أحمد الزناتى يكتب : على المخطوطات أن تحترق أحيانًا: مراسلات جوجول مع الأصدقاء

بولجاكوف
بولجاكوف

سأرشق عبارة بولجاكوف الشهيرة بحصاة وأقول: «بل على المخطوطات أن تحترق أحيانًا».
قبل سنوات وقع تحت يدى كتاب يتكلّم عن الأعمال المفقودة فى تاريخ التراث الإنساني، ربما أعرض له بالتفصيل مستقبلًا. والفقد هنا يشمل التلف أو الضياع أو الحرق على يد أصحابها أو يـد غيرهم. اطلعت على الكتاب من فترة، رسخَت بذاكرتى أسماء بعينها، منها أعمال قديمة ككتاب الكوميديا لأرسطو مثلًا، ثيمة أومبرتو إيكو فى اسم الوردة، يوميات لورد بايرون، رواية المسيح لبرونو شولتس، تاريخ الثورة الفرنسية لتوماس كارليل، والجزء الثانى من الأنفس الميتة للكاتب الروسى الكبير نيكولاى جوجول.

شدّنى جوجول على وجه التحديد لغموض سبب حرق مخطوط عمله أول الأمر، صحيح أنه ليس الوحيد الذى أحرق أعماله، لكن تضارب الأسباب وغرق الرجل فى فورة عرفانية بقى عالقًا بذاكرتى. ولا عَجب أنْ وصفه فلاديمير نابوكوف بأنه «أغرب شاعر وناثر أنجبته روسيا فى تاريخها».

تضاربت الأقوال -بحسب الكتاب الموسوم- حول سبب الفعلة. وَفق الكتاب اتجه جوجول فى أواخر حياته نحو الدين بقوّة، وتعاظم زهده فى الكتابة والأدب بتأثير من الأب ماتفى كونستانتينوفسكى. ثمة تكهنات أن الرجل اعتبر الرواية خطيئة، وأن الأب كونستانتينوفسكى حثّه على حرق الجزء الثانى من الأنفس الميتة. فى ليلة 24 فبراير 1852 أخذ صاحبنا حزمة من دفاتر الملاحظات المربوطة بشريط، ووضعها فى الموقد وأضرم فيها النيران. توسّل إليه الخادم أن يتوقف، لكن جوجول أخبره أن هذا ليس من شأنه، وأن عليه الصلاة. فى هذه الأثناء، انطفأت النار بعد أن احترقت زوايا الدفاتر فقط. لاحظ جوجول ذلك فسحب حزمة الأوراق من الموقد وفك الشريط بحيث يسهل تعرضها للنيران وأشعل فيها النار مرة أخرى، جلس على كرسى أمام الموقد، منتظرًا انتهاء المهمة. تحول مخطوط الأنفس الميتة إلى رماد. رسَمَ علامة الصليب، عاد إلى غرفته، واستلقى على الأريكة لينخرط فى البكاء. ثمة شكوك أن جوجول لم يكن واعيًا أية أوراق أحرقها بالضبط. هذه هى الرواية المُختلقة.

لكن كتاب مراسلات مع الأصدقاء، الصادر حديثًا بترجمة ممتازة للدكتور تحسين رزاق عزيز ينسف هذا التشكيك نسفًا. ففى الفصل الأول بعنوان الوصايا، خامسًا، صفحة 17 نقرأ: «..كل ما فى المخطوطات أحرقته، لأنه كتابةُ عاجزٍ محتضر مرّ فى حالة مرض وتكلف».

قال الرجل: «كتبتُ وصية كلفت من خلالها أصدقائى أن ينشروا بعض رسائلى بعد وفاتى. أردتُ بهذا التكفير عن لا جدوى كل ما نشرته حتى الآن، لأن فى رسائلى شيئًا ضروريًا للإنسان أكثر مما هو عليه فى كتاباتى». الكتاب إنسانى..إنسانى جدًا، يضم طائفة من رسائله إلى أصدقاء حول قضايا مختلفة، لكنى لن أتطرّق إليها من باب عرض كتابٍ ومناقشة أفكار، بل من باب الإجابة عن سؤال: هل يتوقف الإنسان عن الكتابة لو وجد إجابة عن الأسئلة/الدوافع التى دفعته من الأساس إلى الكتابة؟ ولنرجع خطوة إلى الوراء ونقول: ما الذى حـضَّ جوجول على الكتابة وما الذى صدَّه عنها؟ وبين الحضّ والصدّ حرق المخطوط.

لا أتكلم عنها عن الأسباب/الدوافع البراجماتية (بالمعنى النبيل الذى قصده وليام جيمس) لفعل الكتابة كنشر كتاب، جوائز، صور سيلفي، إلخ، وإن ذهبَتْ دعَواتُ معاصرة إلى دعم المبدعين عبر حثّ الكُـتاب والشعراء والفنانين عمومًا على الخروج من الغرف المعبقة بالدخّان، المواظبة على التمارين الرياضية، ودمجهم فى الأنشطة المجتمعية لتفريغ الكبت بأنواعه وعدم تشتيت الجهد لإنتاج شيء حقيقى يُلتفت إليه، وهى طريقة أراها جديرة بالتعميم فى مجتمعاتنا، كما لا أقصد الكتابة كضرورة وجودية (وبحثية) وإنما أقصد التوقف، تغيير الـWeltanschauung وصرف الانتباه  إلى التركيز على أمورٍ أخرى بعد موقف حياتى معيّن. سأتعرض لبعض فصول/رسائل الكتاب، مناقشًا إياها، معلقًا على بعضها، ربما نصل إلى إجابة عن السؤال فى النهاية. 

فى المقدمة يكتب جوجول وصيته بعد شعوره بدنوّ أجله. يقول إن قلبه حدّثه بأن هذا الكتاب ضروري، وأنه يمكن أن يكون مفيدًا، لا لشيء إلا لأن جوجول لم يشعر من قبل بهذه الرغبة فى أن يكون مفيدًا. ثم يعترف بمثالب شخصيته التى لا تُحصى، فآثر الابتعاد عن الناس لإنه كان بحاجة إلى أن يربّى نفسه، ولو قليلًا، ويطلب العفو ممن أساء إليهم، سواء عن قصد أو عن دون قصد، يرثى الرجل حماقته وغروره وثقته الفارغة بالنفس (وهى نفس كلمات يونج فى ختام مذكراته). هل كان يقصد الخروج من الحياة بقلبٍ سليم؟ وما القلب السليم؟ وصايا جوجول مغموسة بروحٍ مسيحية زاهدة لا تخطؤها العين، حيث أوصى الرجل ألا يُقام على قبره نصب، وشاهد قبره ينبغى أن يكون محاولة الأعزاء أن يقيم كل واحد فى نفسه إيمانه بحزمِه الذى لا يتزعزع فى الحياة، ألا يبكى أحد على وفاته. الوصية الأهم فى نظرى لجميع أبناء وطنه أنّ كل كاتب يجب أن يترك ورائه فكرة مفيدة كإرثٍ للقراء، كما يوصيهم بعدم التسرّع فى مدح أعماله بعد وفاته أو القدح فيها، مختتمًا الوصية الخامسة بإعلان أنه أحرق كل ما كان فى المخطوطات كما أسلفتُ. ما بقى من منُجز جوجول كانت الرسائل، لأن فيها شيئًا يصلح لجلب المنفعة للذين كُتبت إليهم، مؤملًا أن يكون فعله سببًا فى أن تنزاح من عليه المسؤولية الجسيمة عن لا جدوى كل ما كتبه سابقًا. متى يكون الإبداع الأدبى بلا جدوى؟ فى حالة جوجول هذه مسألة معقدة، محتاجة إلى المرور بالتجربة نفسها. 

وصف جوجول عمله  «قصة وداع» بأنه أفضل كنز له، حَمَله فى قلبه منذ فترة طويلة، وكعلامة على رحمة الله السماوية التى هبطت عليه. شخصيًا حزَّ فى قلبى كثيرًا أن أقرأ فى الهامش أن هذه القصة لم تصل إلينا ولم يُعرف مصيرها. أعظم أعمال جوجول فى نظره يُفقد. أيكون قـد أتلَفَه عمدًا؟ ترى ماذا كان مضمونُه؟ رسالة قصيرة لوداع طويل؟ 

فى موضوع/ رسالة أخرى يتكلم الرجل عن المرض بوصفه علاجًا، ويقول كم نحن بحاجة إلى الأمراض (لعله يقصد البلايا عمومًا)، فسوء حال الإنسان وشعوره بالضعف يتحول إلى حافز قوى لأن يعى مكانه، أن يعى حجمه على الأرض، أحيانًا يكون المرض دافعًا قويًا لمواصلة الحياة، وما حال نيتشه عنا ببعيد. تزامنت مع قراءة هذا العمل معاودة قراءة سيرة خالد الذكر د. محمد عناني، وكنت قد كتبتُ تجربتى معها قبل سنوات منذ أن وقعت فى أسرها أيام الجامعة، تكلّم الرجل عن تجربة المرض اللعين الذى أصابه، وشعوره بالألم النفسى بعد أن عربد مبضع الجرّاح فى وجهه على حد تعبيره، فتغيّرت نظرته إلى الحياة تغيرًا جذريًا، وآثر الابتعاد عن إهدار الوقت (أو من يُمكن أن نُطلق عليهم بلغة الإدارة non-productive manpower ) ليتفرغ إلى ما هو خير و أبقى، صحيح أنه كان ينشد السلوان فى الكتابة المسرحية والترجمة، لكنه كان يشعر بقيمة أسمى، قيمة أنه سيترك شيئًا ينفع ولو إنسانًا واحدًا، ربما لو طالَع القارئُ السطور الأخيرة من سيرته واحات العمر لوجد فيها أعزّ ما يُطلب. تغمده الله بسابغ رحمته. من بين ما أعجبنى فى رسائل جوجول كلامه فى الموضوع/الفصل السابع حول الأوديسة التى ترجمها كوكوفسكى ترجمة عذبة راقت لكاتبنا، فوصفها بأنها حدث رائع، فهى ليست ترجمة، حيث يقول نصًا: «بل إعادة تكوين واسترجاع وبعث لهوميروس، كما لو كانت ترجمة تلج بنا إلى الحياة القديمة أكثر من الأصل نفسه، وصار المترجم مفسرًا لهوميروس، وكأنه مرآة توضيحية».

مدَّ جوجول يـده بغير قصد إلى عش دبابير ما يزال يطنّ، فيرمى فيه كل غادٍ ورائح بحجر حول مدارس الترجمة وطرائقها. رؤية جوجول (البريئة) تدفعنا لأن نعجبَ ممن يدّعى أن دور المترجم مقصور على نقل النص فقط حتى لو أخرجَ للقاريء سطورًا شعثاء ركيكة (أو بتعبير أحد أساتذتى فى الجامعة مثل صينية الكنافة)، وكأن المترجم آلة كاتبة بِزمبلك، متى توقّفت لفّة الزمبلك توقّف المترجم. أعتقد أنك حين تنزل ضيفًا ببيت أحد فعليك مراعاة حُرمة بيته واحترام قوانين مملكته، وإلا فلتجلس فى البيت الأصلى (=النص الأصلي). ربما أحيلُ القارئ إلى ترجمة د. محمد عنانى لكتاب بناء الثقافات-كتابات فى الترجمة الأدبية الأدبية (هنداوى 2023)، حيث أورَد حكاية طريفة عن صمويل بيكيت الذى كان يترجم نصوصه بنفسه، ففى قصيدةٍ كتبَ بيكيت شطرة شعرية تحمل معنى بعينه فى الفرنسية، وترجمَ الشطرة نفسها فى الصفحة المقابلة بمعنى آخـر تمامًا فى الإنجليزية، وكأنها شطرة شعرية جديدة بمعنى جديد برغم أنها ترجمة (كما يدّعى)، كما لو كنا أمام صورتين للنص= الأصل، أو كأنما يريد أن يقول إن الأصل شىء والترجمة شىء آخر، quod erat demonstrandum. ذكاء جوجول فى فهم فلسفة الترجمة عندما قال إنه يمكن أن تكون الأوديسة بردائها الروسى الذى كساه إياها المترجم جوكوفسكى، تأثير كبير فى تقنية اللغة، فى إثراء اللغة الروسية. الترجمة كوسيلة لا كغاية.

فصول الكتاب متنوعة وخصبة، ربما يأخذ عليها القارئ النبرة الوعظية، المتوسلة بالحكمة ولا يرى فيها أدبًا (بحسب غاية الأدب فى دماغه)، نبرة ورعٍ يقترب من الموت ويرجو الصفح من الناس قبل أن يُردّ. سأعود إلى ثيمة حرق المخطوطات.كتب جوجول أنَّ حَرْق المجلد الثانى من الأنفس الميتة كان حاجة ملّحة. يقول الرسول بولس: «الذى تزرعه لا يُحيا إنْ لم يمت».من المؤكد أنّ الموت شرط البعث. وأن حرق المخطوط كان محاولةً لإحياء معناه فى صدره من جديد. هناك نصوص لو أحرِقت ولم تُنشر، ولو بقيت فى صدر كاتبها ولم تخرج لكُتِب لها عقد أزرق مسجّل فى سجلات الأبدية. 

وهو ما أكّدَ عليه جوجول: «بمجرد أن أخذت النيران آخر أوراق الكتاب، انبعثت فيَّ محتوياته فجأة من جديد بشكل جديد ومشرق مثل طائر الفينيق الذى ينبعث من النار، الشجن المؤقت والوحشة من الذات أفضل من الغطرسة، فى الأولى [يقصد حال نشر الكتاب] سيرى تفاهته. لا تحكم عليَّ. عملى هو الروح والفعل الراسخ فى الحياة. أحرِقْ عندما تستوجب الحالة الحرق». 

أعرف رجلًا كان يخشى كتابة كل شيء، لأنّ ما يكتبه كان يراه متحققًا أمام عينيه على أرض الواقع بعد سنوات. فخشى أن تتحول الكتابة إلى نقمة، وأن يرى الأشياء قبل أوان حدوثها، لا بأس أن تظلّ تدندن فى رأسه كإشارات لما هو آتٍ. هل تمرّ على الإنسان أوقات يرى فيها ما رآه جوجول، أعنى ضرورة تجاوز فعل الكتابة -على سعة آفاقه اللا نهائية- إلى رحابة أفعال معرفية أخرى تضاهى فعل الكتابة؟ فالمعرفة – فى تقديري- لا ترينا الأمور رؤية أوضح وحسب، بل تشيع السكينة فى النفس، وهو ذات التأثير المسكِّن - لو صحّ التعبير- الذى يمارسه الأدب. ولكن هل ثمة شيء يعوّض متعة فعل الكتابة (الإبداعية) أو تجعله يطرُق طرائق تعبيرية أخرى؟ ربما تكون الإجابة فى حالة جوجول: نعم. فى معرض الكتاب الماضى اشتريت دستة روايات، لم أقرأ منها سوى واحدة (رواية حب لدينو بوتزاتي، رواية جريئة وكتابة ممتازة)، لكن بمرور الوقت ينتابنى فتور غامض، متفاوت الشدّة ناحية الأدب، اللهم إلا أسماء بعينها، حتى كتابته بالشكل التقليدى لم تعد تثير اهتمامى كالسابق (زَرَعَ..حَصَدَ..كَتَبَ). أو بتعبير جوجول ثمة أشياء ضرورية للإنسان أكثر مما هو عليه فى كتاباتى.

 أفكّر أحيانًا ما الذى يدفع أربعينيًا لديه من هموم وانشغالات الحياة والعمل ما يكفى ويزيد إلى الانتقاء المفرط فى قراءة الأدب وكتابته (ما أفترض أنه أدب وكتابة). فى جعبتى أعمال فازت بجوائز بالداخل والخارج، وفى الأدراج كتاب يوميات وفصول من سيرة ذاتية، ومسودتان لروايتين، لا أفكر فى نشرها من الأساس، «ولا فارقة معايا بجنيه». 
ذهنى منصرف بقوة إلى التعرف على علم الصفات الإلهية فى الإسلام المبكّر، ترجمة مختارات من يوميات هنرى ف. أميل، تقديم روايات ووكر بيرسى إلى العربية (تعرفتُ عليه بفضل ترجمات بيتر هاندكه)، قراءة كتاب التوحيد للإمام الماتريدى على تعقيد أسلوبه والتعليق عليه، البراهين الخمسة للقديس توما الأكويني، دُرر توشيهيكو إيزوتسو غير المترجمة، ترجمة بحث لجرشوم شوليم عن القبالاه واسم الله الأعظم!! أسأل نفسي: «خير يا ابنى ما لك فى إيه؟ طالما كنت مشغولا بالأدب، بل لعلى لم أفعل شيئًا ولم أرَ شيئًا إلا فى صورة مقطع من رواية حتى فى أتفه مواقف الحياة اليومية. السؤال الأهم: ما الداعى؟ ويشاء القَدَر أن أقع على الفقرة التالية فى كتاب جوجول إذ يقول: «كل هذه الروايات الجديدة (بما فيها رواياتى) ليست مهمة جدًا لجعلها مادة للقراءة العامة، وإننا بحاجة إلى أن نتوجه إلى شعرائنا، وإلى تلك الأعمال الرفيعة التى أمعن الشعراء التفكير بشأنها طويلًا». هذه دعوة صريحة من جوجول للعودة إلى القديم، الكلاسيكى.

هل تحوّل جوجول إلى واعظ ومبشّر؟ مجرد رجل يلقّن النصائح؟ فى الموضوع السادس عشر يقول إنك عندما تعلّم الآخرين فإنك تعلم نفسك أيضًا. توجَّه إليه كثير من الناس طلبًا للمشورة والنصح، عندها فقط أدرك الرحم الماسّة بين نفوس البشر أجمعين. لم يكن الرجل أذكى من الآخرين ولا أشدّ حكمة. فى فقرة لافتة يقول: «عظيم هو الله الذى آتانا الحكمة؟ وبأى شيء آتانا الحكمة؟ بذلك الحزن نفسه الذى نهرب منه ونريد الاختباء منه؟ فمن خلال الحزن والمعاناة يتوجب علينا الحصول على مثقال ذرة من الحكمة التى لا نكتسبها عبر الكتب. ومن أوتى الحكمة فلا يحقّ له أن يكتمها. 

الحقيقة أنّه عندما كان ينصح أحدًا، كان يتوجّه بالنصيحة فى واقع الأمر إلى نفسه، حيث يقول:»توجّه فى النصيحة إلى ذاتكَ، وانصحها بالشيء نفسه الذى تنصح به الآخرين، ولُمْ نفسك باللوم الذى وجهتَه إلى الآخرين. صدّقنى كل شيء سيعود إليك». ربما يخلص المرء فى مرحلة من حياته إلى حقيقة أنّ كل ما يكتبه ويقدّمه ينبغى أن يكون موجهًا لغاية: أن تنفع نفسك أولًا وتحاول نفع الآخرين. فى العهد القديم: «وَعَرَضَ لَكَ النَّارَ وَالْمَاءَ؛ فَتَمُدُّ يَدَكَ إِلَى مَا شِئْتَ.» نعم، ليمدّ كل إنسان يده إلى ما يشاء. 

ربما يرى قارئ هيمنة التشاؤم على رؤية جوجول إلى الأدب والكتابة والحياة، فلا جدوى من الكتابة، ولا طائل من قراءة أعمال المُحدثين، ولا فائدة من كتابة الأدب برمته، بل الخير، كلّ الخير فى أن تنفع إنسانًا واحدًا بما تعمل. هل هذه نظرة أديب/فنان أم راهب أو مجذوب متدرّوش بلغة عصرنا؟ هذه نظرة قادمة من المستقبل. عندما حصل الشاعر الإنجليزى العظيم تى. إس. إليوت على جائزة نوبل اشتكى من أن التتويج بالجائزة يكتبُ نهاية حياته كشاعر. والمسكوت عنه فى كلامه كثير. 

أية نصّ أعظم من أن يكتب المرء مثلما كتب جوجول:»إنى لا أستطيع أن أقول لك نصيب  مَن على الأرض الأسمى، وقسمة مَن الأفضل. عجيبة هى رحمة الله التى حددت جزاءً متساويًا بكل من أدّى واجبه بصدق». معنى الحياة هى المسؤولية لو استعرنا فكرة فيكتور فرانكل فى اللوجوثيرابى. على المخطوطات أن تحترق أحيانًا للخروج بالقلب السليم.