فهد العتيق يكتب| اللغة الصافية والحكايات الممتعة فى «شرق النخيل»

بهاء طاهر
بهاء طاهر

«نعم يا فريدة لو أنا نموت معاً. لو أن الناس كالزرع ينبتون معاً ويُحصدون معاً فلا يحزن أحد على أحد ولا يبكى أحد على من يحب. لو يُحصد زرع البشر الذى ينبت معاً كله فى وقت واحد، ثم يأتى نبت جديد يخضر ويكبر، لا يذكر شيئاً عما سبقه ولا يفكر فيما سيجىء، فكيف تكون الدنيا لو تحقق حلمك يا فريدة».
فى مثل هذه المشاهد وهذه اللحظات السردية بمشاعرها العميقة، من رواية «شرق النخيل»، تشعر أن هذا النائم الحالم هو أنت وليس أحدًا سواك، جو من القلق والحلم والحزن القاتم، تشعر بهذا القلق يتصاعد بمتعة مع مواصلة القراءة فى صفحات رواية فذة فى تكثيفها وفى لغتها السلسة والواضحة وقدراتها التصويرية وفى عمق مشاعرها التى تكاد تطبق على الأنفاس، مشاهد أشبه بتخييل ذاتى جماعى قالت فى صفحات قليلة وبلغة موجزة ومكثفة. 
وهذه الرواية، «شرق النخيل»، لها علاقة برؤيتى فى البداية لفن الكتابة، كانت أول عمل أدبى أقرأه له وأستمتع به وشعرت معه برغبة فى الكتابة بهذه اللغة الواضحة والصافية والهادئة والقوية والعذبة فى آن واحد.كنت فى زيارة للقاهرة صيف 1986، سكنت فى فندق صغير قريب من ميدان طلعت حرب، يقع شرق مكتبة مدبولى وقريب من مكتب جريدة «الرياض» بالقاهرة التى كنت أعمل بها فى تلك الفترة. خصصت الأيام الخمسة الأولى لمكتبات وسط البلد القريبة منى.زرت المكتبات من منتصف النهار حتى المغرب، حصلت على عدد كبير من الكتب العربية والمترجمة، أتذكر كان من بينها كتب منوعة فى القصة والرواية والنقد والشعر لبهاء طاهر وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى ومحمد زفزاف وصنع الله إبراهيم وعبد الرحمن منيف ويحيى حقى وسعدى يوسف وأمل دنقل وكتب نقدية وفكرية لفاروق عبد القادر ومحمد عابد الجابرى وجورج طرابيشى وكتب مترجمة لأرنست همنجواى وكافكا و«الغريب» للفرنسى ألبير كامو وكتب تشيكوف بأغلفتها الخضراء. أغلب الكتاب العرب المعروفين فى ذلك الوقت كنت قد قرأت لهم نصوص متفرقة فى مجلة «إبداع»، وبعضهم حصلت على كتبهم من مكتبة دار «العلوم» التى تقع فى عمارة «العقارية» فى شارع الستين شمال شرق الرياض.وكنت قد قرأت فى تلك السنوات المبكرة من القراءة كتابات وقصص بعض الكتاب والكاتبات مثل نجيب محفوظ وعبد العزيز مشرى وجار الله الحميد ومحمد الثبيتى وشريفة الشملان وليلى العثمان.
فى ليلة كنت متعبا من مشاوير طويلة فى القاهرة ارتحت على السرير وسحبت كتابا من أكوام كتب كانت تقع بين السرير وكنبة الجلوس.«شرق النخيل» لبهاء طاهر. وبدأت القراءة لأكتشف بهدوء عذوبة هذه اللغة الممتعة، اكتشاف أدبى جديد ومفرح. وربماصارت بالنسبة لى محطة انطلاق لكتابة أدبية نوعية، فى تلك الفترة كتبت نصوصا فى المنطقة الوسطى بين القصة والقصيدة بلغة تبحث عن ذاتها، ربما لأنه فى ذلك الوقت لا صوت يعلو على صوت الشعر الصاخب والنبرة العالية فى عالمنا العربى، فى حين وجدت فى لغة بهاء طاهر نموذج اللغة الذى أحبه، لغة الوضوح والهدوء والسكون والصفاء والعمق والقوة والبساطة، وجدتها مع بطل «شرق النخيل»:
«وحين تركتنى بعد الكوبرى لبيتها فى الروضة سرت فى الشوارع فرحا ومنفعلا. أقول لنفسى: أخيرا أصبحت لى صديقة. أخيرا لى صديقة فى مصر. وأسترجع حديثها وتخطر على بالى إجابات ظريفة كان يمكن أن تجعلها تضحك وتجدنى ذكيا ولكن بعد فوات الأوان. وأغضب من نفسى لأنى كنت غبيا وأقول: لن تكلمنى بعد ذلك».
بعد قراءة هذه الرواية عدت لمكتبات القاهرة وأخذت بقية أعماله مثل «قالت ضحى» و«الخطوبة» و«بالأمس حلمت بك» وخالتى صفية والدير.كان الحوار فى الخطوبة مؤثرا ومبدعا. أحببت هذه النوعية من الكتابة التى ترى فيها الحكاية أمامك مثل مشهد سينمائى،كانت المشاعر الإنسانية العميقة والصامتة واضحة عالية، مشاعر فى مشهد ليلى مظلم وصامت فيه حوار خافت وخائف. درست لغة أعمال بهاء طاهر الأدبية مع رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان و«الغريب» لألبير كامو، وجدت فى لغة هؤلاء الكتاب ضالتى فى بداية علاقتى الجادة مع فن القراءة وفن الكتابة. وبعد تلك القراءات النوعية شعرت أنى على عتبة مرحلة أدبية جديدة فكانت فكرة قصة «شروق البيت». ربما هذه القصة يمكن اعتبارها أول قصة بما تحمله معنى كلمة قصة أدبية صافية وواضحة وساكنة حاولت أن تكون بلا مبالغات أو تكلف فى اللغة أو الموضوع. ومع هذه القصة كتبت متتالية قصصية فى فترة واحدة تضمنت قصص «إذعان صغير» و«حصة رسم» و«عمود التراب» و«نسيان» و«تعارف» و«خوف»، وكانت تحمل وحدة موضوع فى أجواء فنية وموضوعية شكلت كتابى القصصى «إذعان صغير» الذى نشرته مختارات «فصول» بالقاهرة عام 1992، وكنت قد نشرت أغلب نصوص هذا الكتاب فى صحف ومجلات مثل «اليوم» و«الرياض» و«اليمامة» و«الوطن» الكويتية و«إبداع» المصرية. 
صدر للكاتب الكبير الراحل بهاء طاهر حوالى عشرة كتب فقط فى القصة والرواية، كتب أدبية نوعية رفيعة الأدب والفن والقيمة والمعنى. فى قصصه ورواياته اقترب من قضايا وهموم وأسئلة الناس بلغة هادئة بعيدة عن تكلف الشعارات والصراخ بالقضايا. رواياته متميزة برؤيتها ومواقفها القوية وفى جمالياتها وأساليبها التى جعلت له صوت وأسم أدبى عربى خاص. يتضح فى رؤيته الأدبية إيمانه بدور الثقافة والأدب والفن فى التنوير، رسالة عالية الفن وملتزمة بقضايا وأسئلة وهموم الناس. وبهاء طاهر على المستوى الفنى لا يفرق بين جنسى القصة ورواية بشكل صارم. يقول فى حوار معه: «بدأت كتابة «خالتى صفية والدير» على أنها قصة قصيرة ثم انتهيت منها وهى رواية، العمل الأدبى كائن حى لا سيطرة للكاتب عليه. قد أبدأ بكتابة رواية وأنتهى بقصة أو العكس.. كان كل تفكيرى أن أكتب قصة قصيرة عن القس بشاى. ولكنى وجدت الأحداث تفرض نفسها علىَّ أثناء الكتابة. أنا أترك الشخصية تتصرف كما يمكن أن تتصرف فى الحياة. فإذا كانت هذه الشخصية متمردة مثل صفية فسوف تأخذ الرواية إلى مصلحتها، وهو ما حدث». ويؤكد أيضاً فى حوار آخر معه أن علامة الجودة هى معياره. لهذا هو مقل فى أعماله: «صحيح أنى مقل فى أعمالى ولكنى لست قلقا لعدة أسباب أولها أن القلة والكثرة ليسا معيارا عدديا. وهناك مثالان فى غاية الوضوح. ديوان شعر المتنبى.. يعتبر أعظم ديوان شعر عربى، أثر على الناس فى عصره وبعد عصره. وديوان المتنبى هو أصغر الدواوين مقارنة بمعاصريه. ومثال آخر، ألبير كامو، والحاصل على جائزة نوبل فله نحو ستة أعمال إبداعية فقط».