن القصائد أشبه بالحكايات.

أعتقد ذلك أيضًا. بدت القصائد أقرب إلى الحكايات، وأشبه بتلك التى بدأتها فى كتاب «ليل مخلص وأمين». ولكنها ليست كذلك رغم قصرها. بل تبدو كأنها شكل طويل مضغوط؛ بسبب طريقة تدرجها. آخر القصائد التى كتبتها فى «ليل مخلص وأمين» كانت قصائد نثرية. وحين أقبلت على كتابة «وصفات شتوية» راودنى شعور بأنه ليس بمقدورى كتابة سطور بعد الآن. لم أتذكر ولم أعرف كيفية القيام بذلك. تعين عليّ أن اكتشف الأمر مجددًا. ثم فكرت «رغم أننى أكتب سطورًا، فإنها لا تمتلك اليقين ذاته الذى تتمتع بها السطور الغنائية». فالسطر ينتهى فى المكان المثالي، وتتولد الطاقة، ورجفة بين نهاية سطر وبداية آخر. لذلك بدت القصائد مختلفة، والشيء المختلف فى ذهنى يبدو دائمًا أسوأ.

أثناء قراءتي، تساءلت عما إذا كان هناك توتر بين تعلقى بتفاصيل مثل الشوكولاتة والأطباق الخزفية، وبين المحاولات المتعددة لشخصياتك للانسحاب من العالم المادي، بل وحتى اعتزال اللغة.

علاقة المتكلمة بالعالم تبدو دائمًا موضع تساؤل. ما المصادر التى ألهمتك أثناء الكتابة؟
ظهر اسم ليو كروز فى حلم. استيقظت صباح أحد الأيام وكان يدور فى ذهني: «ليو كروز يصنع أطباقًا جميلة»، أو «يمتلك أطباقًا جميلة». وفكرت: «أهذا من حلم راودني؟ يا له من سطر رائع! من هو ليو كروز؟ إنه غير موجود». ولهذا نجحت القصيدة. لا يمكننا أن نجده. أما بالنسبة للشوكولاتة، فهى فى الواقع سيرة ذاتية. كنا نقضى الصيف فى أوروبا فى طفولتنا. وقد ذهبنا إلى سويسرا لمدة أسبوعين، وأقمنا فى فندق به شرفة صغيرة. كان عمر شقيقتى أربع سنوات ونصف، وكنت أنا فى السابعة. كنا نلعب لعبة اختلقتها؛ نتظاهر بأننا ضللنا الطريق فى الغابة، ونحاول البقاء على قيد الحياة بالمكسرات والتوت. وشرعنا نفتش جوانب الشرفة ثم سمعت شقيقتى تقول: «وجدت شوكولاتة». فقلت: «لا، يا تيزي، نحن فى غابة.

لا يمكنك العثور على شوكولاتة. يجب أن نجد مكسرات أو توت». قالت: «عثرت على أخرى». فقلت: «أنتِ لا تفهمين اللعبة». ثم فتحت يدها، وكانت هناك شوكولاتة. كانت السيدة فى الطابق العلوى تلقيها إلى الشرفة. كان مشهدًا قصيرًا وطريفًا.

تتخلل القصائد ومضات من الفلسفة الشرق آسيوية. من أين جاءت؟ 
ليس لدى أدنى فكرة. ولكنى تبينت فى كتبى الأخيرة تأثيرًا قويًا لآيريس مردوخ، التى قرأت جميع أعمالها بصورة منتظمة على مدى السنوات. وقد تسللت بعض من أساليبها وعناصرها إلى قصائدي. أعلم أن الجزء الأول من القصيدة الرئيسية استلهمته من حلم تقريبًا. ولكن بالتأكيد كان هناك حافز للكتابة عن البونساي، وبمجرد أن كتبت عنه، فكرت «بوسعى القيام بالمزيد». وقد كان. أحببت استخدام تهجئة مختلفة [بونساى وبون-ساي]، وهو ما يؤكد فكرة الترجمة، والتى تشبه سطرًا من قصيدة «إنكار الموت»: «ما يعود/ لا يشبه ما مضى».
حين كنتِ تدرسين لنا، علمتنى أن الأسطر والأفكار وحتى الصور تنطوى على تداعياتها الخاصة، التى ينبغى متابعتها عوضًا عن نبذها أو التحول عنها لصالح شيء آخر يكون متاحًا بسهولة أكبر. قصائد هذا الديوان ليست استطرادية تحديدًا، لكنها تبدو أقل إصرارًا على السعى وراء خيط معين. إنها كأنفاس فى مهب الريح. 

اقرأ أيضًا | وداعًا جلوك.. شاعرة البساطة والعمق

صحيح. تمتلك منطقًا مختلفًا.

أعتقد أنها تهيم وتتجول. إنها تتجاوز حدود الزمان، بكل ما فى الكلمة من معنى.

لطالما كان التدريس أمرًا هامًا لكتابتك، وأيضًا عاملاً مساعدًا. هل افتقدته فى فترة جائحة كورونا؟
من الغريب أن هذا الشعور انتابنى معظم حياتي. وبعض من أسباب ذلك يعود إلى تفكيرى السحري، لأننى عندما بدأت التدريس، شرعت فى الكتابة مجددًا بعد فترة صمت طويلة للغاية. وبالتالي، ربطت بين التدريس وبين استعادة الكلام. وأظن أن ذلك صحيح، لأنه تراءى لى فى شبابى أن الكتابة تقتضى الانعزال والابتعاد عن العالم والتخلى عن كل شيء بعيد عن الشعر. ومن ثم، كنت أتخلص بانتظام من كل شيء فى العالم عدا الحب.

ولكن التدريس كان سبيلاً للعودة إلى العالم، حيث الاضطراب والتحول، وإمكانية التغير على يد شخص آخر، والاحتكاك بعقول تستطيع القيام بأمور تعجز عنها. وأدركت أنه إذا لم أكن أكتب، يمكننى دراسة قصيدة شاعر آخر بشغف بالغ؛ ولا يهم أنها ليست قصيدتي. وقد أدهشنى ذلك، لأنه يعنى أن بوسعى التفكير فى مدى قوة عمل ليس من صنع يدي. افتقدت التدريس فى السنة الأولى من كوفيد. لم أكتب البتة، وظننت أن ذلك يثبت أننى حقًا بحاجة للعالم والتدريس، وبالتأكيد لم يكن فى داخلى مخزون كاف يدفعنى للإنتاج دون توقف كدودة القز. ولكنى لم أفتقده فى السنة الثانية، لأن ولاية فيرمونت حفزت داخلى روح الحداثة والاكتشاف. والمسألة هنا تدور حول التغيير. أجد أن ثمة تغييرات عميقة، بخلاف الموت، مثل التوقف عن التدريس. فكرة حدوث ذلك، والمجازفة التى تنطوى عليها، وبالتالى نضوبى ككاتبة، ستكون شأنًا جللاً. 

هل تشعرين بظل جائزة نوبل عندما تكتبين؟
لا أشعر بظلها، بل بنوع من الاسترخاء، وتأثر أقل بأهواء النقاد. لقد مرت بى لحظة مشابهة. كنت قد أرجأت العمل فى كتاب «مختارات»، لأننى حسبت أن هذه اللفتة تعنى الختام، وأنها تضع نهاية حاسمة لأعمالي. وتصورت أنها خطوة خطيرة للغاية. كما شعرت أنه من الضرورى نبذ كتبى السابقة كى أمضى قدمًا. ولكننى اكتشفت بعد ديوان «حياة قروية» أننى فخورة بأعمالي. وبرأيى أن الرضا عن النفس أخطر شعور. ثم فكرت: حسنًا، ربما توجب عليّ استكشاف هذا الشعور. أخبرتنى العرافة فى إحدى جلسات قراءة التاروت: «يجدر بك الشعور بالفخر بأعمالك». وفطنت إلى أننى كنت أرفض ذلك بشكل قاطع، وعلمت حينها أن رفضى التلقائي، أو تفكيرى السحري، يحول دون التغيير. لذا عكفت على تجميع ديوان «قصائد 1962-2012». وعندما راجعته كنت مفعمة بالفخر والاعتزاز. لم يثبطنى ذلك بل جعلنى أكثر استرخاءً. ثم بادرت إلى كتابة «ليل مخلص وأمين»، وأراه ديوانًا تجريبيًا وحرًا. بل إننى وجدت شيئًا جديدًا أفعله، وهو كتابة قصيدة النثر، وكانت مغامرة حقيقية ومثيرة. أما بالنسبة لجائزة نوبل، فقد كانت لحظة سوريالية تمامًا.

أنا واثقة من أن بوسعك تخيل ذلك. أقصد، شاعرة أمريكية بيضاء لا تكتب قصائد سياسية! اللحظات الأولى كانت مروعة. انتابنى آنذاك شعور بالبتر، كأنما انتزعوا أعمالى مني. بالتأكيد ارتقت إلى مكانة مرموقة ومجيدة، ولكننى فُصلت عنها. وتُركت وحيدة فى مكان ما لأرضى بالأمر الواقع. وكان ذلك إحساسًا مدمرًا. ثم توجب عليّ كتابة خطاب نوبل. ولم أعرف ماذا سأفعل. وكان من المفترض أن يكون خطابًا طويلاً وبضمير الغائب. وفى النهاية فكرت: «حسنًا، يمكننى أن أكتب عن الذعر». على حد علمى لم يسبق لأحد أن فعل ذلك. ولكن لا يجدر بى أن أكون أول شخص يشعر بالخوف على هذا النحو. وأصبح الأمر مثيرًا للاهتمام. وأظن أن اضطرارى للقيام بذلك ما دفعنى إلى كتابة قصيدة النثر.

ذلك من حسن الحظ.

أجل! كان جد مفيدًا، لكن اقترن بهذه الفائدة شعور ساحق بالغرابة.

هل ترتبت عليها واجبات؟
لا، لأننى رفضت. ثمة أشياء أود فعلها، مثل السفر إلى السويد. أشعر بالامتنان الشديد تجاه تلك البلاد. ولكن أقصد أن الناس صارت أكثر حذرًا نحوك وكذلك حريصة على مصادقتك. ولكن عالم أصدقائى لم يتغير. كنت أخشى من أن ينبذنى جميع أصدقائى الشعراء، لكنه لم يحدث. كما كنت أخاف من أن يغير ذلك علاقتى بالطلاب. على الأقل لم يؤثر الأمر البتة على علاقاتى بالطلاب السابقين الذين كانوا أصدقائي. إننى أستاذتهم، والآن صرت فى نظرهم أستاذة فازت بجائزة. بيد أنه داخلنى شعور بالغرابة إزاء الأمر برمته. ولا سيما بمجرد حصولى على هذا المنزل، قلت لنفسي: «لابد أننى على وشك الموت، لأن أشياء رائعة كهذه لا تحدث». ومن العسير التخلص من ذلك الشعور. بل وكثيرًا ما ينتابنى بعد كتابة قصيدة هاجس بأنه لابد أن مكروهًا سيقع لي. بالتأكيد سأفقد ذراعًا أو ساقًا، أو أصاب بمرض مزمن!

تشعرين بأنكِ ستدفعين الثمن بطريقة ما.

لدى الكثير من أمور الحسابات الجارية. ولكنى بعد ذلك أفكر: «طيب، إذا كان الأمر كذلك، فسأكون قد عشت حياة رائعة حقًا». وأظن أنه إذا لم أدون كتابًا هذا الصيف، سأشعر بخوف كبير. ولكن حين أفكر فى كتابة شيء بسرعة مجددًا أقول: «لا، حياتى قد تغيرت، لكننى لا أعتقد أن صوتى مقموع». لقد أخبرنى صديق مقرب وحكيم أن جائزة مثل نوبل تجعل القراءة النقدية أكثر صعوبة، لأن الناس يحسبون أنهم يعرفون ماهيتك. وثمة نهاية وضعت للأعمال. ربما يكون الأمر كذلك، لست أدري... لا يمكنك السيطرة على ذلك. فى الواقع، ليس بوسعك السيطرة على أى شيء.