علماء نفس واجتماع: الصوت العالى يعبر عن ضعف حجة صاحبه

قفزوا للمشهد مع بدء العدوان على غزة| «الحنجوريون».. مناضلون «أونطة»!

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ كتب: هانئ مباشر

«الطبل صوته عالي لأنه أجوف»، هذا المثل يلخِّص تصرفات وسلوكيات أصحاب الصوت العالى أو «الحنجوريين» الذين يستخدمون صوتهم المرتفع كسلاح لهم فى المواقف التى يكون فيها مواجهة بينهم وبين شخص أو أكثر يشعرون بأنه على حق وبأن موقفهم ضعيف. وهؤلاء يتصورون أن الصوت العالى يمكن أن يجعلهم يتغلبون على من يختلفون معهم أو خصومهم فى كافة المجالات عمومًا والمجال السياسي بشكل خاص، ويسببون لهم حالة من التشويش الفكرى، بالتالى لا يستطيع مواجهتهم والتغلب عليهم.

◄ مزايدات سياسية من أشخاص تجاوزهم المشهد السياسي

ولعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كان كاشفًا لهؤلاء «الحنجوريين» سواء فى الداخل أو الخارج، وأن كل ما يشغلهم ويعنيهم ليس القضية الفلسطينية وحلها، بقدر ما تشغلهم المزايدة على مصر ودورها.

ومنذ عدة سنوات ابتكر الكاتب الساخر الكبير محمود السعدني، مصطلحًا عبقريًا هو «الحنجورى»، وكان يقصد مجموعة السياسيين أو من يدّعون النضال، باستخدام وترديد شعارات لا يمكن أن تتحول إلى واقع على الأرض، مستخدمين «الصوت العالى» كوسيلة وسلاح لإرهاب من يخالفهم الرأى.

وعندما سُئل عن معنى الحنجوري، قال: «الحنجورى نسبة إلى الحنجرة، أى «الصوت»، وهو الشخص الذى لم يفلح فى أى شيء إلا الكلام والصوت العالى، وهو عديم الإمكانيات وليس لديه أية مواهب أو ملكات إلا الكلام، ويا ليته كلام مفيد، بينما هو كلام تافه مبنى على السفسطة و«الأونطة»، وعندما تجلس معه ستسمع منه آراء فى منتهى الغرابة، ومن وجهة نظره فإن لديه الحلول لكل المشاكل، وعندما تسأله عن خلفيته العلمية والعملية التى استطاع من خلالها استنتاج تلك الحلول والقرارات ستكتشف أنه «فارغ» تمامًا، ولا يمتلك أية خبرات أو مهارات، وسهل أوى تقيم عليه الغلط، ومع ذلك يظل يتكلم «كلام فاضى»، كما يحاول أن يتصدر الصورة، حب الظهور والشهرة بالنسبة له حياة أو موت، ومستعد لفعل أى شيء مقابل أن يظل ظاهرًا.

حتى لو انكشف على الملأ أنه كذاب، وقالت الناس عنه «بتاع زيطة»، لكن عندما يتحول الأمر لحقيقة يختفى، أو بالمعنى الشعبى عندما تبدأ الخناقة و»الضرب يشتغل» تلاقيه أول واحد جرى!

◄ اقرأ أيضًا | مندوب فلسطين بالجامعة العربية: أحياء بأكملها تدمرت جراء العدوان الإسرائيلي

◄ نقص وعجز
الدكتور سري ناصر، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية» يرى أن «الصوت العالى» تعبير انفعالي يلجأ إليه صاحبه للتغطية على نقص وعجز عن الدفاع عن نفسه بشكل طبيعى. بل وبعيدا عن السياسة فإن كثيرا من المشاكل التى تنشب بين الناس سببها ارتفاع صوت أحدهم، ما يثير الآخر ويجعله يسعى لرد اعتباره، فتتداخل الصرخات والأصوات المرتفعة بما يؤجج الصراع بين الطرفين بشكل يتحول لأزمة كبيرة.

وهذه الظاهرة السلوكية تسبب عند الكثيرين حالة من التوتر خاصة أن هناك أشخاصا لا يستطيعون التعامل مع أصحاب الصوت العالى، ولذا يفضلون الصمت أو مغادرة المكان وإنهاء الحديث. ويعتقد البعض أن ارتفاع الصوت أو «الزعيق» مصدر قوة وأن الشخص يستطيع أن يحصل على حقه كلما علا صوته أكثر، رغم أن الصوت العالى فى معظم الأحيان لا يوصل الفكرة التى يريدها الشخص للطرف الثانى بحيث تضيع الفكرة بين موجات صوته المرتفع ويصبح الجو العام مشحونا بالتوتر وبدلا من أن تُحل المشكلة تزداد تعقيدًا.

فيما يقول الدكتور فتحي الشرقاوي، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس: المدقق فى التداعيات التى صاحبت الأزمة الحالية فى غزة من هجوم إسرائيلى بربرى كاسح، وبعيدًا عن الخوض فى الجانب العسكرى لتلك الأزمة، يجد نفسه إزاء عدة شواهد، لابد من إخضاعها للتحليل، فى مقدمتها ما تعج به وسائل التواصل الاجتماعى من تفاعلات ومنشورات، تعكس فى جانب كبير منها المزاج العام للرأى العام تجاه الحدث، فقد ظهر العديد من الرسائل المكتوبة والمتلفزة، التى يغلب عليها الطابع الحماسى «الحنجورى»، الذى يبتعد تماما عن أى ميل لإعمال العقل، نذكر منها ما تعرضت له مدينتا طابا ونويبع، من بعض الهجمات بواسطة طائرات مسيرة، إذ سرعان ما وجدنا الكثير من الشخصيات الحنجورية مدمنة الخطابة والكلام دون إعمال للعقل، تطالب القيادة المصرية بضرورة الرد العسكرى السريع على الجانب الإسرائيلى، وبعيدا عن الأجندات الخفية التى تحرك بعض هذه الأصوات الحنجورية، نجد الكثير من الأفراد ينتهجون نفس المسلك.

هنا يظهر لنا سؤال مهم: ما طبيعة الشخصية الحنجورية.. هى بمنتهى البساطة شخصية يغلب عليها الجانب الانفعالى الوجدانى، دون القدرة على التفكير وتوقع حدوث الأشياء وردود الفعل المتوفرة والمندفعة، ولا شك أن هذه الصفة السلبية، قد يرتبط بها وظيفيا وعضويا عدم القدرة على التفعيل واتخاذ مواقف تتسم بالإجرائية، فأهم ما تتسم به تلك الشخصية هو «الانفعال اللفظى» فقط، وهى أيضا شخصية مسطحة معرفيا، ولا تمتلك أى قدر من المعلومات الصحيحة، التى تمكنها من تفعيل الاستنتاج والاستدلال والتفسير، مما يجعل معظم استجاباتها مندفعة.

ونظرا لأن هذه الشخصية الحنجورية تتسم بالمرونة اللفظية المرتفعة، فهى قادرة على التأثير فى غيرها ممن يتصفون بسماتها وأغلبهم من متوسطى التعليم والثقافة، وهم بالقطع كُثر. والحقيقة أن انتشار مثل هذه النوعية، لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة لعدة أسباب يتصدرها اختلال لغة الخطاب الإعلامى، حيث يجد الفرد أن روافد الإعلام تنتهج نفس المنحى، من حيث كثرة الكلام والتحويلات غير المصحوبة بالأفعال.

◄ النضال الحنجوري
فيما يقول الدكتور صفي الدين خربوش، أستاذ العلوم السياسية: إننا على مدار أكثر من خمسة وسبعين عاما ومنذ نكبة 1948 ونحن مبتلون بظاهرة النضال الحنجورى، حيث يتبارى الكثيرون فى الصراخ واستخدام الصوت المرتفع والحديث عن النضال من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وأصحاب هذه التصريحات العنترية يعتقدون أنهم يمتلكون حق وصم الآخرين ممن لا يشاطرونهم وجهات نظرهم الواهية بصفات مثل الخيانة والعمالة وبيع القضية الفلسطينية.

◄ ظاهرة المزايدة
ولا يزال الفلسطينيون الصامدون فى غزة والضفة يدفعون ثمن دعاة النضال الحنجورى، نضالهم الوهمى وصل إلى المزايدة فى كل مرة على دور مصر التاريخى وما تحملته من تبعات هذا الدور، ويبدو أن أصحاب النضال الحنجورى يجدون أكثر من غيرهم فى معاناة الفلسطينيين المزيد من الزخم والفرص للتواجد فى المشهد، فتتم العودة إلى الحديث عن النضال الباسل «الوهمى» من على صفحات الجرائد وشاشات القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعى مع تصويب السهام ذات الأغراض الخبيثة تجاه مصر، فى الوقت الذى تبذل القاهرة، كما كان دأبها على الدوام، جميع الجهود الممكنة لحقن دماء الأطفال والنساء والشيوخ فى قطاع غزة، انطلاقا من مسئوليتها واقتناعها بواجبها تجاه سكان القطاع وفى إنقاذهم، وليس المتاجرة بدمائهم، ودون أن تلتفت للصغائر، ودون أن تنتظر المقابل، على النقيض ممن يدعون بطولات زائفة، أو يصطنعون زعامة وهمية.

أما الدكتور محمود السعيد، أستاذ العلوم السياسية، نائب رئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا والبحوث، فيقول: إن ظاهرة «المزايدة» أصابت بعض المجتمعات بصورة كبيرة خلال العقد الأخير، ولم تسلم مصر من هذه الظاهرة خصوصا بعد عام 2011 وما تلاه من تغيّرات أثرت فى شخصية المواطن المصرى الذى أصبح بحاجة ماسة إلى جهود متضافرة لإعادة بناء شخصيته.

وخلال السنوات الأخيرة كانت هناك «مزايدات سياسية» من قبل بعض الأشخاص الذين تجاوزهم المشهد السياسى، بعد أن لفظهم الشارع المصرى عام 2013، لذا كانت محاولاتهم لاستعادة بعض وهج الحضور من خلال إثارة الجماهير، خصوصا عبر وسائل التواصل الاجتماعى فى كثير من القضايا والأحداث، وعلى سبيل المثال يقفون ضد أعباء عملية الإصلاح الاقتصادى مستغلين فى ذلك الظروف الاقتصادية التى تواجه مصر والعالم أجمع بسبب جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية وما أدت إليه من تضخم فى أسعار الغذاء والطاقة بشكل غير مسبوق، ثم الأحداث الحالية فى غزة.. إلى آخر مثل هذه الأحداث.

وغالبا ما تأتى المزايدات السياسية فى صورة فتاوى تكفيرية تُكرِّس للانقسام فى المجتمع، وتأليبه على السلطة لإحداث عدم استقرار سياسى ومجتمعى، ومصر اكتوت من هذه المزايدات خصوصا فى السنوات العشر الأخيرة، لكنها لا تقتصر على مصر فقط بل تكاد تكون ظاهرة فى منطقتنا العربية. ويجب علينا كمجتمعات مسلمة أن نتصدى لهذه المزايدات سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية بل وتلك التى تأتى مستترة خلف الدين وتوظفه فى الصراعات السياسية.